صناعة الأفكار

أخشى ما أخشاه أن تكون القاهرة أو المدينة كما ابتلعتنا سكانًا، سواء بإرادتنا أو برغم أنفنا وحكم عملنا، أن تبلعنا أيضًا اهتماماتٍ وتمثيليات وأفلامًا وطريقة حياة، أن تبتلع في الحقيقة مصر كلها، بحيث إن أي موضوع يُعالج خارج اهتمامات القاهريين نُغلق في وجهه الصفحة أو نُغير محطة التليفزيون. إن المُستهلكين لوسائل الإعلام عندنا للأسف معظمهم من الطبقة المتوسطة، التي إما على حافَّة تعليم، وإما عالية الجبهة إلى درجة تنطح سماء أوروبا نفسها. وهؤلاء ماذا يهمُّهم من أمر فلاح فاقوس أو دكرنس؟ ماذا يهمُّهم من صيَّادي بحيرة البرلس أو قارون؟ ماذا يهمُّهم من مشاكل عامل الإشارات في محطة تونة الجبل، إلا لكي يسحبوه من رقبته إذا وقع حادث؟ إنه في رأيي تعفُّنٌ فكري سيئ؛ ذلك أن العقل البشري نفسه لو ظل يعيش ليلَ نهار في نوع ولون وطعمِ مشكلةٍ هي نفس المشكلة التي يعيشها شارعًا وتليفزيونًا وتمثيلية، إذاعة وخطبة واعظ، يُصيبه الشلل ويتوقَّف، ثم تبدأ المشكلة تتعفَّن داخله أو يتعفَّن هو داخلها.

وأكثر ما يحزُّ في نفسي أن الكتاب لكي يُقرأ يجب عليه أن يُكتب عمَّا يُثير اهتمام قُرائه لقراءته، وقُراء جرائدنا ومجلاتنا وكتبنا معظمهم من أهل القاهرة أو الإسكندرية أو المدن الكبرى، وحتى لو كان قُراء من الريف يقرءون، فلا بد أنك تجدهم قد نزحوا من القرية، وأصبحوا مثلما نقول من مُغتربي الأرياف في قلب المدينة. وكثيرًا ما جاءتني خطاباتٌ تلومني بشدة على إهمال مشاكل الفلاحين والصيَّادين والبحَّارة والبنَّائين والنجَّارين والحِرفيين، وكثيرًا ما أنَّبني ضميري أن شعبنا كبيرٌ كبير ومليء بالصناعات والحِرف والمشاكل، وأن الله سبحانه لم يجعل قلبَين في جسد، وماذا يستطيع قلمٌ واحد أو مقال أو صحيفة بأكملها، وكل الإعلام موجَّه إلى المركز الساحر «القاهرة» يُرضيها ويُقيم الدنيا ويُقعدها على مطبَّاتها، في حين أن الفلاح أو عامل المخبز في دمياط مثلًا يحيا في حجرةٍ هي كلها حطب، أو نتأثَّر ذات مرة إذا وقعت حادثة تصادُم مُروعة على الطريق الزراعي، ونقرأ الخبر بلا أي اهتمام، وخمسون بالتمام والكمال تغرق بهم على مرمى البصر مَعدية في النيل، أو عشرات يفعصهم قطار أقاليم ترنَّح لهول الفرامل وسقط. هناك خارج القاهرة، وحتى داخل القاهرة، الناس أرقام، وأرقام حتى بلا أي مضمون، أرقام مجردة كالأرقام الرياضية، ولكن الضرب هناك حقيقي، والقسمة غير العادلة حقيقية، والجمع بأقل الأثمان.

•••

ولكن أحيانًا تهبُّ كنسمات الصيف أشياءُ تبعث على الأمل، وإني متأكد، ولو أن كاتب هذا الخطاب وزيرٌ حالي، إلا أني أعتقد أنه لم يكتبه أبدًا كوزير، وإنما كتبه كفلَّاح من الدقهلية أولًا، ثم كمُكافحٍ سياسي أُنقذ بأعجوبة من رصاصةٍ إنجليزية أيام ثورة ١٩٣٦م، وكان ضمن زملائه الذين استشهدوا عبد الحكيم الجراحي؛ ذلك الذي حين دخلنا الجامعة في الجيل الذي تلاه كان لنا نبراسًا ومثلًا أعلى، وكان نُصُب الشهداء في الجامعة له من القداسة في نفوسنا، ويوم الشهداء له من الروعة، ما جعل جيلنا يجود بعشرات الشهداء في معارك ميدان الإسماعيلية (التحرير حاليًا) وكوبري عباس وغيرهما من المذابح والمعارك الرهيبة، إلى أن جلا الإنجليز عن مصر، وجلت الرجعية عن الحكم.

وهذا هو الخطاب:

السيد الدكتور يوسف إدريس، تحيَّاتي الخالصة لشخصك ولجهدك المُخلص المُتواصل في خدمة بلادنا العزيزة.

لقد قرأت ما جاء في «مفكرتك» في الأهرام يوم ١٧ يونيو الماضي، والحق أن الموضوع الذي عالجته تحت عنوان «التوكسافين سيقتلنا نحن أيضًا»، قد أثار من الاهتمام ما هو جدير به كموضوعٍ يتصل بالاقتصاد المصري، وفوق ذلك بصحة الإنسان المصري الذي ننظر إليه باعتبار أنه هو الغاية أولًا وأخيرًا.

وإذا كنت أكتب لك الآن وبعد هذه الأسابيع من نشر الموضوع، فإنما أكتب لأقول لك أولًا: إنني معك أكره التوكسافين أيضًا، وأرجو أن نُوفَّق جميعًا في الحد من استخدام هذه الكيماويات السامَّة، التي اتسع استخدامها إلى الحد الذي أصبح يُهدد الإنسان والنبات والحيوان على أرضنا.

ثم إنني أكتب لك وأنا أثق في أنك سوف تؤيد — بكل ما يعرفه عنك قُراؤك من إخلاص — مشروعًا قوميًّا تبدؤه وزارة الزراعة في هذا العام على نطاق الجمهورية، وهو مشروع مقاومة ديدان اللوز عن طريق التخلص بالحرق من اللوز العالق بحطب القطن، وهو الذي يكمن فيه مصدر الإصابة بهذه الديدان في السنة التالية.

إن هذه الحشرات خسارةٌ مباشرة للمحصول، والمقاومة التقليدية لها تكون برشِّ نباتات القطن ٣-٤ مرات خلال الموسم بمُبيداتٍ شديدة السُّمية، تُعرِّض الذين يتداولونها وكذلك حيوانات المزرعة لأخطار التسمم، وقد تزيد تكاليفها عن ٢٣ مليون جنيه سنويًّا تُدفَع كلها بالعملة الصعبة، علاوةً على التأثير الضار لهذه المُبيدات على إنتاج نحل العسل والحشرات المُفيدة الأخرى، وما يترتَّب على استخدامها من مشكلاتٍ عديدة أخرى قد يضيق المجال عن ذِكرها.

لهذا رأت الوزارة — بدلًا من استمرار الاعتماد على المُبيدات — أن تتقدَّم بمشروعٍ أساسه جمع اللوز المُصاب العالق بأحطاب القطن والتخلص منه بإحراقه، وحقَّق تنفيذ المشروع في محافظة الفيوم نجاحًا كاملًا، وأسفر عن زيادة في المحصول عن العامَين السابقين دون استعمال المُبيدات كلية.

وترتيبًا على نجاح المشروع في محافظة الفيوم، رأت الوزارة تعميم المشروع في هذا العام على مستوى الجمهورية.

وإذ تعمل وزارة الزراعة على تنفيذ هذا المشروع، فإنها تُؤمن بأن جهدها وحدها في سبيل إنجاحه لا يكفي، وتُدرك تمامًا أن ما يحتاج إليه المشروع هو وعي الفلاحين، واهتمام الرأي العام، وطاقات الشباب الذي يدين للريف بنشأته، ويدين لمصر بكل ما في عنقه، وأن كل ذلك من الممكن أن يجتمع إذا وضعت صحافتنا وأجهزة إعلامنا هذه القضية في دائرة الاهتمام العام، وهذا هو ما دعاني لأكتب لكم.

لقد كانت لكم مُبادرتكم في إثارة قضية المُبيدات الكيماوية وأخطارها، وقد عالجتم القضية باعتبار أن المحافظة على صحة الإنسان المصري جزء من رسالةٍ تؤمنون بها، وها هو مشروعٌ قومي جديد يستهدف نفس الهدف، وتثق وزارة الزراعة في أنكم سوف تقفون بجانبه.

وفي الختام لكم خالص مودتي وتقديري وأصدق تمنياتي لكم بدوام التوفيق.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

في: ٦ / ٨ / ١٩٧٧م
وزير الزراعة
مهندس إبراهيم شكري

لا تتصوَّروا مدى سعادتي بهذه التجربة الخطيرة التي توصَّلت إليها وزارة الزراعة والفرحة القصوى؛ لسببَين: أولهما أننا سنُنقذ فلاحنا المصري، بل وسنُنقذ أنفسنا؛ فلقد كنت أقضي العيد في قريتنا، ولاحظت اصفرارًا ترابيًّا في عدد من وجوه أصدقاء الصِّبا، وبصمات التسمم الكبدي مرسومة على وجوههم في لون الموت المُقبِل.

لقد تركت الإجازة، وأحَلتُ اثنين منهم إلى الدكتور محمود سالم أخصائي الأمراض الباطنية في مستشفى فاقوس المركزي. والعجيب أننا بالتحليل لم نجد أي طفيليات هي السبب في هذا الاصفرار الترابي الغريب، إلا أن يكون التوكسافين، وليسوا هم وحدهم الذين يُعانون من هذا، ولكني اخترتهم لأني كنت قد رأيتهم من أربعة أشهر فقط ولم يكن لونهم هكذا أبدًا.

ولقد شرَّفني بالزيارة ضابط في مركزٍ كبير بالقوات المسلحة، وأطلعني على بحثٍ أعدَّه عن أثر هذه المُبيدات السامَّة، وكيف أنها تتسرَّب من خلال الخضراوات واللحوم، وحتى اللبن والزبدة والبيض والجبن الذي يأتي إلى سكان المدن من الريف، وتُسمم خلايانا نحن سكان المدن، وبالذات خلايا الكبد. والغريب فيها أنها تُسمم الخلية من الداخل؛ أي تستطيع اختراق جدار الخلية المَنيع على الجراثيم، وتُفقدها الحيوية، ثم تقضي عليها؛ وبالتالي علينا.

فرحتُ لأننا — إلى أن ينجح هذا المشروع العظيم في القضاء على الدودة — لا بد أن نمتنع عن استخدام هذه المُبيدات الكيماوية.

وفرحتُ ثانيًا ولأن هذه الدودة اللعينة تأكل عرق جبيننا، أو بالتحديد ثلثه تمامًا، وكأنها مصلحة ضرائب طبيعية، كل ما في الأمر أنها تتبع الشيطان، بل بالذات تأكل ثلث عرق أعز وأغلى إنسان على أرضنا؛ فلاحنا المصري الوحيد الذي ينحني كاهله بسبعة آلاف عام، من أجل أن يُطعمنا ويسقينا ويدفع ثمن أسلحتنا الفاسدة، فلاحنا الذي سألت مرة الدكتور عبد العزيز حجازي وهو وزير للخزانة قبل عام ١٩٧٣م: كيف استطاعت مصر الصمود اقتصاديًّا منذ ٦٧ إلى يومنا، في حين أن أحد أسباب دخولنا حرب ٦٧ كان أن بلادنا مُفلسة أو على وشك الإفلاس؟ أجابني بأن السبب أن الفلاح المصري شدَّ حيله، فزاد إنتاجنا الزراعي ٣٠٪ عمَّا كان قبل ٦٧.

شكرًا يا فلاحنا الأب الغالي، وأبدًا لن ندعك تموت بالتوكسافين، ولن ندع عرقك يذهب سُدًى على أيدي الديدان الصغيرة والكبيرة.

وشكرًا يا ابن الأصول الوطنية يا إبراهيم شكري.

وإلى إعلامنا العزيز، سِيبوكم بقى شوية من حكاية بروفيل وبيدوفيل، والكلام عن تفاصيل ما ترتديه فلانة وعلانة، وعن الماكياج والدوبلاج والهيافات، واعملوا شيئًا من أجل مصر الجادَّة التي يموت الناس فيها من أجل أن تأكلوا العيش والبقلاوة، وتتحدَّثوا عن الفرق بين مدرسة تحية كاريوكا في الرقص ومدرسة سامية جمال.

كفاية بقى يا عالم، واصنعوا شيئًا مُفيدًا حتى لكم أنتم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤