الحركة الفنية المُوازية

دوشة، طنين في أُذني وعيوني، وإحساس أني في زفَّة مولد ليس لصاحبه اسم، أو ليس له صاحب، ملاحق فنية كثيرة، وأبوابٌ كبرى في الصحف والمجلات عن المسرح والسينما، الأذواق والتليفزيون والثقافة، ولا ثقافة ولا سينما ولا إذاعة ولا تليفزيون، أسماء عشرات ومئات من أسماء مُمثلات ومُمثلين وكُتاب ومُخرجين ومُهندسي صوت وتسجيل؛ والنتيجة «ضجة ولا أرى طحنًا». لو كنت شديد الثقة في المُشرفين على وسائل الإعلام في بلادنا، لَقلتُ إنه من عمل مهندس خبيث قدير، يريد أن يُغرقنا في كومةٍ هائلة من القمامة أو التفاهات، حتى ننسى النظافة، وننسى الفن، ونتعرى، ونتكرع ونتسول أشياء نسرقها من الغرب والشرق، وننهبها ونكتب عليها باللون الأبيض: قال عنه النُّقاد إنه أعظم عمل فني تم في المائة عام الأخيرة.

ما الحكاية أيها الناس؟ الحكاية في رأيي أنه نمَت في السنوات الأخيرة حركةٌ فنية «مُوازية»، أو اسمها «سوق فني أسود (أسود حقيقي)»، تكون بين العاملين في الصحافة وغيرها، يُعدُّون البرامج، ويُعدُّون النجوم والنجمات، ويُعدُّون السيناريوهات والحلقات، معدون فنيون وغير فنيين، وجُلاس على قهوة الفن، وعلى رأي المثل: «شيلني وأنا اشيلك.» وخد يا شعب يا مصري عكازة اطفحها من ريق النوم إلى تثاؤب النوم، لا فكرة فيها ذرة ذكاء، ولا ذكاء فيه أية لمعة، ولا حتى كلمة حوار تصلح أن يقولها فمٌ بشري، إنما هي مأمأة قرود وعوعوة كلاب وضجة؛ ضجة عالية وكأنها صادرة من مائة فرح ومأتم، وكله بالميكروفونات، وكله على أعلى ارتفاع. إن جدران القاهرة مغطَّاة لآخرها بالإعلان عن هذا الطفح الفني الذي كان جديرًا بأن يخجل أصحابه من أنفسهم (وإذا بُليتم فاستتِروا)، وإذا بُليتم فلا تصنعوها حلقات في التليفزيون. ويا أستاذ نور الدمرداش يا مُعلم الفيديو الكبير، كيف أباح لك ذوقك الفني الذي أنتج عشرات الأعمال الهائلة أن تُنتج وتُخرج وربما تُؤلف هذا الشيء المقزِّز الذي يعرضه التليفزيون على هيئة حلقات، من كثرة اشمئزازي منها لا أذكُر لها اسمًا، بل حتى لم أجد لها اسم مؤلف؟ الموقف الذي كان يمكن أن يُقال في كلمةٍ مختصرة تُغطيه نصف ساعة؟ الفلاحون في مسلسلك أعتقد أنك استوردتهم خصيصًا من اليونان. لأول مرة أرى مُمثلًا عظيمًا كعبد الله غيث كأنه خواجة يُمثل دور فلاح، وما ذنبه والدور مكتوب هكذا؟ بل لا أعتقد أنه مكتوب، أعتقد أنه قبل التصوير يحدث نوع الدردشة، تُسجل ولا يهمك يا عم، أهه كله ماشي، وجمهورنا ما دام يبلع الزلط، أهي حلقات تفوت ولا حد يموت.

ولكن المشكلة أنها حلقات فوق حلقات، وأفلام فوق أفلام، ومسلسلات إذاعية فوق مسلسلات، تتراكم في أكوامٍ هائلة هائفة لتُضيع «العقل» المصري، وأي عقل!

إني لا أعرف محطات إذاعة وتليفزيون في العالم تنفرد بهذا الكم الهائل ممَّا يُسمُّونه «الدراما»؛ أي السباعيات والخماسيات والسهرات والشهريات. لقد ظللت أتساءل عن هذا السر إلى أن ذكر لي صديق ممَّن يعلمون بواطن الأمور، أن «الدراما» هي الوسيلة الوحيدة التي يمكن بها للموظفين في التليفزيون أن يتبادلوا المنافع مع المؤلفين ومع المُمثلين، وهذا هو السر أننا فجأةً نجد مسلسلًا يدوم ثلاثين حلقة، مفروضٌ أن يخرج بها جمهورٌ هائل كجمهور التليفزيون وقد تغيَّر فنيًّا وذوقيًّا وأخلاقيًّا، حتى مسلسل كهذا يُقدم لمؤلف لم نعرف له من قبل اسمًا، ولا جرَّبناه، ولا ظهر له عمل يُنبئ عن موهبةٍ ما، لماذا يختار المُخرج عمله الذي يعرف أنه غثٌّ وتافه ليفرضه على الناس؟ الله وحده يعلَم.

وكنت أفهم أن هناك مراقبة لمراقبة هذه التمثيليات، ولكن اتَّضح أن المُراقِبين جميعًا هم القائمون بالعمل وبالإخراج، وأن المسائل آخر بوظة.

حتى فيلم مفروضٌ أنه نظيف كفيلم «أفواه وأرانب»، يخرج الناس ليتكلَّموا عن «تمثيل» فاتن حمامة الرائع، وهل الفيلم تمثيل أم أن الفيلم موضوع يُعرَض بطريقةٍ بالغة التأثير، بحيث تنسى أن المُمثلة هي فاتن، أو أنها على الإطلاق مثَّلت؟ إن مجرد إحساسك أنها «ممثلة» عظيمة هو سقوطٌ كبير للفيلم أو للقصة أو للدور.

إنها إذن حركةٌ ثقافية مُوازية بلا حاجة لناقدٍ عملاق، أو كاتبٍ كبير، أو مُخرجٍ فذ، إنما هي (كله في كله وكله على كله وكله من كله) حركةٌ ثقافية مُوازية تجذب إلى أسفل، تجذب شعبنا إلى أسفل، تحطُّ من قِيمه، أو تتكلَّم عن قيمٍ لا تمتُّ إلى حياته أو عصره، حتى كبار كُتابنا جرفهم التيار، فأصبحوا يكتبون القصص لتتلاءم مع السوق المُوازية.

•••

هذا هو المشهد الظاهر من السطح أو من الخارج، ولكن هذا ليس كل شيء؛ فوراء ما نراه من حركةٍ فنية تجذب إلى أسفل، تحوُّلٌ اجتماعي خطير قلب مجتمعنا رأسًا على عقب، حتى أصبح عاليه هو سافله وسافله هو عاليه، واندفعت إلى الوجود طبقاتٌ قادرة على الشراء الباهظ، ولكنها غير مالكة لأي ذوق، وغير مدرَّبة على أي فن، إنما الفن عندها فن الأكل أو فن الاقتناء، أو فن القهقهة العالية الفارغة التي لا معنًى لها.

هذه الحركة الفنية المُوازية تُنتج لهذه الطبقات ما يكفيها ويزيد، وكل بلاد العالم فيها شيء كهذا، ولكن الشيء الذي لا يكاد يُذكَر؛ فالحركة الفنية الحقيقية الأصلية دائمًا موجودة. لا أقول الحركة الجادَّة حتى لا يظن الناس أني أتحدَّث عن العبوس، وإنما الحركة الذكية الخلَّاقة البنَّاءة المُتطورة الزاحفة إلى الأعلى والأرقى والأجمل.

إننا في مصر لدينا جماهير واسعة من هذه الفئة، ولكن لا يوجد فن لها؛ فكما أن الركوب في الأتوبيس بالدراع، والحصول على الشيء من الجمعيات بالزق، فكذلك في سوق الفن، دفع هؤلاء الغلاظُ الشِّداد الناسَ الذين يحترمون أنفسهم ويحترمون ما يكتبون أو ما يقرءون، ما يُشاهدون أو ما يسمعون، يحترمون لذَّاتهم وحواسَّهم وأجسامهم، دفعوهم بعيدًا حتى أصبحوا كالأيتام على مائدة اللئام.

والمسألة أن الحكومة، أو بمعنًى أصح، وزارة الثقافة واقفةٌ تتفرَّج على هذا الوضع، في حين أنه كما أن القطاع العام يدعم السِّلع الشعبية، حتى لا يموت الشعب جوعًا من جشع بعض تجار القطاع الخاص، فكان من المحتَّم أن تمدَّ وزارة الثقافة يدها من أجل الأخذ بالحركة الفنية الأعلى والأسمى وتدعمها؛ ليس فقط لتكفي حاجة أصحاب الياقات العالية كما يقولون، وإنما أيضًا ﻟ «تُرشِد» الحركة الهابطة الدائمة الجذب إلى أسفل، أو على الأقل تجعل المُتفرج حرًّا أن يرى هذا أو يرى ذاك، أن يسمع هذا أو يسمع ذاك.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤