المَلهاة الثانوية الفريدة

بعيونٍ مفتوحة لتشمل مصر كلها بيتًا بيتًا وحارةً حارة، ومدينة ومصنعًا، وحيًّا وحقلًا، ومدارس خلت أحواشها، بنظرةٍ شاملة ولكنها تُدقق إلى أن تصل إلى كل فرد أو على الأقل كل عائلة، بعيونٍ كهذه أرى مصرنا الغالية، في منظرٍ فريد تحتار من فرط عناصر الضحك فيه أتتأمَّل أولًا ثم تضحك، أو تُفرغ شحنة الضحك أولًا ثم تتأمَّل بعد هذا، أو تصرخ، أو تبكي، أو يحدث لقُواك العقلية خلل؟

وعلى أية حال فلنؤجِّل ما سنفعله إلى أن نعرف ما هي الحكاية؛ إذ الحكاية عن الشباب، أو بالضبط ذلك الجزء من المجتمع المصري الذي يكون ما تحت السابعة عشرة، ولا أتذكر الآن الرقم بالضبط، ولكني أعتقد أنه يكون أكثر من ٥٥٪ في تعدادنا البشري؛ أي هم الغالبية، بل هي الغالبية التي أصبحت «تجرُّ» المجتمع كله وراءها.

ولقد ذكر لي مُنتجٌ سينمائي مشهور أنهم زمان جدًّا كانوا يُنتجون أفلام الشباك لتُرضي مزاج الرجل؛ إذ كان الرجل هو الذي يُحدد الفيلم الذي تختاره العائلة لتراه، ثم اندثر عصر اختيار الرجال، وأصبحت أفلام الشباك هي التي تهمُّ موضوعاتها المرأة؛ لأن المرأة هي التي كانت تُحدد؛ أي تقود العائلة إلى الفيلم الذي يُشاهدونه. أما الآن فإن أفلام الشباك أصبحت تُخاطب مباشرةً مرحلةً ما دون السادسة عشرة، باعتبار أن الأولاد والبنات أصبحوا هم الذين يُرغمون العائلة على نوعٍ ما يرونه من أفلام.

ولا يرجع ذلك إلى تلك الأغلبية العددية التي يتمتَّعون بها الآن، ولكنه راجع أساسًا إلى أن عدد الأولاد والبنات قد ازداد في العائلة ازديادًا يُعتبر طفرةً هائلة، بالقياس إلى جيل أو جيلَين سبقوا هذا الجيل. إن الولد أو البنت أصبح هو المُتحكم في الأم الفارض عليها في النهاية رأيه، وما دامت الأم كانت من جيلٍ مضى هي المُسيطرة الحقيقية على الرجل؛ فالنتيجة أصبحت أن الصبي والصَّبية هما اللذان يقودان العائلة كلها لتحقيق ما يريدان، وطفرت حقوقهما كثيرًا في حين تضاءلت كل المفروضات من الواجبات.

ذلك أننا فعلًا وصلنا إلى مرحلةٍ رائعة من الدربكة التربوية التي تلخبط فيها كل شيء، مثلما تلخبط في أشياء كثيرة أخرى.

ومفروضٌ أن الرجل أو المرأة كالشعوب، تمرُّ بمراحل مختلفة لتصل إلى النضج؛ أي إلى تكامُل ملامح التفرد الخاص للذات، وللوصول إلى القدرة على تكوين الرأي الخاص والنظرة الثاقبة الخاصة، والحل الخاص الذي بمجموعه وبمجموع قدرات أفراده وتفرُّدهم يؤدي إلى ما نُسمِّيه أرقى المستويات الحضارية.

هذه المراحل التي تمرُّ بها الشعوب والأفراد تُشكل نوعَين من السلوك؛ الغالب الأعظم هو النمو التقليدي شبه الروتيني، ولكن لا بد لكي تتمَّ عملية النضج من مراحل تحدُث فيها «طفرة»؛ أي ثورة بالمعنى العلمي الحقيقي لكلمة ثورة؛ فالثورة قفزة أو مرحلة من الحياة لا يمكن اجتيازها إلا بوثبةٍ غير عادية؛ تلك الوثبات التي تحدُث في الإنسان فتُغيِّره «نوعيًّا»، وليس «كميًّا».

إن الوجود البشري يبدأ «ثورة»؛ فالبُوَيضة الأنثوية تظل مجرد خلية خاملة عاطلة إلى أن يتَّحد بها الحيوان المنوي، وكأنما من اتحادهما يحدث انفجارٌ ذري خلَّاق، ومن الخمول المُطلَق تبدأ في البويضة سلسلةٌ مُتسارعة من التغيرات تحدث فيها ولها إلى أن تبدأ تنقسم إلى خليتَين ملتصقتين، أو أحيانًا (في حالة التوءم) مُنفصلتين، وكل خلية منها تظل تنقسم في شبه انفجار ثوري مُفاجئ، لتصبح بعد أيام قليلة ملايين الخلايا التي يبدأ بعضها يتخصَّص، ومن تخصُّصٍ عام جدًّا (أكتوبلازم وأندوبلازم وميزدورم) إلى تخصصٍ خاص يُكون جنين الهيكل العظمي، وجنين الجهاز العصبي والجلدي، وجنين الأعضاء الداخلية، وهكذا.

إذن هذه هي الثورة العظيمة الأولى التي يمرُّ بها الإنسان، وتصنع منه مشروع إنسان لا يلبث أن ينضج، وبتوقيتٍ دقيق مُتكامل بعد تدفُّق الهرمونات في جسد الأم حتى تحين الثورة الثانية الرائعة؛ ثورة يقوم فيها الجسد — جسد الأم — بطرد هذا الكائن الذي تكامل واستوى عُوده فيما يُسمَّى بعملية الولادة، تمامًا مثل الثورة التي تقوم في مملكة النحل إذا وُجدت ملكةٌ أخرى، وتكون لها جيش من الرعايا، ويحدُث العراك بين الملكتَين الذي ينتهي دائمًا بطرد الملكة الصغيرة الجديدة، وخلق «طرد» نحل جديد.

ولكن الثورة الثانية تكتفي بالطرد الجسدي فقط؛ إذ تبقى بين الأم وبين الطفل حبالٌ سرِّية خفية عاطفية ونفسية، بل وحتى مادية مثل «الرضاعة»، والطفولة هي المرحلة التي يظل فيها هذا الكائن المُنفصل الجديد متَّصِلًا مُعتمدًا على الكائن الأصلي الأم، ويظل هذا يحدث إلى سن المراهقة.

حينذاك تحدث الثورة الثالثة في حياة ذلك الإنسان؛ ثورة الانفصال التام عن الأم أو عن العائلة أو بالضبط عن الوالدَين. ولكي تحدث هذه الثورة يستلزم الأمر بالضرورة قوةً طاردة عنيفة، تفصل بين الطفل الذي نضج وكبر وأصبح من المستحيل أن يظل عالة على أمه أو والدَيه. هذه القوة الطاردة العنيفة لن تأخذ شكل الأم تطرد طفلها من بطنها على هيئة تقلُّصات و«طلق» عنيف، وإنما تأخذ شكل تقلُّصات نفسية عنيفة (مصحوبة أيضًا بتغييراتٍ هرمونية كالتي تحدث للأم تمامًا في حالة تهيُّئها لعملية الولادة)، ولكن هذه التقلصات العنيفة يكون هدفها طرد الأم هذه المرة أو الأب أو الاثنين معًا من نفسية الطفل الذي كبر ونضج، فأصبح من المُشلِّ لحركته أن يظل مُلتصقًا بأمه أو بوالدَيه أو بعائلته أو بالقائمين على أمره في وطنه أو بلده. هي إذن عملية طرد مُعاكسة للمجتمع من نفس الشاب المُراهق؛ المجتمع بكل ما يسُوده من علاقات وقيم وأنماط، المجتمع حتى لو كان صالحًا وطيبًا ولم يُقدم للشاب أية إساءة؛ إذ الهدف هو تكوين «ذات» مُستقلَّة، ولكي تكون مستقلة لا بد أن يكون لها أحلامها الخاصة، وسلوكها الخاص، وتمرُّدها الخاص، وكرهها الخاص لكل ما هو كائن. ثورة الشباب إذن (أو ما نُسمِّيه المراهقة) هي الثورة الثالثة الأخيرة في حياة الإنسان منا؛ تلك الفترة التي تُحدد ملامح شخصيته، والتي تضع اللمسات الأخيرة لشكل الرجل القادم المُقبِل؛ إذ سيكون على هذا الرجل أن يُحقق كل أجنَّة الأحلام والرغبات التي تتكوَّن في نفس هذا الطفل، الذي بدأ فجأةً يستطيل على الأرض ويصبح له مظهر الرجال.

•••

ولقد ظل المجتمع فترةً طويلة وهو جاهز بهذه الحقائق كلها، يُطالب الطفل أن تكون له قيم وأخلاق الرجال السائدة، وإذا عنَّ له أن يُراهق ويقوم بثورته المهمَّة الثالثة، فعَلى أبيه بالذات تقع مهمَّة أن «يُقوِّم» فيه هذا «الاعوجاج»، في حين أنه ليس سوى عملية «الاستقامة» الحقيقية لشخصية ذلك الكائن الحي الجديد.

ومعظم أمراض الرجال لا تنشأ فقط عن طفولةٍ تعِسة محرومة قضَوها، وإنما أيضًا من معاملةٍ بالغة السوء والقسوة وعدم الفهم عُومِلوا بها، وقُوِّمت بها ثورتهم الثالثة ثورة المراهقة، وما هي بمراهقة، وإنما هي في الحقيقة عملية تأصيل لكائنٍ كان قبل هذا مثله مثل الجميع، وإنما بثورته الثالثة يؤكد وجوده الخاص الذي سوف يحمل بصماته الخاصة إلى الأبد.

ويُخيَّل إليَّ أننا في بلادنا العربية أكثر شعوب الأرض جهلًا في مواجهة هذه الثورة الثالثة، إما بإجهاضها تمامًا، وقتل الشخصية المستقلة للرجل المُقبِل، وإما بالاستسلام تمامًا لها بالتدليل والتلبية لكل رغبات هذا الرجل المُقبِل، لم نُدرِك بعدُ أنها ليست مسألةً هينة، نُسمِّيها فقط مشاكل المراهقة، وما هي بمشاكل، وما هي بمراهقة، وإنما هي ثورة ميلاد ثالثة لخروج الفراشة من الشَّرنقة، إذا قُوبِلت بعنفٍ أشد مما يجب اختنقت، وإذا قُوبِلت باستسلامٍ ضعيف خرجت غير قادرة على تحمُّل مشقَّة المشوار الطويل؛ مشوار الحياة.

أجلُّ عيب هذه الأبوة أو الأمومة فينا، أنها إما أبوة نُحاول أن نتلاشى بها كل ما وقع علينا من قسوة ونحن صغار، فتترك للطفل ثم للصبي الحبل على الغارب، وكأنه كما يقولون «حيلة أمه وأبوه»، أو نفعل العكس تمامًا، وبقسوةٍ ضارية، نُحاول أن نفرض على الطفل ثم الصبي أو الصَّبية من أبنائنا وبناتنا نموذجًا حديديًّا رسمناه لهما، إما استيحاءً للنموذج الذي نشأنا عليه، وإما تصورًا مُتزمتًا لما نعتقد أنه الصحيح في طريقة التربية.

ولكن بمُلاحظاتي الشخصية بدأتُ أرى الحالة الأولى هي التي تستشري وتعمُّ، حتى أصبحت مشكلة كل أم وكل أب أن «يُخلف» والسلام. ماذا يفعله بهذه «الخلفة»؟ كيف يُربيه؟ كيف يُواجه تصرفاتٍ ونزواتٍ ومواهبَ كامنةً فيه هو المسئول عن وجودها؟ فتلك قضية لا أهمية لها بالمرة.

النتيجة أن لا تربية الأمهات موجودة في البيت، وطبعًا في المدرسة؛ إذ هي لم تفقد فقط دورها التربوي، وإنما فقدت بالأعداد الكبيرة دورها التعليمي، حتى بتُّ أعتقد أن كل أجيالنا تحت ١٤ سنة تُربي نفسها بنفسها، تُربي نفسها «شيطاني».

وكلمة التربية، ولا أدري لماذا، مقرونة في أذهاننا بالزجر أو بالإكراه أو الجبر على سلوك منهج بعينه في الحياة، في حين أنها في حقيقتها يجب أن تُستبدل في أذهاننا بكلمة «الرعاية»؛ فالمُربي هو أساسًا جنايني دورُه أن يرعى الياسمين حتى يُزهِر، وأن يعرف الفرق بين طريقة معاملة شجرة السنط من شجرة الجوافة؛ فالأطفال ليسوا مجرد أطفال، إنهم كائناتٌ حية لا تتشابه أبدًا، كلٌّ منها هو برعم شخصية إن كانت ترث بعض الخواص عن الوالدَين والأجداد، فهي لها «نوعها» المُنفرد، وفي حاجة إلى أن يعي مُربيها أو أبوها أو أمها بنوعها المُنفرد هذا، ويفكر طويلًا في الطريقة المُثلى لمعاملته إذا أخطأ والثواب إذا أصاب، إذا اكتشف اعوجاجًا في شخصيته كيف، وبمنتهى الحرص والدقة، يُواجهه ويسنده ليستقيم. إن عملية تربية شجرة مسألةٌ في حاجة إلى خبرة وإلى دراسة وتمرُّس شديدَين، فما بالك بمسئولية تربية امرأة أو رجل أذكى وأعمق وأغرب الكائنات الحية على الإطلاق؟

وبصراحة وأقولها وأمري إلى الله، لقد كففنا عن تربية أولادنا وبناتنا تمامًا منذ بدأنا ننفتَّح على عالم ما بعد الحرب، وتجتاح الشبابَ هناك موجاتٌ لا تلبث آثارها وأصداؤها أن تنتقل إلى هنا، ونقف نحن حيارى ننظر ببلهٍ شديد إلى ما يحدث؛ فهي مشاكل لم يُواجهها آباؤنا، ولا علَّمونا كيف نُواجهها. لا عادت طريقة «اخرس يا ولد يا قليل الأدب» والرن بالقلم تصح، ولا طريقة إطلاق السراح للولد أو البنت يصنع أو تصنع ما تشاء تصلح، وانقطع ذلك الاتصال، أو بالضبط ذلك الحد الأدنى من الاتصال الواجب بأن يقوم ويمتدَّ بين الأجيال؛ إذ هو «كابل» القيم البشرية الذي يمتدُّ لينقل التراث ويُضيف، ويجعل من البشر بشرًا أرقى كلما غوَّر في أرض الحاضر والمستقبل.

•••

وهكذا فالإنسان يكاد يموت من الضحك وهو يتفرَّج على أين وصلنا؛ إذ أصبحت القيمة التربوية الوحيدة المتَّفَق عليها في مجتمعنا لنجاح التربية أو فشلها، لنجاح الشاب أو الفتاة أو فشلهما، هي موقفه في الثانوية العامة، وبالضبط مجموعه.

وأكتب هذه الكلمات ومصر من أقصاها إلى أقصاها مشغولة بالتتميم على هذه القيمة، فليفعل الولد أو البنت أي شيء ما دام سيأتي بمجموعٍ هائل في الثانوية العامة؛ إذ إن ذلك المجموع لن يُحدد رجولته وقيمه وأخلاقه ومُثله العليا فقط، ولكنه أيضًا سيرى المجتمع وعلى الفور إن كان فلان قد نجح في تربية ابنه أو أولاده أو فشل. أي وضع خطير صِرنا إليه؟ أن ينتهي المجتمع إلى القيمة الوحيدة الرفيعة القيمة فيه، أو التي تُحدد درجة صاحبها، ليس فقط من النبوغ، ولكن أيضًا من السلوك ومن الأخلاق، وهي مجموعه في الثانوية العامة، أو نجاحه أو فشله فيها.

إنه لمشهدٌ مُرعب.

فأولًا طريقة التعليم عندنا قديمة ومُستهلَكة، لا تمتحن في الطالب إلا قدرته على الحفظ؛ أي هو في مجمله اختبار للذاكرة، والذاكرة ما هي إلا خاصيةٌ واحدة من خواصِّ العقل الكثيرة جدًّا. وثانيًا نحن نسير على نُظمٍ امتحانية واختبارية إرهابية تركها العالم الحديث كله، وأصبحت فيه مدارس جديدة وتطويرٌ هائل، وتغيير التعليم من وسيلة لملء عقل الولد بأكبر كم من المعلومات والأرقام إلى نظامٍ يُعلم الإنسان، ويُنمي فيه القدرة على الخلق والابتكار؛ أي القدرة على «استعمال» المعلومات الموجودة في الكتب، وفي أرشيف العقول الإلكترونية، والميكروأفلام. الإنسان المُتعلم، كما يجب أن يكون الإنسان المُتعلم، أصبح هو ذلك القادر على ابتكار الحلول للمشاكل. ونُظمُ التعليم في معظم أنحاء العالم تغيَّر هدفها من تخريج آلات حفظ صمَّاء، إلى تخريج مُبتكرين ومُخترعين، وباختصارٍ أناس يقومون بأشياء غير الوظائف التي يمكن أن يقوم بها أي إنسان آلي وأي ماكينة حاسبة.

تصوَّروا الكارثة أن يصبح هذا المقياس المُتعفن لنظام تعليم مُتعفن هو المِقياس «التربوي» الوحيد في حياتنا.

إذا اجتازه الولد أو البنت بنجاح، فهو الملك أو الملكة قد تُوِّجا ونالا على أداء هذا الواجب البسيط، أبسط الواجبات في حياةٍ حافلة مُقبِلة، نالا عليه كل ما تستطيع العائلة والمجتمع من حولهما منحه، وبأقصى ما يستطيعون من سخاء، وإذا فشل وفي أغلب الأحوال لا يكون السبب «فساده»، بقدر ما يكون مشاكل نفسية بينه وبين والدَيه أو بينه وبين المجتمع لم يستطع حلها. إذا فشل لأنه ثار — بلا وعيه — على كرابيج الأوامر بالمذاكرة التي تنهال عليه حتى من البقال والبواب، إذا فشل لأي سبب من الأسباب، فقد حدثت الكارثة الرهيبة، وارتكب «السقوط» الأعظم، ويسقط من غربال الحياة. طبعًا لا أحد يقول له هذا، بل الجميع يُحاولون مُواساته في جنازة نفسه، ولكنه بحاسَّته الإنسانية البسيطة يُدرك من خلال العيون والنظرات، وأحيانًا الهمس الذي لا يسمعه، يُدرِك أنه «خاب»، وأنه حثالةٌ بشرية، وأن لا فائدة.

•••

والكارثة أن امتحان الثانوية العامة يُوقَّت والشابُّ يجتاز أعنف مراحل ثورته الثالثة، أعنف مراحل مراهقته.

أن تُواجه هذه الثورة البنَّاءة المفروض أن تخلق وتُجدد وتُشكل مصير إنسان هو الذي سيصنع مستقبل أمة، أن تُواجه بمؤامرةٍ كونية على هيئة ثانوية عامة هي في رأيي أبشع ما يُصنَع لتخريب نفوس بريئة، بدلًا من رعايتها كي تجتاز الأزمة إذا بها تُواجَه بمحاكمةٍ عسكرية فورية، وإما براءة رغم براءتها تُشوه حتمًا مقاييس وملامح داخلية، وإما حكم بالإعدام اجتماعي لا نقض فيه ولا إبرام.

وأنا لست تربويًّا، لا أعرف الحلول التربوية لهذا كله، ولكن ما أعرفه حقًّا هو أن مصر مليئة بعشرات من حملة الدكتوراهات في التربية، ومئات ممَّن يدخل هذا الموضوع في صميم اختصاصهم، ومعنى هذا أنهم يرون هذه الصورة التي حاولت رسمها بسرعةٍ مُكبرة عشرات المرات، فكيف وهم العارفون يسكتون إلى الآن على هذه الجريمة؟ هذا الذي يُسبب ضياعًا تامًّا لشبابنا بمختلف طبقاته وفئاته، هذا الذي يُخرج لنا إذا أخرج أناسًا كانوا آدميين، ثم أحلناهم نحن إما بجهلنا وإما بعِلمنا وإما بطُرقنا إلى ما نراه الآن مُعربِدًا في شوارع مُدننا، فاغرًا فاه ليُخرج أقبح ما يُقال في مدرَّجات كرتنا، يعوي في ظلام سينماتنا، يُدمر نفسه، ولو الود وده لدمَّرنا معه ودمَّر كل شيء.

سيداتي سادتي.

الجلسة ما زالت مستمرة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤