الفصل العشرون

وهو خلاصة الكتاب

في بيان استخراج السلام العام في الأمم من النواميس الطبيعية، والنظامات الفلكية والفطر الإنسانية، وبنيان السياسة على أساس الطبيعة، وأن مدنية اليوم حيوانية، ودعوة الناس للإنسانية الحقيقية، وبيان أن الإنسان لم يفهم إنسانيته، وخطاب موجه لفلاسفة الأمم، ثم نوابها وملوكها، يدعو الأولين لبحث هذا الموضوع، والآخرين للتعاون على العمل.

قال السيد جامون: «النوع الإنساني أرقى أنواع الحيوان بعقله، أفلا يحب أن يكون أرقاها نظامًا، وأعدلها دستورًا، وأعمها مدنية، ولكنا وجدناه لم يزل في طفوليته في النظام، ولم يرتقِ عن النمل في السياسة ففيه السادة والعبيد. وأرقى الأمم في المدنية بحسب عرفكم اليوم تضارع أنواع السباع والصقور في سيطرتها القهرية، بسلاحها لا صلاحها. مجموع النوع الإنساني اليوم قسمان: سادة كالحيوانات المفترسة، وعبيد كأكالة الكلأ والحشيش، وأهم نظريات أكابر الأمم القائدين لغيرهم أربع: (١) العقول الإنسانية يجب أن تخدم القوة الغضبية. (٢) بالقوة الغضبية والسلاح يقهرون غيرهم. (٣) ثم يربونهم كالأنعام يتخذون أصوافها وألبانها. (٤) الشهوات تغشي على العقول فتسلبها الشفقة والرحمة على الضعفاء كما سلبها ذابح الحيوان لأكله.»

قال أرسطو قديمًا: يتميز الإنسان عن الحيوان بنظره في العواقب، ولم يخالفه فلاسفة الأوروبيين والأمريكيين، ونحن نبين ماذا فعل بعقله أولًا وبم امتاز.

إن عقل الإنسان زاده أرجلًا يمشي عليها، وهي آلات النقل، كالترام والسيارات، والقطارات والبريد والسفن العظيمة، وأطال أظفاره الضعيفة، بما يلائم مخالب السبع، ويزيد عليها، من الرصاص والمدفع والأساطيل والجنود المجندة، والسفن الغاطسة، والدوارع السابحة والقباب الطائرة المسلحة، وأناله سواعد أخرى بآلات الحرث والزرع والبناء وما أشبهها، وأنبت له ما هو كأجنحة الطير، من القباب الطائرات وما أشبهها، وهل زاد الإنسان بهذه القوى المسخرة له بابتداع العقل إلَّا شهوات بهيمية، أو قوى غضبية، ولم يعرج على الإنسانية، ولم يمدها عقله بالسلام أيما إمداد.

الإنسان دائر في الدائرة الحيوانية، ونسي أنه إنسان، أنا لا أفهم ما أمتاز به عن الحيوان، ولا أدري، أين مدنيته وهل تحققت.

كان الإنسان يحبو كالطفل على الأرض، فاكتشف البخار، فانتصب قائمًا يمشي بالقطار، وبه قطع الكرة، وها هو استنبت له الجناحين ليطير في الهواء، وهل بعد هذا إلَّا البحث عن المدنية والإنسانية، أين هما، وكل ما اكتشفه لا يغني عنهما شيئًا، وما معرفته للعواقب بممتازة كثيرًا عما ركز في نفوس الطيور الطائرات، والحيوانات السارحات، والحيتان الغاطسات، من تدبيرها بيوتها وتربيتها أولادها، وحفظها جماعاتها، إلَّا امتيازًا نسبيًّا، ليس يحل الإنسان المحل اللائق بمقامه إلَّا متى دبر المجموع الإنساني المجموع الإنساني.

إن نظر الأفراد في مستقبلها، والأمم في شئونها الحالية والمستقبلة، يشارككم فيه أكثر الحيوان. ومتى تولى المجموع تدبير المجموع، ظهر معنى الإنسان وتجلى للعيان، ثلث هذا النوع رشيد، وثلثه نصف رشيد، وثلثه غارق في بحار الجهل، ويحاول الأول اتخاذ بعض الثاني، وجميع الثالث كالحيوان، إذ يتخذون من جلودها صوفًا ومن ضروعها ألبانًا، وطوائف هذا الفريق فيما بينهم دائمو العداوات، لما لهم من القوى المتكافئة.

وإني ليجدر بي أن أطرح على بساط البحث بين فلاسفتكم وحكمائكم من جميع الأمم الأرضية، على اختلاف نِحلهم، وأجناسهم ومللهم، هذا السؤال، أيهما أنفع للثلث الأول الرشيد، أيكون الثاني مثله في الإنسانية يعاونونه، أم تتنزل ملكاتهم، إلى دركات الحيوانية؟ فإن كان الأول أنفع، وثبت بالبرهان، فلا مناص لملوك الأمم، وقادة الشعوب، من السير على منواله، وإن كان الثاني، بقي النوع الإنساني على ضلاله إلى الأبد.

ليس يحل المشكل الإنساني، إلَّا ناموس الوجود، وقانون الطبيعة. من حاد عن فطرة العالم في سياسته، حاق به العذاب. كل شيء سائر بنظام حسن، ألا ترى دوران الكواكب بحساب لا يتغير، وسير النواميس الطبيعية بنظام عجيب، وهكذا غرائز الحيوان، كنسج وهندسة النحل، وسياسة النمل، وجمهورية كلاب البحر، أفلا يكون لهذا النوع ناموس لراحته، ونظام لم يكتشفه للآن، وربما كان حاضرًا لديه، يراه في غدوه ورواحه، وهو مع الغافلين، كما كان يرى البخار صباحًا ومساءً والناس عنهُ ساهون.

فلننظر في هذا الإنسان، نجد جسمه منظمًا، معتدلًا، فطوله ثمانية أشبار بشبره، وإذا مد يديه إلى الجانبين، كان طوله كعرضه، هكذا سائر أعضائه بميزان عجيب. وأكثر الحيوان والإنسان تولد بحواسها الخمس، إلَّا النادر جدًّا، كما ندرت مدارس الصم البكم والعمي.

أفليس هذا الوضع دالًّا على حكمة عالية، غرست في نفوسكم كل ما تحتاجون، حتى تتم سعادتكم في الحياة بنظام، كما كملت أجسامكم، ونظمت حواسكم. والعناية التي نظمت الأعضاء والحواس لا تغفل عن تنظيم القوى والملكات.

أوَليس من العجيب أن يمتد النظام إلى ما هو أعم من نظام الأجسام، فارتقى إلى نظام مجموعكم، فإنا نرى الذكران والنسوان في المواليد على سطح الكرة الأرضية يكادون يتساوون.

وما الزيادة النادرة، أو القليلة في النوع، إلَّا كعدد الصم البكم منكم، وإن زيادة نحو خمس عشرة امرأة في إنجلترا في كل ألف رجل وامرأة أثقل كاهلها، فأنَّتْ وشكت، وبكت، في هذه الأيام، ومن عجب أن قاعدة الذكران والإناث لم تخطئ في بلدة، أو إقليم، أو جيل، ولو أنها أخطأت مثلًا عشر سنين لأخذ الإنسان في الانقراض، ولو أخطأت خمسين سنة، لذهبت الأمم، وبادت، ولكنا نرى ذلك مضطردًا أبدًا، وما سمعنا انقراض الذكور أو النسوان في أمة، بل الميزان العمومي في العالم دائم الوزن، ولا جرم أن ذلك وضع للحياة المشتركة.

ولم يقف عند هذا الحد، بل تعالى إلى الملكات والقوى فجعل استعداد العقول موزعًا حسب الحاجة كما في الذكور والإناث، وترى الشعراء المطبوعين في أممهم قليلين، وكذا الفلاسفة والموسيقارون، والبارعون في الجمال وحسن الصوت، وترى عشاق العلوم المغرمين بها ينبتون في الأمة حسب حاجتها، كالمستعدين للصناعة، والزراعة، والتجارة.

وكما أننا نجد طولًا وعرضًا في الجسم بمقدار محدد للمصلحة، وأعداد الذكران والإناث كذلك في الإنسان والحيوان والنبات، ولم يكن من خطأ فيها إلَّا عرضًا، ونادرًا، فهكذا استعداد العقول للفلسفة، والموسيقى، أو السياسة العامة، أو العلوم الصناعية، فالفطرة منبثة في النفوس بذورها حسب الحاجات قلة وكثرة.

وكما أن الأمم الوحشية لم تفقد الذكران أو الإناث حتى تقترض لهم أناسًا من أمم أخرى، ليسدوا عوزهم للاقتران، فهكذا يخلق لكل أمة ما يلزم لسد عوزها على حسب حاجتها، فالمستعدون للأعمال العالية الأقلون، وأهل القبول للحرف المختلفة والعلوم والمعارف يكثرون.

أما آن الأوان لاستثمار ما استكن في الأرواح الإنسانية، وما ذراه الله في العقول، من تلك الفطر المودعة في الثلثين الضعيفين من النوع الإنساني.

أفليسوا إذا تركوا وشأنهم، أو تعمد إخماد نار جذوة أفئدتهم ينحطون إلى درجة البهائم، ويخسر الراشدون من النوع الإنساني مواهب ونفوسًا لو سقيت ماء العلم، وأحيطت بسور من الرحمة، لشاركتهم في استخراج كنوز الأرض، واستدرار بركة السماء، واستنتاج خيراتهما ومواهبهما المخزونة فيهما.

وكما وزعت الحرف والصناعات والعلوم بقدر الحاجة، فهكذا قسمت أنواع الخيرات على بقاع الأرض، فلكل تربة حظ صالح من المنافع لا ينجع فيها سواه، فهذه معدنية، وتلك زراعية، والأخرى جبلية، وغيرها ذات غابات.

إن الراشدين من الأمم سلطوا غضبهم السبعي على إخوانهم في الإنسانية الضعفاء، ولم ينموا من عقولهم، أو يستثمروا من أرضهم، إلَّا على مقدار منافعهم وخسروا هم أنفسهم ربحًا كثيرًا، خسروا مودة إخوانهم، وراحة بالهم، والفطر المودعة المدفونة في نفوسهم، والمنافع الكامنة في الأرض المرهونة على بروز فطر زراعها، حتى تفيض عليهم على مقدار ما ظهر من مواهبهم، وعقولهم وقدرهم.

سخر الإنسان الحيوان أحقابًا، وأنزل عليهِ من سوط عذابه، وجهنم غضبه ما أرهقه ألوانًا، ثم اكتشف البخار، والكهرباء، فأنالاه بعض الراحة، وفرح بما أوتي من النعمة، نور عظيم، وثمرة وفيرة، أثمرها ثلث عقل الإنسان، فما يكون حالها إذا ما عقل القسمان الآخران، وجاءت قاعدة التضعيف في الفائدة الناجمة من تربيع الثلاثة الأقسام، فلا جرم تثمر بقاع الأرض تسعة أضعاف ما لدينا اليوم، وإذا استخرج ما في الأرض من منافع وثمرات بهذه العقول كانت النتائج أضعافًا مضاعفة بالتربيع.

فلا جرم أن بين نواميس الكائنات الطبيعية، والمسائل الاقتصادية، مناسبة تامة، فتربيع حركات الأحجار الساقطة من أعلى الجبل، قد تتخطى إلى ثمرات الأعمال الإنسانية إذا ازدوجت وائتلفت، وليست ثمرات العقول المتحدة على الأعمال على وزان ما أثمره العقل الواحد، بل إنما يكون بنسبة تربعية، فإذا كان للواحد ثمرة فلثلاثة متحدة تسعة، وعلى وزانه ثمرات الأرض، ولسنا نطلب المحال من الأمم من إغماد السيف، وكسر المدفع، ولكنا نقترح أن يكون لجنود العقول المجندة في ساحة القتال الاقتصادي، الغاديات الرائحات في تدبير الأمم والممالك لجنة دائمة، تضيء حالكات المشكلات، وتفسر لهم الحوادث، وتلتقط من تلك الساحات مرضى الآراء، فتنقلها إلى مستشفياتها العلمية والفلسفية، كما تفعل جمعية الصليب الأحمر في ساحات الحروب الجسمية، والميادين الحربية، وهذه أهم مباحث تلك اللجنة:
  • (١)

    هل قوى نوع الإنسان موزعة عليهِ توزيعًا حسب الحاجة كما في الذكورة والأنوثة؟

  • (٢)

    هل المنافع موزعة على سطح الكرة الأرضية توزيعها على العقول؟

  • (٣)

    أيهما أنفع للأمم الرشيدة أتسير على منوالها المرسوم ولا تتجاوز في سياستها أصغر الحيوانات كالنمل أم تعدل عنها إلى شرفها وإسعادها وصداقتها؟

  • (٤)

    إذا كثر تعداد أمة أفلا تعطى أرضًا من بلاد أخرى بمقدار نموها.

  • (٥)

    أيحسن أن تحصى أراضي الأمم العامرة والغامرة.

  • (٦)

    أوَليس من الجهل الفاضح أن تصرف قوى الأمم إلى قتال أنفسهم، ويذرون محاربة الطبيعة لإخضاعها! أوَليس من الواجب أن يوضع ناموس عام لإصلاح الأرض في كل أمة، وتمدين الشعوب التي هي نصف رشيدة، والتضافر بعد ذلك على إصلاح الباقي من الأمم، طوعًا أو كرهًا، ثم يبين مقادير ثمرات العقول الخامدة، إن أوقظت من غفلتها، وقامت من سباتها وأشربت العلم والحكمة! وما مقادير فوائد الأمم الرشيدة منها؟

  • (٧)

    أليس سعادة الإنسان في أن يكون ذا ملكة في فن خاص تضارع غرائز الحيوان كنسج العنكبوت وهندسة النحل، فإذا وصل النوع إلى هذه الملكات، فما مقدار الفوائد إذ ذاك؟

  • (٨)

    الدول اللاتي تربح من إضعاف غيرها وجهله، فما الذي يجب أن يستعيضوا عن الربح بدل ما فقدوه، وهل يحكمون العقود فيستديموا بعض تلك الثمرات؟

هذه أهم المباحث التي يتناولها أطراف البحث في هذا الموضوع العام حتى يخرج النوع الإنساني من أزمة الهلكة، أوَليس الإنسان اليوم معاقبًا على جهله بهذه القواعد! أوَليس الهلع في الممالك واستعبادها وإضاعتها أموالها أحزانًا وآلامًا وضياع قوى وفوات ثمرات، تضاهي مضاهاة حقيقة تلك المواهب المسلوبة من الأمم الضعيفة والأراضي الغامرة، في أنحاء الكرة الأرضية!

ولإيضاح هذا نقول: إن الله أفاض على الإنسان عقولًا، وأوسع له الأرض، ولن ترضى تلك العروس الجميلة الولود إلَّا إذا تزوجها كفء كريم، وهل يكافئها أحد إلَّا العقول الإنسانية كافة على سطح الكرة الأرضية، كما كان الرجال جميعًا كفوء النساء عمومًا وكانوا عددهن، فانتظم نسلهم، ولعمرك ما قام بعمارتها إلَّا ثلث الإنسان الرشيد، ثم أخذ يضعف مواهب كثير من الأمم وسخرها لإرادته، وقهرها لسطوته، فساموهم الخسف، وأصلوهم نارًا حامية، فاستثمروا نصف عقولهم، وبعض منافع أرضهم، فأجدبت منهم عقول وأراض كثيرة، وغرائز كامنة، فكان العقاب والجزاء مقدرًا بالذَّنْبَ، جزاء وفاقًا.

وذلك أن منهم فريقًا يتربصون الحرب كل آنٍ، ومقدار كبير من ثروتهم يصرف على قواهم الحربية.

وما مثل الأمم الرشيدة والضعيفة إلَّا كمثل رجل أمسك بذراعه الأيمن الذراع الأيمن لامرأة حتى لا تفر، وهي تلقمه لقيمات بيدها اليسرى.

ذلك مثل الأمم القوية القاهرة المعطلة لبعض قواها لقهر الأمم الضعيفة وإنهاك قواها، أفليس الناموس العام في هذا الوجود عذب الأمم القوية، بعذاب مهين، من أخذ القوة والحيطة والسلاح والكراع جزاء ما أماتوا من الأمم الضعيفة قواهم وملكاتهم.

أوَليس الناموس العام تولى عقاب الأمم بنفسه، فلم يفلت منهُ ظالم ولا عاتٍ، أفلا تبحثون في تلك النواميس عما أعدته لرقي العالم، وتشمخون بأنفسكم، وتتعالون عن هذه الحقارة والصغار والتنزل إلى مرابض الحيوان، ومراتب الأنعام، ها أنتم هؤلاء استخرجتم قوى الحيوان وسخرتموها، فلم تغنكم وحدها، فعمدتم إلى بعض قواكم البشرية، فسلطتموها على الطبيعة، فحملتكم وكلمتكم، وخدمتكم فأرحتم الحيوان!

أما آن لكم أن تستخرجوا قواكم لتستعينوا بها على إكمال سعادتكم وتخلصوا إخوانكم من الشقاء، كما تخلص بعض الحيوان، وهاكم نواميس الطبيعة التي قدمناها واضحة ظاهرة، والقوى في الأدمغة موزعة على أعمال الحياة بالمشاهدة والاختبار!

أيها الفلاسفة، أيها الملوك، أيها النواب، الحقيقة واضحة، ظاهرة تُلمس بالأيدي، ولكن الناس لا يبصرون؛ لأن حجاب الشهوات ران على قلوبهم، والقوى الغضبية غشت أبصارهم، فلم تنجلِ لها أنوار شمس العلم المشرقة المجللة سطح الكرة الأرضية، وكيف يجوز التغافل عن أراضي الأمم فلا تزرع؟ أم كيف تغادر العقول والقوى الكامنة فلا تستثمر؟ فلئن لم يصدع بهذا الأمر الملوك، ولم يفكر العلماء، فلتدهمنَّ الأمم الدواهي الدهماء، وليصبحُنَّ في عذاب واصب، لا سيما إذا حامت حوائم الموت، من خلال الطيارات الطائرات في الجو، وحلقت على عوالم الشرق والغرب حائمات القباب الطيارة ترسل على الأمم الصواعق والشهب والرصاص، وتزجي عليهم المصائب، وتمطرهم مطر الدمار والخراب، وأول ما يصمي به الأمراء والملوك، ولئن فطنوا لما أوضحناه اليوم، فليكوننَّ ذلك أشبه بعذر في القريب العاجل لهم، كما أنهم إن نجحوا في طلبتهم وهو الأقرب عندي كان لهم إطراء المادحين، وشكر الأمم أجمعين، وبالجملة فلهم الغُنْم، وعليهم الغُرْم.

أيها الحكماء والفلاسفة والملوك، مجموع النوع الإنساني حائد عن التهذيب، حيوان مكبر، ولن يصوره المصورون بأكثر من نسر بأجنحة كثيرة وأرجل تحتها عجلات ذي صوت يحيط بالكرة، له أظافر حادة، إذا تصور وجود مثل هذا الطائر لم نسمهِ إنسانًا، وإنما هو حيوان ذو خصائص واسعة، ذلك مثل الإنسان.

أوَليس من العار هذه الخلة في المجتمع الإنساني! أين التهذيب في الأمم؟ الأمم الرشيدة بحكم هذا النظام الحيواني مضطرة أن تنيب عنها طائفة من أبنائها في الأمم الضعيفة، فلا تطأ أقدامهم تلك الأرض حتى يتنزلوا من سماء مدنيتهم، وينحطوا عن الفضيلة، ويعثوا في الأرض فسادًا، كالحيوان الأعجم، ثم يتدربون على تلك الأخلاق الفاسدة، فتصير ملكات، فيرجعون إلى أوطانهم حاملين أوزارهم على ظهورهم، فتكون بذور حناظل الرذائل، تنمو وتترعرع في خلال الفضائل والمدنية، وتتسلق على أشجار السعادات الباسقات، وتمتص غذاءها فتموت، وتتغلب أعشاب الرذائل على زروع الفضائل، وتنحط تلك الدولة إلى أسفل سافلين، كما اتفق للرومانيين فذلك فساد الحاكمين، وهلاك المستعبدين.

النوع الإنساني اليوم كغلام مراهق جاوز سن الصبا، وهو الآن يستعد لاستكمال العقل، فتراه كلما غدا أو راح يلطم بالصخر والجبل والشجر فيشج رأسه ويكسر رجله.

أفلا يكون ناموس الوجود الذي رمزنا له في صدر هذا المقال شعاعًا من نور عقله وعنوانًا على مبدأ سعادته فيبلغ به الحلم، ويصير رجلًا بعد جهله المبين، وإنسانًا بعد أن كان حيوانًا، ألا ترى عذاب الأمم القاهرة والمقهورة جميعًا بالجهل والطيش، كغلام يصيح مع الصائحين، فالأولون معذبون باستعبادهم، والآخرون بحبس فطرهم وجهلهم، والغُنْم بالغُرْم، وعذاب الأمم الراشدة بمقدار إذلالها لغيرها كما قدمنا.

ولا جرم أن الأمم لا تبلغ رشدها إلَّا إذا رفعت الأيدي الضاغطة، وأرشد الحاكمون المحكومين، وصرفت القوى في المنافع والصناعات.

إذا كان الحيوان استخدم قواه كلها في صلاحه، أفليس من العار على الإنسان، أن تعطل بعض قواه، تارة بالاستعباد، وطورًا بالوثوب، وآونة بإخماد القوى.

أليس من الخزي هذه الأخلاق الشائنة، أين عقل الإنسان؟ أفليس بما قدمنا يزول الجدب ويقل الخوف وتضاعف الثروة، وليس على الأمم في مثل تلك اللجنة العلمية الفلسفية السياسية التي افترضناها من ضرر، وليست تصرف أكثر من عشر سنين في إحضار أساس المدنية وعرضها على سائر الأمم الرشيدة.

فلتدع أمة من الأمم لهذا المبحث سائر الأمم ليرسلوا أكابر علمائهم المحبين لنوع الإنسان ليبحثوا هذا الموضوع بحثًا مدققًا، ثم ليؤلف كل عالم من أولئك عند الإمكان كتابًا في هذه المباحث يري فيه الأمم كيف يكون الحب العام، فإذا ما وافقت اللجنة العامة على كتاب ترجم إلى سائر اللغات، ويوكل لكل عالم الصورة التي بها يعممه في أنحاء بلاده، بحيث يلقن التلاميذ في سائر الممالك ما يحببهم في نوع الإنسان إجمالًا وتفصيلًا، ويزدري أمامهم بالتشخيص أو غيره الحرب والخداع السياسي، وتمنع كل أمة من ذم غيرها، والطعن في دينهم، حتى لا يكون بين الأمم، أحقاد في صدور أبنائها.

ومتى تكرر ذلك صار طبعًا وعادة لازمة للأجيال المقبلة، وإذ ذاك تبقى كل أمة على عاداتها ودياناتها وأخلاقها، ولكل من الملاك فيها أن يتصرف في ملكه، ولكن يجب أن تكون لهم مراقبة دولية، وعلى كل أمة أن تراقب عمران البلاد واستثمار الأرض وإنماء العقول، وهذه اللجنة تراقب الأمم وتراقب الأمم أفرادها.

ها أنا أدعو ملوك الأمم، ونوابها العامة ومجالس نوابها، وحكماءها وعلماءها، فهل من ملك رشيد أو نادٍ ذي فضيلة يدعو لما دعوت إليه حتى يكون أول مصلح للنوع الإنساني فلا يضره ولا أمته شيء في الحال والاستقبال، ولئن لم يتم الأمر على مراد سائر الدول بقي له ذكر المصلحين أمد الدهر، وكان له أثر خالد في الأمم المستقبلة، وفي ظني أن ملوك وعلماء هذا العصر يقدرون هذا العمل حق قدره، فقد آن أوانه حتى تبطل القاعدة الحيوانية العتيقة التي وضعها «أبيقور» اليوناني في القرون الخالية قبل الميلاد بثلاثة قرون القائل: «يبيد الأقوى الأضعف.» وشيَّد على أنقاضها داروين الإنجليزي مذهبه، وطبقه السُّوَّاس على الإنسان، فقلد السباع والوحوش، ولو أنهم فطنوا لغلبوا هذه القاعدة الإنسانية، على تلك القاعدة البائدة السبعية، ولحكموا بالعدل والسلام العام حتى يمتاز الإنسان على الدواب والأنعام، وهذه القاعدة نهاية بحث العلماء، وثمرة حكمة الحكماء، وطلبة الأنبياء، وإني لموقن بصحة النتائج لصدق المقدمات.

فلما فرغ من مقالته عجبت من حكمته، وقلت: كيف نطق الأستاذ بما وعيت، وأظهر ما أضمرت؟ وهل هو غيري وهل أنا غيره؟ فتذكرت قول الشاعر:

أنا مَن أهوى ومَن أهوى أنا
نحن روحان حلَلْنا بَدَنا
فإذا أبصرْتَنا أبصرْتَه
وإذا أبصرْتَه أبصرْتَنا

فبينما أنا غارق في بحار هذه الأفكار إذ انفلق عمود الصباح وقال المنادي: حي على الفلاح، فاستيقظت وعلمت أنها رؤيا منامية، وعلى العلماء التأويل وعلى الأمم التكميل.

فرغت من تسويد هذا الكتاب يوم الأحد السابع عشر من شهر رجب الأصم سنة ١٣٢٨ الموافق ٢٤ يوليو سنة ١٩١٠ الساعة التاسعة صباحًا بالمنشية بجوار القلعة.

وما علمت خبر انعقاد مؤتمر الأجناس العام بإنجلترا المناسب لهذا الكتاب إلَّا بعد تبييضه بنحو خمسة عشر يومًا في الجرائد المصرية، وكان ذلك من أعجب العجائب وأحاسن الصدف والغرائب.

ومن عجبٍ أن المؤتمر المذكور الذي سيُعرض عليهِ هذا الكتاب سيلتئم جمعه وينتظم عقده في أواخر شهر يوليو سنة ١٩١١.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤