ما العمل؟

السؤال إذن: ما هو الحد الأدنى من المستقبل الكفيل بطمأنتنا؟

أو بمعنًى آخر: ماذا نفعل للخروج من المأزق الواقع؟

أكتب لكم هذه الكلمات وأنا في زيارةٍ خاطفة للعراق، والحق أني منذ لحظة وصولي إلى بغداد وأنا مذهول حقًّا؛ فأنا كنت قد وطَّنت نفسي على أني ذاهب إلى بلاد لها أربع سنوات وهي تخوض حربًا ضروسًا متَّصِلة، ضد عدو له جيش كان يُعَد القوة العسكرية الخامسة في العالم. كنت أستعيد صور الحرب العالمية الثانية في الأفلام التي نراها ونقص الطعام والبطاقات والطوابير، و«أخلاق» الحرب التي تجتاح الرجال والنساء الذين لا يُحاربون. الشيء المُذهِل هو أني لم أجد العراق قد ظلَّت على حالها منذ آخر مرة زُرتها في عام ١٩٧٩م. وجدت بغداد أخرى جديدة؛ طرقًا، مباني، مؤسَّسات، فنادق، واحد منها فقط — ذلك الذي أُقيم فيه تكلَّف ٢٥٠ مليون دينار — وبُدئ فيه وانتُهي منه والحرب مُشتعلة وقائمة، وآخر افتُتح بالأمس، ويُعتبر واحدًا من أفخر فنادق العالم، واسمه بابل.

كانت بغداد عام ٧٩، إذا قُورِنت ببغداد التي أراها الآن، قريةً صغيرة، محدودة الطرقات، قليلة المباني الجديدة. وحضرت الجلسات الأخيرة لمهرجان الشعراء الشبان في العراق، وكان به مائة وعشرون شاعرًا شابًّا عراقيًّا كلهم دون الخامسة والعشرين من العمر، وشعرهم رائعٌ نابض بالفتوة والحياة، حتى إن رئيس المؤتمر شاعرٌ عمره اثنان وعشرون عامًا، والقائمون على كل المؤتمر عشرة شعراء شبان، كان تنظيمهم لاستقبال ما يزيد على المائتَين من الشعراء والنُّقاد والكُتاب، وكانت من أدق وأنجح المؤتمرات أو المهرجانات التي حضرتها. حضرت احتفالًا للاتحاد النسائي بعيد ميلاد الرئيس صدام حسين، اشتركت فيه عشر فِرق للفنون الشعبية في أنحاء العراق، وستمائة فِرقة موسيقية، وعشرات الفِرق المسرحية للهُواة وللمُحترفين، استمعت لفِرق الغناء، وأثارتني تمامًا كلمات الأغاني، ونبضها الشعبي السريع القوي، وألحانها الجديدة تمامًا على الموسيقى العربية. وقالت رئيسة الاتحاد النسائي إن هناك أكثر من ألفَي أغنية نُظمت خلال الحرب عن الحرب وعن العراق.

هذا شعبٌ يُحارب، ومن بين كل خمس سيدات منه أو فتيات تجد واحدة على الأقل ترتدي السواد. إحداهن كانت تُغنِّي مع الفِرقة بزيِّها الأسود، وقيل لي إنها قد فقدت أربعة رجال من عائلتها. بناياتٌ جديدة بالمئات، آلاف الكيلومترات من الطُّرق الجديدة والأوتوسترادات. كنت قد وطَّنت نفسي — حتى لا أُصدَم — على عراقٍ كئيبٍ متَّشِح بسواد الموت والخراب والحرب، وإذا بي أجد عراقًا جديدًا كأنما من صُنعِ مردةٍ خرافيين، وكل هذا في بحر خمس سنوات وخلال أربعة أعوام منها شديدة الوطأة. في مكان الرجال والشبان الذين يُحاربون في الجبهة، زحفت المرأة والفتاة العراقية الجديدة تعمل من سائقة تاكسي وأتوبيس، إلى مُصورةٍ صحفية، إلى عاملة أسمنت مسلح. هي في كل مكان هنا، وبالزي العسكري أيضًا، حتى الشعراء بزي الحرب، وكأنما كان العراق ينتظر الحرب لدق بابه، فيستيقظ الشعب يُقاتل ويبني ويعمل بأقصى الطاقة وبالحماس، وقد دبَّ إلى الأطفال أنفسهم، الأطفال في التليفزيون يتحدثون شعرًا، النساء تبرَّعن بكل حُليهن للمعركة. قام العراق.

وأنا أعرف أن الحرب بَشِعة، وأتُّون يشتعل بنار الجحيم، ولكن الآن فقط أدرك حزني في كل مرة دخلنا فيها الحرب وأُوقف القتال بعد أيام أو بعد ساعات، كان شيءٌ حقيقي داخل نفسي يؤكد لي أن استمرار القتال سيصهر الشعب المصري، ويُظهِر كل مزاياه، وتتساقط منه كل عيوبه؛ فالشعوب الأصيلة يسقيها أتُّون الحرب كما يسقي الحديد، ويتحوَّل إلى صلب. ولا أعرف ماذا في الحرب يصنع هذا، ولكن الذي أعرفه جيدًا أن الحرب في جانب منها تُوحِّد الشعب، وتُوضِّح له الهدف ناصعًا شديد الإبهار. والشعوب إذا وجدت الهدف، فإن قُواها الخفية تنتفض كالمارد، وإنسانها يتحوَّل إلى عملاق.

•••

ونعود إلى سؤالنا الأول: ما هو الحد الأدنى من المستقبل الكفيل بطمأنتنا، وإخراج ما تحتويه أعماقنا من قوةٍ مدخَّرة وعزمٍ شديد؟

والإجابة بسيطة إلى حدٍّ مُربك تمامًا، فلا بد أن نصنع لشعبنا هدفًا يسعى إليه.

هدفًا كبيرًا جدًّا، ونابعًا من رغبة شعبنا ذاته، وممتدًّا إلى أحلامه وطموحاته. إن اليابان حين اضطرَّت إلى إيقاف القتال بالقنبلة الذرية حوَّلت التحدي العسكري ضد أمريكا والغرب إلى تحدٍّ صناعي. تبارَزنا في الحرب، واستعمل العدو سلاحًا لا نستطيع قهره، فلنتبارز إذن علمًا وصناعة وتكنولوجيا.

وفي هذه المُبارزة هزمت اليابان الغرب في كل ميادينه، من ساعات سويسرا إلى أحواض صناعة السفن في هامبورج، من أفلام الكاميرات إلى المسجلات والفيديوهات؛ ذلك أن اليابان قد وضعت لها بعد الحرب هدفًا محدَّدًا: بريمم. كلمةٌ كنت أسمعها في كل مكان في اليابان حين زُرتها عام ٧١، لا بد أن تكون اليابان «الأولى» في كل شيء؛ عِلمها هو الأول، صناعتها هي الأولى، مُنتجاتها أول المُنتجات في الاستجابة إلى مُتطلبات الإنسان في كل مكان في الكرة الأرضية.

وبينما كانت الصناعات الأوروبية والأمريكية جامدة على حالها منذ الحرب وما قبلها، اكتشفت اليابان فكرة الخضوع لمزاج المُستهلك، واشترى رجلٌ ياباني حقَّ استعمال اختراع الترانزستور بعشرة آلاف دولار من مُكتشفيه البريطانيين؛ وبهذه الآلاف العشرة أنشأ شركة «سوني»، وحسبتها مرة فوجدت أن قريتنا وحدها واحدة من ملايين القُرى في العالم قد اشترت راديوهات ترانزستور بحوالَي خمسة آلاف جنيه في ذلك العام (عام ٧١).

ومن الصناعات الاستهلاكية قلبت اليابان برامج التصنيع في العالم؛ إذ خلت بعدها مرحلة الصناعات الخفيفة، ثم الصناعات نصف الثقيلة، ثم الثقيلة، وتكاد اليابان الآن تكون على رأس الدول في صناعة الصلب، برغم أنها تستورد جميع مكونات هذه الصناعة من خام الحديد إلى الفحم.

ولكن وراء هذا كله كان ثَمة هدفٌ كبيرٌ أن تكون اليابان هي الأولى.

ونحن أيضًا كنا رائعين حين كنا مُحدِّدين هدفنا القومي في الحصول على الاستقلال والحياد، وتبني القضية العربية، والدفاع عن هذا كله. من حضر منكم العمل في السد العالي، ورأى جيوش العمال كالنمل، البشر تضرب بأيديها الصخر وتشقُّه وتصنع السد وتُغير المجرى، من حضر أو من سمع يُدرِك حقيقة ما أعنيه؛ إذ كنَّا في ذلك الوقت قد جعلنا من بناء السد هدفًا شعبيًّا مصريًّا.

وصحيحٌ أننا الآن مشغولون بتدعيم تجربتنا الديمقراطية، ولكن الديمقراطية وسيلة لدستور حياة، ولا يمكن أن تُغنِي عن هدفٍ أسمى للحياة.

لا بد أن نجد لحياتنا هدفًا.

فلا يمكن أن يعيش الإنسان لمجرد أن يعيش ويتناسل؛ فخير منه في هذه الحالة الحيوان. الإنسان إنسان لأنه كائن يحيا وعيناه على المستقبل، على هدفٍ يعيش الحاضر ليُحققه غدًا، وإلا ضاع منه الحاضر والمستقبل أيضًا.

إني أتوقَّع لتجربة التعدد الحزبي نجاحًا كبيرًا في استتباب الحياة المصرية على أُسسٍ أرسخ بكثير ممَّا كنَّا فيه، بحيث نُطمئن الناس إلى أن كل شيء لن ينقلب تمامًا غدًا، ولكن ما أريد قوله أنه ليس بالاستتباب وحده يحيا الإنسان، وإنما بالاطمئنان القوي على المستقبل، والمستقبل يعني هدفًا ضخمًا على المستوى الجماعي للشعب يتفرَّع إلى أهداف على المستوى الفردي، بحيث يُرتِّب كل إنسان حياته وهي مُرتبطة بالهدف القومي العام.

فتعالَوا نُفتِّش معًا عمَّا نملك وعمَّا نستطيع.

إننا شعب من خيرة شعوب الأرض حضارةً وقدرة، وثروتنا الحقيقية هي إنساننا المصري، والمؤسف تمامًا أننا نفكر في الكثير من المشروعات والخطط، ولكننا لا نكاد نفكر في المشروع الأهم: الإنسان المصري.

إنني كثيرًا ما كنت أضحك وأنا أقرأ عن «إعادة بناء الإنسان المصري»، وكأنه كان منزلًا وقد تهدَّم. أبدًا، لم يتهدَّم الإنسان المصري ولن يتهدَّم مهما حاقت به من ظروف؛ فلقد عاش شعبنا المصري سنوات قحط كان يضطرُّ فيها إلى أكل القطط، وحتى إلى أكل بعضه بعضًا، واستمرَّ ولا يزال مستمرًّا.

نحن فقط في حاجة قصوى إلى جعل الإنسان المصري هدفنا كشعب، وأيضًا كأفراد. إن طاقتنا البشرية كثيفة العدد حقًّا، ولكنها طاقةٌ مُهدَرةٌ مُهمَلة. العمالة المصرية متروكة تمامًا للتلقائية وللجهد الفردي. لا يوجد تنظيمٌ واحد في مصر، كما هو في كوريا مثلًا، هو الذي يتولَّى التعاقد لتصدير العمال، وهو الذي يرعى المصريين في الخارج، ويُقيم لهم الروابط والنوادي والجاليات.

فتعليمنا تدهور إلى درجة لم يعُد يصلح معها إطلاقًا لهذا العصر الذي نحيا فيه.

إنهم في اليابان يُدرسون الترانزستور والكمبيوتر لطلاب المرحلة الابتدائية، في حين أننا حتى في قسم الكهرباء في كلية الهندسة لا نجعل الطالب يُوصل ترانزستورًا واحدًا. تعليمنا نظريٌّ محض، وأعدادٌ هائلة من الطلبة وأكثر صادراتنا البشرية المتصلة هم من أحسن مُدرسينا، في حين أننا أحوج ما نكون لهم.

فلنجعل من العلم والتعلم، من التدريب اليدوي والعقلي على المهارات، من الاهتمام بشبابنا وأطفالنا، وتعويضهم عن كثرة العدد بشدة الاهتمام بكل طفل من أطفالنا، وبكل شابَّة وشابٍّ من شبابنا.

فطاقتنا الشبابية، أي المستقبلية، مُهدَرة تمامًا، ومتروكة للقضاء والقدر. نعم.

لنجعل من الإنسان المصري هدفنا القومي الأول.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤