إلى حبيبتي

حبيبتي، هذا أول خطاب أكتبه لك، وسيكون آخر خطاب. مع ذرَّات الدخان المُتصاعدة من سيجارتي آلاف المرات كتبتُ، مع ليالي العربدة كتبتُ، مع كل حرف كتبتُه كتبتُ، وكانت الكتابة دائمًا لك وحدك، لا قبلك ولا بعدك كتبتُ.

كنت أحبك، بالحب خُلِقت، وبالحب أعيش، وبالحب أحلم وأنام وأتصوَّف، وبالحب أيضًا أُجَنُّ، وبه يرتدُّ لي العقل وأثوب. حين أحببتك هجرتُ الدنيا تمامًا وعشتُ في مَعبدك، كجدِّي حين عاد من أرض النبي سائرًا على قدمَيه كما ذهب، وأبى بعد عودته إلا أن يتَّخذ له المسجد بيتًا ومأوًى. ولقد أراني أبي المِسمار الذي كان أبوه يُعلِّق عليه قُفطانًا مغروزًا في حائط مسجد قريتنا إلى الآن، وجدِّي مات بعد عام من ولادة أبي؛ ولهذا كان يعتبر المسمار كل آيات الأُبوَّة عنده، وكل ما له من ميراث.

أحبك. لا أقولها قوية كما اعتدت، صاعدة نداءً عامرًا بالتوتر كما كان ينطلق من أعمق الأعماق: أحبك. أقولها مُحبَطًا كأن قائلها انتهى، وصوته ليس سوى رجْعِ الصدى.

أحبك. أقولها وكأنما أرثيك وأرثي نفسي التي أحببتك بها. أقولها كميتٍ يُنادي حيًّا أو كحيٍّ يُنادي ميتًا. أقولها بعد أن تحوَّل الحب عندي من قُوًى خفيَّةٍ دافعة كالكهرباء، غير محسوسة كالجاذبية، تحوَّل من ظاهرة إلى كلمات إلى حروف تتجسَّد وترسم علامة الصوت وعلامة الإحساس. وويلٌ للحب حين يتحوَّل من كونٍ إلى كلمٍ تحدُّه كلمات؛ فالكلمات مهما صخبت ومهما عبَّرت، فهي كلمات، كآثار الخُطا على رمال شاطئ؛ أي فارق هائل بينها وبين القدم الحية الدافئة التي طبعت البصمات.

أيتها المُنافقة، الكاذبة الصادقة، الفقيرة الغنيَّة، المُحافظة السائبة، الضاحكة في عُهر، المُبتسمة في طُهر، القادرة العاجزة، المُخلِصة الغادرة، أحبك.

أحبك لا لأنك هكذا، ولكني كما آمن جدِّي بالله وجعل من بيته بيته، آمنتُ أنا بك، وكما المسمار في الحائط هو كل ميراث أبي من جدِّي وكل ما آل إليه منه، فأنت مسماري. أنت أبي وجدِّي، أنت آلهتي، أنت كل ما استمتعت به في الحياة من جنَّات، وكل ما فيك وما عذَّبتَنيه من جحيم.

أكتب لأول مرة لأقول إني مرعوب.

يُرعِبني أن أكون ما زلت أحبك.

ويُرعِبني أكثر أن أكون قد شُفِيت من حبك.

فعندما أحبك لا أستطيع حبًّا غيرك، وإن كففت عن حبك وشُفِيت فأنا لا أستطيع حبًّا بعدك؛ فمن حبك أحب، ولأني أحبك أشتهي الحب، وبحبك تنقلب الحياة جحيمًا، وبغير حبك يصبح الجحيم هو الحياة.

فماذا أفعل؟

أيتها الحبيبة، الجنة النار، بلدي، ماذا أفعل؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤