الجوع الآخر

لم أكُن أتصوَّر أن مُقتطَفًا من جملة، وربما تعبيرًا في حديثٍ عابر للصفحة الثقافية في «الأهرام»، أدليتُ به منذ ثلاثة أشهر أو تزيد، ولم يُنشر إلا من أسابيع، لم أكُن أتصوَّر أن يُثير كل هذه الضجة التي لا معنًى لها بالمرة في رأيي؛ إذ هي ضجَّة لا تمتُّ بصِلة إلى «صلب» الموضوع الذي طرقته؛ فالموضوع الأساسي كان حياتنا الثقافية كلها. ضجة أيقظت فيَّ الطبيب القديم، وجعلتني أجلس على مكتبي في صمتٍ طويل أحاول في أثنائه أن «أُشخص» هذه الحالة؛ هل هي صحية أولًا أم مرضية؟ فإذا كانت الأولى، فما هو وجه الصحة فيها؟ وإذا كانت الثانية، فما هو المرض الحقيقي؟!

والحق أن تفكيري لم يأخذ وقتًا طويلًا؛ فلقد وجدت أولًا أنها حقيقةٌ صحية، والصحة فيها أن طاقة العدوان أو اﻟ AGGRESSION، لا تزال موجودة وبكثرة لدى معظم الفنانين والكُتاب. وطاقة العدوان ليست هي طاقة التخريب أبدًا أو التحطيم؛ ذلك أنها تأخذ هذا الشكل في الحيوانات الدنيا، أما في الإنسان فباعتبارها هي الطاقة الزائدة؛ فهي التي تدفعه للتحرك والنشاط والخلق والابتكار، وبالتحديد يُقاس حجم الفنان أو موهبته بمقدار وقوة الطاقة العدوانية الزائدة عنده.

إذن نحن، كأفراد، أصحَّاء جدًّا، وعندنا بالتأكيد ما نقوله وما نستطيع فعله وخلقه وابتكاره.

ما هي المشكلة إذن؟

المشكلة هي في الجانب المرضي من الحالة، وهو أن هذه الطاقات الخلَّاقة لا يمكن أن تعمل إلا في ظل نظام أو مناخ أو ظروف تخلق لها المسارات الطبيعية الصحية، فتتدفَّق هذه الطاقة بحيث تتحوَّل من «عواطف» و«طاقة» إلى «أعمال» بنَّاءة؛ أعمال تُغري الآخرين على العمل وإخراج ما لديهم من مخازن طاقاتهم.

ولأن هذا المناخ مُفتقَد، والطاقات الزائدة تغلي تريد الخروج، فنحن أيضًا — وهذا هو السيئ — في حالة جوع ثقافي عظيم يكاد يصل إلى مرحلة المجاعة الثقافية.

وقد يهز البعض رأسه ويقول: وهل ملأنا بطوننا حتى تجوع عقولنا؟! فأؤكد له أننا لن نملأ بطوننا حتى تمتلئ عقولنا؛ فالمخ الفارغ لا يُشبِع أبدًا بطنًا خاويًا، وبلدنا — كما قال لي فلاحٌ مصري من قريتنا ذات يوم — مصر مافيهاش فقر، مصر فيها قلة رأي.

وبالقطع كان قصده من قلة الرأي انعدام التفكير والتخطيط وإيجاد الحلول التي تُوفر مئات وآلاف وملايين الجنيهات. ولم أجد هذا الرأي ينطبق على شيءٍ قدر انطباقه على محاولاتنا لتنظيم المرور؛ فالمُضحك أننا كلما حاولنا أكثر ارتبك المرور أكثر. ولقد فوجئت وأنا في طريقي للمطار بأنني لا أستطيع الوصول إلى باب المغادرة؛ ذلك أن مهندسًا «عبقريًّا» خطَّط سلسلة من قصور التِّيه والشوار ع التي لا معنًى لها بالمرة تمنعك حتمًا من الوصول بسلاسة وسهولة إلى مكان السفر، وأيضًا تمنعك من الوصول إلى طريق المطار إذا عُدت، بل إنها لتُجبرك إجبارًا، كما لا يحدث في أي مطار في العالم، على أن تحمل حقائبك حتى لو كان سنك تسعين سنة، وتعبُر بها خمسين مترًا سيرًا على قدمك حتى تصل إلى مكان العربات أو الأتوبيسات.

إذن هذا المهندس العبقري جاء يُكحلها فعماها، وأزهقنا، وتوَّهنا، وبالمناسبة أضاع من ميزانيتنا المُتأزمة مليون جنيه على الأقل، خلق لنا أكبر أزمة مغادرة وأزمة وصول.

وهذا هو بالضبط ما حدث في مجال الثقافة.

كانت ثقافتنا بين الحربَين تسير في تؤدة، ولكنها فعلًا كانت تسبق الخُطا التي يسير بها مجتمعنا بمراحل، ثم جاءت فترة ما بعد الحرب، وبدأت جماهيرنا تغلي وتُنادي بالجلاء وبالثورة، وبدأت ثقافتنا تغلي هي الأخرى وتُفجر.

وجاءت الثورة، وتوقَّعنا مزيدًا من الانفتاح الثقافي والفكري، وفعلًا حدث هذا، ولكن الثقافة روحها شفَّافة كروح الفراشة، ومن السهل عليك بإصبعَين اثنتين أن تُزهق روح الفراشة الثقافة. وحدثت صدامات بين الثورة والمثقَّفين، ونُوقِشت المشكلة حتى هنا في «الأهرام»، ونُوقِشت بتطويل، ولكن دائمًا تبقى الفجوة كائنة وقائمة بين مفهوم الدولة — أية دولة — عن الفكر والفن والثقافة، وبين مفهوم المثقَّفين والفنانين والكُتاب عنها. كلٌّ يحلم بجمهوريته، وينقد جمهورية الدولة على أساس حلمه هذا، وحينذاك لا بد أن يقع الخلاف، وتُمثل الحركة الثقافية والفكرية والفنية الجانب الأضعف، وفي النهاية ترضخ، وتتحوَّل الطاقة الزائدة العدوانية إلى الداخل تنهش الفنان، وتقتله في أحيان، كما حدث لشهيد حركتنا الثقافية نجيب سرور، وكما سيحدث لآخرين ربما أكون بينهم.

•••

ولكن ما حدث في مجال الثقافة، والثقافة كلمة أصبحت من كثرة تكريه الناس فيها وفي القائمين عليها كلمةً ثقيلة على الأذن، مع أنها في رأيي هي الحياة، هي الموسيقى، هي الشعر، هي الذوق الجميل، هي كل ما يُحيل الإنسان المَعدة والغريزة إلى إنسانٍ أرقى وأعظم؛ أعظم استمتاعًا حتى بمَعدته وغرائزه.

ما حدث في مجال الثقافة خلق لدى الكُتاب والفنانين نوعًا من التحدي، حتى لكأن كلًّا منهم كان يريد أن يقوم بثورة ٢٣ يوليو أو ١٥ مايو خاصةً به، ولكن الفنان مهما تحدَّى فهو فرد، والدولة مهما تسامحت فهي أجهزة وموظفون، والذين اختيروا للإشراف على الأنشطة الفنية والثقافية كانوا في أغلب الأحيان موظفين لا يهمُّهم إلا الاختصاصات والمناصب، حتى إنهم قسَّموا الكُتاب والفنانين إلى يمينيين ويساريين، وعناصر هذه العقلية الوزارية لا تعرف أبدًا معنى أن يكون الإنسان فنانًا أو كاتبًا؛ إذ إن المعنى الوحيد الذي يُجبر الإنسان أن يجلس الأيام والليالي، أو يقضي عمره حبيس الحبر والقلم، أو الفرشاة والباليتة، معناه أنه إنسان — بطبعه وكما خلقه الله سبحانه — مُتمرد يريد أن يُغير في الناس ليُغيروا من أنفسهم، وقطعًا إلى الأحسن والأرفع، كما رفعوا الشعار مرة على مسرح توفيق الحكيم.

ولا يمكنك ومن المستحيل تمامًا أن «تُهجن» الكاتب الحقيقي أو تُحيله من مُتمرد إلى إنسانٍ مُستأنس، إنك حينئذٍ تكون قد قمت له بعمليةٍ جراحية استأصلت له فيها جزءه المُتمرد الخلَّاق، طاقته الزائدة، ارتكبت في الحقيقة جريمة قتل إنسان خلَّاق.

وكان الهدف من العقلية الوزارية هو «تأنيس» هذا التمرد، ومواجهة التحدي بالقوة العضلية والفصلية والتعسفية.

وفي النهاية نجحوا، نجحوا ليس في أن يستأنسوا الكُتاب، وإنما في أن يقرفوهم تمامًا؛ وبهذا تفكَّكت أجزاء حركة ثقافية مُتكاملة.

•••

ولكن الأدهى من ذلك أن الحركة الثقافية لكي تكون حركةً ثقافية حقيقية، يجب أن تبيض كل يوم بيضةً ذهبية، وأن تخلق باستمرار أجيالًا جديدة شابَّة تطرب لتمردها — حتى عليها هي نفسها خالقتها — تطرب وهي تراها تنمو وتضرب لها جذورًا وتزدهر. لقد أرسل لي كاتبٌ شابٌّ قصةً، وطلب مني في خطابٍ كله تحدٍّ وعجرفة أن أقرأها، وقرأت القصة وأعجبتني، ولكني رفضت الخطاب؛ ليس لأني بشرٌ أغضب أنا الآخر، ولكن لأنه طلب مني أن أنشرها له إن كنت حقًّا جادًّا في رعايتي للشبان، ولكني كاتب ولست ناشرًا، وليس لي أي منصب إشرافي أو نشري في الصحافة.

وبمناسبة الخطابات، الأستاذ سعيد سالم كاتبٌ روائي إسكندراني كتب روايةً جيدة جدًّا، وكان كريمًا وأهدى لي عمله هذا بحروف المطبعة على كتابه، وأضفى عليَّ من الصفحات ما خجلت منه حقًّا، ولكني سعدت به: «هذا عمل من أعمال الحب، أو كنت أظنه كذلك.» ولكنه بعدَ أسبوعٍ كتب لي خطابًا يطلب مني أن أُبدي رأيي في عمله، ولأنني لا أُبدي آرائي في أعمال أصدقائي الكُتاب الجُدد سرًّا أو في خطاباتٍ خاصة، فآراء الكاتب لا بد أن تُعلَن، فكَّرت فعلًا أن أكتب عن روايته، وهذا ليس شيئًا جديدًا؛ ففي روز اليوسف قدَّمت جيلًا بأكمله من كُتاب القصة القصيرة، وفي مجلة الكاتب قدَّمت الجيل الذي تلاه، وفي الأهرام هنا قدَّمت كُتابًا وكاتباتٍ جُددًا، ولكن الفكرة التي كنت أحبها كان موضوعها تفرضه عليَّ الظروف الآنية التي نحيا فيها جميعًا كمجتمع، وإبداء الرأي في روايةٍ يستلزم ظرفًا مناسبًا، ولكن الأستاذ سعيد سالم كان مُتعجلًا، وكتب لي خطابًا لم يُسعدني؛ لأنه سحب هدية الحب مني، وانقلب من النقيض إلى النقيض، ومن الصفات العظمى التي خصَّني بها إلى ما يُشبِه السباب؛ إذن الهدية كانت لهدف، ولم تكن علامة حب، وقد كان ممكنًا أن أكتب له خطابًا خاصًّا كما فعل الأستاذ نجيب محفوظ، ولكني لا أكتب خطاباتٍ خاصةً أبدًا.

إن لي أخًا مهندسًا في الكويت له خمس سنوات، كتبتُ له فيها خطابًا واحدًا وتحتَ ظرفٍ حادٍّ جدًّا؛ هو وفاة زوجته. لم أكُن أريد أن أروي هذه القصة، ولكن الأستاذ سعيد آثر أن يُدينني بها على صفحات الأهرام. والحقيقة حين قرأتها أحسست بأننا فعلًا، لا ككُتاب أو فنانين فقط وإنما كشعب، حدث له شيء، والطاقات الزائدة أو العدوانية لدى حتى المارَّة في الشارع أو راكبي المرسيدس، قد انطلقت كالرصاص الطائش بلا أي هدف سوى الانفجار، وربما في أقرب الناس إليك.

يا عزيزي سعيد، ستكون كاتبًا كبيرًا، ثِق من هذا، ولكن أخشى أن يجور طموحك على النبي فيك؛ فالنبي فينا هو الإنسان الأعظم ودون مقابل. ونعود إلى موضوعنا.

•••

من الحقائق العلمية المعروفة أن الإنسان إذا جاع تألَّمت مَعدته تطلب الطعام، فإذا جاع وجاع وجاع سكنت الآلام شيئًا فشيئًا، حتى تنقضي تمامًا آلام الجوع وتسدَّ نفسه عن الطعام.

وأنا هنا لا أتحدَّث عن الحركة الثقافية، ولا المناخ المناسب للإبداع.

ولكني أتكلَّم عن جماهير القُراء عن جماهير الشعب. شعبنا أيها الناس في حالة مجاعة ثقافية هائلة، شعبنا يريد أن يعرف؛ فالمعرفة غريزة، والبرامج التي تُقدمها الإذاعة والتليفزيون وحتى الصحافة لا تفتح هذه النفس الغولة، «المصدودة» من كثرة ما انتظرت الطعام.

وفعلًا ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، كما قال المسيح — عليه السلام — إن طعام العقل لا يقلُّ أبدًا أهمية عن طعام الجسد. وإذا كانت الدولة تدفع إعانة دعم لرغيف الخبز بمئات الملايين من الجنيهات كل عام، فإنها تترك رغيفنا الثقافي دون أي دعم، أو حتى رعاية، بل إنها في النهاية أغلقت فرن وزارة الثقافة. وحسنًا فعلت، ولكن كان من المفروض أن تُلغي العقلية التي كانت سائدة في وزارة الثقافة وتخلق وزارةً أخرى، وزارة ثقافة خلَّاقة، وزارة ثقافة عملها أن ترعى، يُديرها المثقَّفون، وتُوضَع في أيديهم مفاتيح التنفيذ، عملها لا أن تختم الناس باليسارية واليمينية المُتطرفة، وإنما أن ترعى الناس جميعًا؛ إذ بهذه الطريقة نصبح «العائلة» التي نادى بها رئيس دولتنا. أما أن ندعم أرغفةً مائعة فلن يقربها القارئ الجائع؛ لأنه يريد كل ما هو حرَّاق فاتح للشهية.

ومرةً أخرى أعود وأقول إننا ونحن نُنادي بالانضباط، فالمفروض أولًا أن يكون انضباطًا نابعًا من النفس، سببه عقلٌ شبع ثقافيًّا وارتوى بالفن والمعرفة؛ إذ بغير هذا لن ننضبط، لن ننضبط وعقلنا جوعان، ووجداننا ظمآن، ظمآن.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤