غطاء فانوس النور

كثيرًا ما تُطمَس أصالة المصريين، تطمسها الأحداث المَهولة التي لم تتركنا، منذ ربع قرن أو أكثر، يومًا، تطمسها الأحداث اليومية الصغيرة التي تطنُّ طوال ساعات الليل والنهار كالذباب المُقلِق، تُعمي الآذان والإدراك والعيون. كثيرًا ما يتُوه الواحد منَّا في الشعب ويتُوه الشعب منه، ويُحسُّ بنفسه غريبًا وسط غرباء، لا يعرف ولا يعرفون عنه شيئًا، بل كثيرًا ما يبلغ السيل الزُّبى، ويضيق الإنسان بنفسه وبالمصريين وبمصر، وحظه العاثر الذي أحياه في هذا العصر، لماذا لم يوجد أيام كان تعداد الشعب عشرة ملايين؟ أيام كانت الأسعار تُدغدغ ولا تكوي بالنار، أيام لم يكن في مصر نفير ولا زعيق أو ضجيج. أنا شخصيًّا كنت أُفضل لو وُجدت في عصر رمسيس الثاني، فما دام جلالته قد عاش وحكم إلى سن السابعة والتسعين، فمعنى هذا أنه كان خالي البال والمزاج، ولا يمكن لملكٍ أن يكون خالي البال والمزاج إلا إذا كان شعبه هو الآخر خالي البال والمزاج.

كثيرًا ما تتُوه منا حقيقة شعبنا وكثير من صفاته التي جعلته على هذه الدرجة من الرُّقي وطول البال والإقبال على الحياة، برغم أن كل ما فيها يدفعك دفعًا لمُغادرتها.

إلى أن يحدث مرةً حادثٌ صغير جدًّا، وكأنه القشة التي تكشف عن ظهر البعير، مثل ذلك الحادث الذي جرى لسيارتي على يد مبتدئ في القيادة، وأستاذ في خرق القانون وارتكاب المخالفات، وجعله يخبط «رفرفه» في رفرف سيارتي، ويخلع غطاء فانوس النور.

وفي العادة، وحين كانت العربة جديدة، كنت ما يكاد يحدث هذا حتى أُسارع، وفي الحال، بتركيب غطاء فانوس جديد، ليس للوجاهة، ولكن إدراكًا مني لأهمية صيانة السيارة، بحيث إن إهمالًا لقطعة منها تفسد ممكنٌ أن يتراكم الفساد بحيث تجد سيارتك بعد بضعة أسابيع «كهنة».

أما وقد قدمت السيارة وناهزت الاثنَي عشر عامًا، وأنا الآخر قد كبِرتُ اثنَي عشر عامًا، وفقدتْ هي جِدتها وفقدتُ حماسي، فلم أجد في نفسي رغبةً عاجلة في إصلاح غطاء الفانوس المذكور.

وهكذا وجدت نفسي أمرُّ بالتجربة الغريبة.

الغطاء لم يُنتزع تمامًا من مكانه، وإن بقي مُعلقًا بمسمار، على حين إطاره قد تدلَّى أمام الزجاج الأمامي.

وبدأت المسألة بالعربة التي توقَّفت بجواري في الإشارة، وأشار سائقها الذي كان واضحًا أنه مالكها إلى ناحية الفانوس، ولم أفهمه، ففتح زجاجه وفتحتُ تأدبًا زجاجي، وقال: غطا الفانوس ح يقع. وتنبَّهت وهززت رأسي شاكرًا مُقدرًا، ومضى بعربته، ومضيت، وفي أول ملف، أشار لي سائق عربة نقل هائلة الضخامة، أشار لي من «عليائه» على الفانوس، وفهمت، وهززت رأسي شاكرًا، فعاد يُشير ويُلح، بل أوقف من دورانه، فاضطررت لإيقاف دوراني، وشرح لي بيدَيه، وصوته الذي لم يصلني أبدًا من ضجة موتوره، ما يريد، واضطررت أن أتبادل معه التمثيل الصامت، وأشرح له أني أعرف المشكلة، وأن الغطاء لم يعُد يصلح لإعادة التثبيت، ولا بد من تغييره، وشكرني هو هذه المرة، ومضى، ومضيت بعد أن أفرجت عربته الطويلة عن عربتي. وطوال الطريق من بيتي إلى الأهرام كنت ما أكاد ألمح السائق الذي يُجاورني أو الذي سبقني يُشير حتى أُسرع وأُفهمه أني عارف وفاهم، فإذا ألحَّ أُفهمه بالإشارة أيضًا أن الغطاء حالة ميئوس منها. وفكَّرت بعد اليوم الأول أن أذهب لصديقي الدكتور الذي ورث محل قطع غيار السيارات عن الرجل الطيب المرحوم والده، فترك الطب وتفرَّغ للمحل، فكَّرت أن أذهب، ولكني كنت مُتعَبًا، فقلت: إلى اليوم التالي.

واليوم التالي كانت مشغولياتي أكثر، ومشاويري معظمها في وسط البلد، حيث المرور بطيءٌ بطيء، وحيث لا أقلَّ من عشرين مرة لفت نظري لغطاء الفانوس المخلوع، ومائة مرة هززت رأسي أني أعرف وأن لا فائدة منه، وكل مرة والابتسامة الحلوة تُطل من وجه السائق أو الراكب وهو يُحاول لفت نظري، أتساءل:

أليس هؤلاء هم السائقين الذين كانوا يغيظونني تمامًا بمُخالفاتهم لكل قواعد الذوق والمرور؟ أليس بعض هؤلاء هم من كنت ألعنهم سرًّا وأحيانًا علنًا؟ ما لهم هكذا قد تحوَّلوا بقدرة قادر، وأصبحوا على مثل هذا الظرف والحرص على لفت نظري إلى شيء لا أهمية بالمرة لو سقط الغطاء أو حتى تدشدش الفانوس.

وأشياء غريبة جدًّا حدثت لي وأنا مُسرع فوق كوبري أكتوبر؛ تُسرع العربة التي بجواري بمغامرة حتى تسبقني؛ ليتمكَّن صاحبها أو سائقها من لفت نظري. عربات السوزوكي النقل الصغيرة التي تجعل عيني طوال قيادتي وسط رأسي من كثرة مروقها بين العربات، وتعرُّضها وتعريض غيرها للحوادث، مُستغلةً صِغر حجمها ورخص ثمنها لتنتشر كفئران الطريق، مئات من فئران الطريق لا تعرف إن كانت ستعبُرك من يمينك أو يسارك، أو ستدخل وتصبح على المقعد الذي بجوارك، سائقوها كانوا أكثر الجميع إيجابية وشهامة؛ فقد استغلَّ كثيرون منهم صِغر حجم العربات، ويمرقون مُعرِّضين سيارتي نفسها لحادثة؛ فقط من أجل أن يسبقوني، ويلتفت سائقها ناحيتي كليةً ليُنبهني لغطاء الفانوس المعلَّق، غير مُنتبه أنه وهو يفعل هذا قد كف عن النظر أمامه تمامًا وهو المُسرع، وعرَّض نفسه لتصادُم.

مرةً سبقتني عربة وتوقَّفت فجأة أمامي، ونزل سائقها وأشار إلى الفانوس بعدما توقَّفت فجأة جبرًا أنا الآخر، وحين حاولت إفهامه استحالة إصلاحه، لم يقتنع إلا بعد أن حاول أكثر من مرة تثبيته، واستعمال جزء من علبة سجائره كتخشينة دون فائدة. حتى السيدات، واحدة من شدة حرصها جعلت السيدة الراكبة بجوارها هي التي تلفت نظري، والأخرى همَّت بلفت نظري، وحين لمحتني غلبها الارتباك، وصرفت النظر عن المحاولة. شرطي المرور، صِبيان عربات النقل. ركاب الأتوبيسات المُتشعبطون المُتزاحمون عند الباب، يتركون الوضع الرهيب الذي هم فيه، وينزع أحدهم يده القابضة على حديد العربة مُغامرًا؛ ليلفت نظري.

بربكم.

أي بلد من بلاد العالم يحدث فيه هذا؟ واختر ما شئت من أرقى وأنبل شعوب الأرض، وقارِنْ ما فعله كل هؤلاء بما كان يمكن أن يحدُث لو كنت في ألمانيا أو روسيا أو أمريكا أو اليابان أو أي مكان.

في مبدأ الأمر كنت أُحرَج وأضيق بتلك الشهامة الزائدة عن حدها، ولكن بدأت أنفض عن نفسى عصبية السائق، وأتأمَّل الأمر في هدوء، وأبدأ أرى ما يحدث على ضوءٍ آخر تمامًا. إن هذه الأيدي المُلوِّحة، والعيون التي ألمح فيها الرغبة في لفت نظري إلى ضررٍ ممكنٍ أن يلحق بي، تجعلني لأول مرة ومنذ زمنٍ بعيد، منذ لم يكن هناك هذا الازدحام الهائل، والكثرة الضاغطة على الأعصاب، تجعلني أُحسُّ أن هؤلاء الناس يفعلون هذا بإحساس أننا عائلةٌ واحدة كبيرة، إحدى وظائفها أن تمنع الأذى عن أي فرد من أفرادها.

رحت أتلقَّى الأيدي المُلوِّحة والأصوات اللافتة لنظري على أنها مناديل حبايب بيض تُلوِّح لي بالتحية، وتُشعرني أني بين أهلي، وتُشعرهم أني واحد منهم.

لفت نظري كل مرة، مُستغرق في اللحظة، ولدى كل لحظة، أُحسُّ أن تيارًا من الأخوَّة المصرية، يعبُر، كالفرحة المُكهربة، قلبي.

أبدًا، لا يمكن أن يفعل هذا أي شعب من شعوب الأرض، وقد جُبتها كلها أو كِدت.

فقط هذا الشعب الجميل الرائع، المدفونة إنسانيته تحت تلال المشاكل الكبيرة والصغيرة، الدائخ بانشغال البال وتراكم الهموم، هو وحده القادر على هذا العطاء.

عطاء استمتعتُ به تمامًا حتى فقدت الرغبة في تصليح الفانوس؛ فكأنه قد أصبح يدي الممدودة بالسلام، وكأن كل لفت نظر من مُواطن يده تُطبق على يدي بشوق وحرارة وتُسلم علي.

واللهِ أوحشنا حبُّك كثيرًا يا شعب. عبرت الفكرة بخاطري ودمعت عيوني. أُحبكم أيها الناس، أنَّى لي بعمرٍ آخر أسفحه رخيصًا من أجلكم؟ أنَّى لي؟ حتى أنت يا أمين الشرطة الذي جئت تُحرر لي مخالفة انتظار، لفت نظري لا عن مزاولة لوظيفة، وإنما خوف من «أن يقع ويضيع خسارة».

شكرًا لك.

وآسفًا انتهزت فرصة وقوفي وهبوطي من السيارة ومُجاورتي للغطاء، ومددت يدي أنتزعه من مكانه وأقذفه بجوار الحائط؛ حتى أوفِّر عليهم مشقة إتعاب أنفسهم ومصافحتي يدًا بفانوس.

ولكن ما جاش في صدري من عواطف كان فعلًا وكأنما أُزيحَ الغطاء عن فانوسٍ ضوئيٍّ قويٍّ أراني من أكون، ومن يكونون، ومن جميعًا نكون؛ أرقى شعب على سطح الأرض.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤