الفصل السادس عشر

إيضاح مسألة الأقوى والأضعف وإننا نفعل فعل الحيوان

فلما أن سمعت منهُ ذلك امتعضت أشد الامتعاض، وقلت: والله لأدافعنَّ، وأقاومنَّ، ولا أدعه يعيِّرني بجنسي وإخواني، لقد سبَّنا سبًّا فاحشًا، وسوف ينشر في مجلاتهم وجرائدهم، وأكون أنا سببًا في سبِّ هذا النوع الإنساني، واسوءتاه! ويا للعار! ويا للشنار! فقلت: كيف تقول إن الحيوان أرقى منا، ونحن نقرأ الحكمة، ونعرف الفضيلة، ونحكم بالعقل، ونقول الصدق، وفينا أشرف الحكماء، وأفاضل العلماء، والصالحون، والأدباء، والشعراء؟

فقال وهو يتبسم: انظر، فرفعت رأسي، إذا مَقْمَعَة من حديد مكسوة حريرًا أبيض. فقلت: ما هذا؟ فقال: هذه آدابكم، وأخلاقكم وحسن معاشرتكم، إنكم ظالمون، لكنكم تدهنون، إذ يضرب بعضكم بعضًا بمقامع من حديد بمكر وخداع، وكذب وزور، فتناولونهم المر مغلفًا بالحلاوة، ويشربون العلقم في صورة العسل، وتسطو الأمة القوية على الضعيفة فتظلمها، وتسومها سوء العذاب، وهي تتظاهر لها بالمحبة والإخلاص، ففعلها مثال المقمعة، وقولها مثال الحرير الكاسي لها، وباطنكم الظلم وظاهركم العدل.

فما أسوأ أخلاقكم، أَلَا إن الآساد لأشرف منكم، فإن ظاهرها باطنها، وباطنها ظاهرها، دأبها الصدق، ودأبكم النفاق، فأخلاقكم فاسدة دنيئة ثعلبية، فليتكم لم تكونوا، وما أقبح سياستكم، وأشنع ظلمكم، إن الإنسان لظلوم كفار.

ثم قال: فائتني بغير هذا إن كنت من الصادقين. فقلت: إن طبيعتنا لا تتجاوز الناموس الأرضي، وكله إهلاك وتدمير، والأقوى يأكل الأضعف، فإذا سرنا على سننا المعهود فلا جناح علينا، ولا إثم، ولا تثريب، ألا ترى أن العصافير والقنابر والخطاطيف وغيرها تأكل الجراد والنحل والذباب والبق وما شاكله، ثم إن البواشق والشواهين وما شاكلها تصطاد العصافير والقنابر وتأكلها، ثم إن البُزَاة والصقور والعُقْبان تصطادها وتأكلها، ثم إذا ماتت أكلها صغارها من النمل والذباب والديدان، وهكذا سيرتنا، فإننا نأكل لحم الجدي والحُمْلان والغنم والبقر والطير وغيرها، ثم إذا متنا أكلنا الدود في قبورنا والنمل والذباب وغيره، فيأكل صغار الحيوان كبارها، ويأكل كبارها صغارها، فعالمنا الذي عشنا فيه مسوق بطبعه إلى التغلب والافتراس، وأن يأكل بعضه بعضًا، ويرجع آخره إلى أوله، وأوله إلى آخره.

عند ذلك رأيت حملة الأقلام والكتاب ومكاتبي الجرائد جميعًا ينظرون إلي شَزرًا، وقامت ضجة بالمكان وتكلموا بلغة أجهلها، فسألت صديقي أن يترجمه فأحجم وقال: إنهم لا يعجبهم هذا القول، وقد عدُّوه رأيًا ضعيفًا، أساسه الوهم، وعماده الخيال، وسقفه الجشع والطمع وجهل الحكمة. فقال: أظن هذه أكبر حججكم، وأقوى أدلتكم، ولذلك كررتها وأعدتها، فافهمها حتى تعلم حقيقتها، ولا تحتج بها مرة أخرى.

إن ما ذكرته من أكل العصفور الجراد، وأكل الباشق العصفور، وأكل العُقاب الباشق، ثم أكل الدود والنمل الباشق، وأكل العصفور الدود إنما ذلك تكوين لدائرة من دوائر وجودكم، فإنك تراه هكذا، دود عصفور باشق عُقاب دود، وهكذا يرجع آخرها لأولها، وأولها لآخرها. إن هذا نظام طبيعي، وحكمة عجيبة، وجمال في النظام، كما دارت السنة فصارت ربيعًا وصيفًا وخريفًا وشتاء، وكما تخلقون من ضعف، ثم يكون بعد ضعفكم قوة، ثم يكون بعد قوتكم ضعف، فترجع آخرتكم إلى أولاكم، وكما يتكون النبات من العناصر ويزهر ويثمر، ويعود مفرقًا إليها ثانيًا، وكما يغتذي النبات بالعناصر، والحيوان بالنبات، والإنسان بالحيوان، ويرجع الحيوان إلى التراب كَرَّة أخرى، وهكذا رأى فلاسفة الأمة الإسلامية.

ولقد استنتج أبيقور اليوناني، وتبعه داروين الإنجليزي أن الأضعف طُعمة للأشرف الأكمل، وقاسوا نظام الإنسان على هذا الحيوان، ووضعوا الأمم الضعيفة والصغيرة في مرتبة الدودة، والأمم القوية في مرتبة العصفورة، والتي هي أشد قوة في مرتبة الباشق، ثم في مرتبة الصقور، ونظما على ذلك نظريتهما، فرجعا بالإنسان إلى مرتبة دنيئة، تأباها الفطرة، ويدحضها العقل.

ألا إنكم يا بني آدم نوع واحد لا أنواع، ولكم ناموس وقانون خاص لا تتعدونه، فأنتم كجسم واحد ونفس واحدة، ألا ترى أن شاعر الشرقيين يحبه الغربيون، وعالم الغربيين يحبه الشرقيون، فهل وصل الحيوان هذه المزية من العطف والحب في نوع واحد فضلًا عن الأنواع؟ وهل يظن أن نمل الشرق يعلم ما تكنه صدور نمل الغرب؟ أفليس جنسكم أشد عطفًا وأغزر حبًّا؟ أليس البخار والكهرباء والتلغراف الذي لا سلك له الساري بريده بالأثير أول سُلَّم من التعارف والمحبة؟ أيعقل مثل ذلك الحيوان كالنمل والنحل؟ أفليس الشرقي أضحى يكلم الغربي وكل في داره؟ وسيأتي يوم يسمع الغربي غناء الشرقي، والشرقي غناء الغربي في وقت واحد، فهل تريد برهانًا بعد هذا على أنكم أشد قربًا، وأكثر عطفًا، بفطركم بعضكم لبعض من نوع واحد من الحيوان، فضلًا عن الأصناف، فإذا رأيت الحمامة تحب الحمامة، وإن اختلف المكان وتغاير اللون، وهما لا تستطيعان فَهمًا كما تفهمون، ولا عقلًا كما تعقلون، أفلستم أنتم أحق بالاقتراب، وأولى بالتحاب، ولا يعوقكم دين ولا لغة ولا وطن؟

أوَلا تعلمون أنكم كجسم واحد، وكل امرئ منكم كشريان، وكل أمة كعضو من أعضائه؟ فكما أن العين لو نطقت لقالت: إني أحب الرِّجل، والرِّجل لو نطقت لقالت: إني أحرص على حياة العين، وكلاهما تقول: إنا خادمان للمعدة والفم واللسان، والحلقوم والكبد والقلب والأمعاء الدقاق والغلاظ، لو نطقت كل واحدة لقالت: إنا خادمات طائعات محبات لمجموع الجسم، وما منا إلَّا له مقام معلوم، فهكذا فلتكن أممكم وأفرادكم، ولتعلموهم في مدارسكم الحب.

فقلت: وكيف يكون ذلك؟ فقال: سنريكه في مدارسنا الابتدائية، فأما أكل الحيوان بعضه بعضًا كما ترى في الدائرة الفائتة التي لم يفلت منها إنسان فذلك نظام طبيعي، ولو أن السباع حرم عليها أن تأكل لحوم آكلات الحشائش، وطُرد الدود، فلم يتعاطَ لحم الإنسان والحيوان في ذلك النظام الجثماني لبادَ الإنسان والحيوان في يوم أو بعض يوم، لما يداخله من الميكروب العائش في المواد العفنة الجسمية. فأكل تلك الرمم الميتة رحمة ونعمة عليكم، وتلك السباع والديدان جاءت مطهرات، كأنها أطباء أرضكم، بل هي أفضل من الأطباء عملًا، وأعظم نفعًا.

ألا ترى أن الديدان والذباب والبق والخنافس تقلُّ في دكان البزَّاز والحدَّاد والنجَّار، وتكثر في دكان القصَّاب والسَّمَّان واللبَّان والدبَّاس، أو في السَّماد والسِّرْقِين، فإذا امتصت تلك العفونات واغتذت بها صفا الجو، وطاب الهواء، وسلم من الوباء، ثم تكون تلك الحيوانات أغذية لما هو أكبر منها.

وهكذا تقاس حياة التنين في البحر والسباع والكواسج والتماسيح؛ فسباع البر وتمساح البحر، وعُقاب الجو، كل تلك مصلحة الجو والأرض والبحر بما تأكل من الرمم الخامدة، والجثث الهامدة، فأما افتراسها للأحياء مما هو أضعف منها بطشًا وأقلها حيلة فذلك ضر قليل محتمل في جانب المنافع الكثيرة، والفوائد الغزيرة.

على أن آكلات الحشائش كثيرة الذرية تملأ الآفاق، وما يؤكل حيًّا منها قليل جدًّا، ويعتبر ذلك تقليلًا لازدحامها في الصحاري والقفار. فقلت: إن الذئاب تأكل الذئب المريض إذا أيست من حياته، وعلمت بدنو مماته، فما منع الأمة القوية من الأمم البشرية أن تسطو على الضعيفة فتبتلعها، وتدير شأنها إذا أيست من صلاحها كما فعلت الذئاب في أخيهن المريض، وما منع الإنسان القوي أن يقتل الضعيف ليريحه من ألم الحياة، كما فعل الذؤبان؟ فقال: وهلا انتهجتم سبيلًا أشرف، ونهجتم نهج النمل في عملها، فإنها إذا مرضت إحداهن أخذن يداوينها بالعقاقير ويعالجنها بما تصل يد استطاعتهن، ويغذينها أحسن الغذاء.

أفتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير، وتستنزلون من ذروة الفضيلة إلى وَهْدة الرذيلة، وكيف تقلدون الذئاب الظالمة وتدعون النمل الرحيمة، على أنكم أفضل من الحيوانين، وأعلى من النوعين، فلتكونوا أكثر منهما عطفًا، وأرق لطفًا، وأعلى كعبًا، وأجلَّ وأبقى.

فقلت له: إن بقاء الأنفع والأصلح في الدنيا قضية اتفق عليها الشرقي والغربي. قال: فهل الأنفع والأصلح أن تقتل الأمة الكبيرة الصغيرة، ويلتهم القوي الضعيف؟ أهكذا فهِم حكماؤكم؟ قلت: نعم. قال: كلا، الأنفع للوجود الإنساني أن تخص كل أمة وطائفة وفرد بما خلق له، ويسير على ما تقتضيه فطرته بإرشاد العقل والحكمة والفضيلة، كما ترى أعضاء الجسد الواحد، وهل ترى افتراس الأسد للإنسان أنفع للوجود، وإهلاك الميكروب القاتل للإنسان خيرًا وأبقى من إبقائه حيًّا؟

أنتم ذوو قوى ثلاث، شهوة غذائية كالنبات، وقوة غضبية كالآساد، وقوة عقلية، وهي كمال الإنسانية، وكل قوة أشرف مما قبلها، وأحط مما بعدها، فإذا سلطتم قوة العقل على القوتين، وجعلتم إنسانكم سائرًا على سنته، وأخضعتم الشهوات والجشع والطمع والغضب وما نتج عنها من الحديد والبارود، والقتال والجنود، فإنكم تكونون قومًا فاضلين، وتكون أرضكم كلها فاضلة، فأما أنتم اليوم فإنكم آساد متكبرون، وجهال متكلفون.

هب أن الفضيلة في الإبادة، وأن الأقوى من الإنسان أولى بالوجود من سواه، فما بالكم تصطفون أقوى الرجال للهلاك، من الجنود المدربين، والقواد الماهرين؟ لقد أخطأتم والله المرمى، وكيف تقتلون القواد، وتعزلون الأمراء، من الأمم التي تقاتلونها، وتخلفونهم على أممهم؟ فهلا عشتم بسلام، وراقبتم الحكمة الناموسية، فإنها سترسل على الأرض جنودها، وتستهلك بالوباء والأمراض ما لا يصلح للوجود، فأما أنتم فإن نظامكم قضى بقتل الأقوياء في القتال، وبقاء الضعفاء مع ربَّات الحِجَال، فما أجهل الإنسان! ألم تروا الحيوان! أما قرأتم صحيفة الأكوان!

جهلتم والله أقبح جهل، ساء مثلًا ما كنتم تفعلون، لكل أمة من أمم النمل وأمم النحل وأمم كلاب البحر وأمم الغربان وغيرها قواد وأمراء من أنفسهن، ولم يدَع الناموس العام هذه الأمم بلا رئيس يقوم عليها، وحافظ يتولى شئونها، الوجود محكم، وما ظالم إلَّا الآدميون.

يدَّعي الأغبياء منكم أن أمة كذا لا تصلح لحكم نفسها، وقد شاهدوا النحل والزنابير في الخرابات التي خربوها قائمة بنظام جمهوري.

فقلت له: إن الحكمة التي ألهمت النحل والنمل أن تعيش جماعات، هي التي أوحت إلى عقلاء الأمم فساقتهم إلى احتلال بلاد الضعفاء. فقال: أُفٍّ لكم! وكان الإنسان أكثر شيء جدلًا، أنتم عكستم القضية، إن الحياة بين الإنسان خاصة مشتركة فوق سطح الكرة الأرضية، فوجب أن تتحاب الأمم الشرقية والغربية ويكون لهم ناموس عام وقانون واحد وصحبة عامة، ذلك هو الذي أوجبته الحكمة، ولو احتاج نوع من الحيوان لذلك النظام، ما تأخرت جماعاتها عن الاتحاد في مشارق الأرض ومغاربها، ولكنكم اليوم حُرمتم نعمة حياة الحيوان، ولم ترتقوا إلى غرفات سعادة الإنسان، فأنتم كالمتدين الذي خرج عن التقليد، وحُرم فضيلة الحكمة، فأضحى حائرًا، فلا هو من العامة المقلدين، ولا هو من الحكماء المحققين، فهكذا أنتم اليوم، فلا بقيتم مع الحيوان في راحة، ولا ارتقيتم إلى مراتب الإنسان وسعادته، فأنتم اليوم عن المعالي مبعدون، وفي عذاب جهنم الخزي والعداوة جاثمون، صم، بكم، عمي فهم لا يتقدمون ولا يرجعون.

حياة العصفور بجسم الجرادة، وجسم العصفور حياة الباشق، وليس في قتل الإنسان حياتك، أنت تحيا بصناعة وتجارة وعلم وحكمة، وما من أمة من أمم الإنسان إلَّا وهي متعلمة عما قبلها معلمة لما بعدها، فإذا أكل الحيوان جسم الحيوان، فللإنسان بعد موت أخيه أن يرث علمه وحكمته، ويقرأ قضايا التشريح في داخل جسمه، فللإنسان عن أخيه المائت حكمته وعلمه، وللحيوان جسمه.

وما مثل الأمة الفاتكة بغيرها إلَّا كمثل رجل يملك ثورًا به يحرث الأرض، ويسقي الزرع، فأغراه طمعه، ودفعه جشعه، وأوحى إليه جهله، أن يعجل بالفائدة المرغوبة جزافًا دفعة واحدة، فذبحه وأكله هو وأولاده، ففرح يومين، وحزن عامين.

إن أممكم اليوم قصيرو النظر، لا يعلمون العواقب، وإني ما رأيت جنسًا في العالم الكوكبي أسوأ سيرة منكم، ولا أقل فضيلة، لا تنظرون للعواقب، ولا تدخرون الأخ للنوائب، وذلك لنقص تعليمكم في المدارس، وتحريفكم كلم النواميس الطبيعية عن مواضعها، ومغادرتكم فطرتكم العالية، وانخفاضكم إلى أسفل الدركات وأدنى الدرجات، ألا ساء مثلًا الإنسان الأرضي، ألا إنهم هم الغافلون.

أوَلا تعلمون أن الإنسان كلما كثرت أفراده زادت ثمراته، على نسبة الأعداد المضاعفة التصاعدية المسماة «المتوالية الهندسية المتصاعدة». فكلما زاد العدد كثر المدد، وبتكاثر الأمم تتكاثر الخيرات، ولو أن أمة أبادت أمة أو أوقفت علمها وأضعفت حركتها فإنها تقطع من جسم الإنسانية العام شريانًا نابضًا، أو عضوًا عاملًا، فتبطئ الإنسانية قرونًا، حتى تلد لكم بدلها فتعيشون ناقصين، فربما نشأ فيها من العقول والآراء والصناعات ما تعم بركاته الكرة كلها.

ومن عجب أن أممكم لا يدركون بعقولهم أن اهتضام أمة منهم لأمة أخرى نقص لمجموعهم، وقلة في ثمراتهم وسوء في أخلاقهم، وقدوة لشبانهم، وحزن لشيوخهم، وعقلائهم وحكمائهم.

فإذا سطا الحيوان على الحيوان فأكله فقد علمت حكمته ونظامه، ولا ترى حيوانًا آخر يساعده، إذ لا حكمة في ذلك، ولا نظام يقتضيه، والإنسان يرى أخاه واقعًا في التهلكة، فلا يعينه إلَّا لشهوة يملؤها أو جوعة يسدها.

من عجب أن الغربان تساعد الغربان، فإذا آذيت خلية نحل قاومك النحل فآذاك، وهكذا الزنابير، وحيوان القيطس يفتك بمن يقتل إحداها.

ولقد علمت أن نوع الإنسان نعمة على بعضه كجسم واحد، فكان الأجدر به أن تحرص كل أمة على أختها ليظهر فضلها، ويعز شرفها، فقد وضح البرهان، وتجلى الحق، وسطع نور الهدى، وقام الدليل على أن بعضهم ظهير لبعض، فهم على سطح الكرة كوارة واحدة وقرية نمل واحدة لشدة حاجة بعضهم إلى بعض، فهلا منعت الأمم بعضها عن بعض بلا نظر إلى دين أو لغة.

ولئن اتحدت طائفة من أممكم على إصلاح جزيرة كريت لما بينهن من صلة لدين، فلماذا لم يتحدوا على إصلاح نوع الإنسان، وكلهم رجل واحد، وما أرضكم إلَّا جزيرة صغيرة في وسط البحر اللجي الذي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب، ومن حولكم الحيوانات الكاسرة، والميكروب المميت، وحوادث الأيام، ومزعجات الأنام، وفتكات البراكين، الهادمة لمجدكم، البالعة لمدنكم.

إنكم أمة واحدة، فلمَ لم تتحد تلك الدول على رقي نوع الإنسان حتى تقاوموا جميعًا ما تغشيكم به المياه في طغيانها من أنهارها، والبحار من أمواجها، والبراكين من هدمها وتخريبها، فما أسوأ حال الإنسان! مسكين، وأي مسكين! مسكين ضعيف! كثر وباؤه وأمراضه، وخانه صديقه، ولم يرحمه عدوه.

أما فيكم عقلاء؟ أما فيكم رحماء؟ عند ذلك بكى وبكيت، وضجَّ الجمع المحتشد، ورمى كتاب الجرائد بأقلامهم وبكوا رحمة علينا، وسكن التأديب والتوبيخ والتقريع، ورفعوا طرفهم إلى السماء، وطلبوا من الله رحمة أهل الغبراء، وقالوا: اللهم ارحم هذا الإنسان المسكين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤