الفصل الثامن عشر

الأسلوب التصاعدي في مقابل التنازلي

ما من شيء يعوِّض النتائج التجريبية الموثوقة، لكننا كفيزيائيين لم نترقَّب فقط تشغيل مصادم الهادرونات الكبير وتوصله إلى بيانات مهمة على مدار ربع القرن الماضي، بل عمدنا إلى التفكير الجاد طويلًا بشأن ما يجب على التجارب البحث عنه والمعاني المحتملة للبيانات، ودرسنا كذلك نتائج التجارب التي جرت في أثناء هذا الإطار الزمني، وتوصَّلْنا من خلالها إلى معلومات حول الجسيمات والتفاعلات المعروفة، وساعدنا ذلك في توجيه فكرنا.

كانت هذه المرحلة الفاصلة بمنزلة فرصة عظيمة للتفكير على نحوٍ أكثر عمقًا في الأفكار التي لا تعضدها البيانات في الوقت الراهن على الأقل. ونتج عن هذه المساعي الرياضية بعض من المدارك النظرية والأساليب التأملية الأكثر إثارةً للاهتمام خلال الخمسة والعشرين عامًا الماضية. وأشك — شخصيًّا — أنني كنتُ سأفكر في الأبعاد الإضافية أو الجوانب الرياضية للتناظُر الفائق إذا كانت البيانات أكثر وفرةً من ذلك، فحتى إن كانت القياسات التي ستدعم هذه الأفكار في النهاية قد أجريت، كانت الآثار ستستغرق فترة من الوقت لتظهر دون توفُّر المساعي الرياضية السابقة.

يؤدِّي كلٌّ من التجارب والحسابات الرياضية إلى التطورات العلمية. لكن نادرًا ما يكون سبيلُ التقدم واضحًا، وانقسم الفيزيائيون حول أفضل استراتيجية يمكن اتباعها؛ فيستخدم واضِعو النماذجِ الأسلوبَ «التصاعديَّ»، المُشار إليه في الفصل الخامس عشر، للبدء مما هو معلوم من التجارب، ثم تناول الخصائص المحيرة غير المُفسَّرة. ويوظفون عادةً في هذا الأسلوب التطورات التي تتسم بقدر أكبر من الجانب الرياضي النظري. وقد استعرضنا في الفصل السابق بعض أمثلة النماذج المحدَّدة، وكيف تؤثِّر في الأبحاث التي سيجريها الفيزيائيون التجريبيون في مصادم الهادرونات الكبير.

على الجانب الآخَر، يتبع بعض العلماء، لا سيما علماء نظرية الأوتار، أسلوبًا «تنازليًّا» في التفكير؛ حيث يبدءون بالنظرية التي يؤمنون بصحتها — نظرية الأوتار في هذه الحالة — ويحاولون استخدام المفاهيم التي تتضمنها هذه النظرية لصياغة نظرية كمية مُتَّسِقة للجاذبية. تتحقق النظريات التنازلية عند طاقات عالية ومسافات صغيرة، ويشير تعريفها إلى المفهوم النظري بأن كلَّ شيء يمكن استنتاجه من الافتراضات الأساسية التي تحدِّدها نطاقات الطاقة العالية. وبالرغم من أن هذا الاسم قد يكون محيِّرًا لأن الطاقات العالية تتماشى مع المسافات القصيرة، فإنه يجب التذكُّر هنا أن المكونات عند المسافات الصغيرة هي اللبنات الأساسية للمادة. وفي هذا الأسلوب الفكري، يمكن استقاء كلِّ شيء من المبادئ الأساسية والمكونات الجوهرية التي تتحقَّق في المسافات الصغيرة والطاقات العالية؛ ومن هنا جاءت التسمية: «الأسلوب التنازلي».

يستعرض هذا الفصل الأسلوبين التصاعدي والتنازلي، وجوانب الاختلاف بينهما. سوف نتناول الاختلافات، لكننا سنناقش أيضًا كيف يجتمعان أحيانًا للوصول إلى مدارك مميزة.

نظرية الأوتار

على عكس واضعي النماذج، يحاول الفيزيائيون ذوو التوجُّه الرياضي بدء عملهم من نظرية خالصة. فهم يأملون في البدء من نظرية واحدة منمقة واستقاء النتائج منها، ثم يطبقون بعد ذلك الأفكار على البيانات، وأغلب محاولات التوصُّل إلى نظرية موحدة تستخدم هذا الأسلوب التنازلي. ولعل نظرية الأوتار هي أبرز الأمثلة على ذلك؛ فهي تهدف للتوصُّل إلى إطار العمل الأساسي الذي تقوم عليه نظريًّا بعد ذلك جميع ظواهر الفيزياء المعروفة.

يأخذ علماءُ نظرية الأوتار نَقْلَةً هائلة في النطاقات الفيزيائية التي يحاولون خوضها؛ فينتقلون من النطاق الضعيف إلى نطاق بلانك حيث الجاذبية القوية. ولن تختبر التجارب، على الأرجح، صحة هذه الأفكار مباشَرةً في أي وقت قريب (يُستثنَى من ذلك نماذج الأبعاد الإضافية الموضحة في الفصل السابق). لكن رغم أن نظرية الأوتار نفسها يصعب اختبار صحتها، تقدِّم عناصر هذه النظرية أفكارًا ومفاهيم ضمتها النماذج التي يمكن ملاحظتها.

والسؤال الذي يطرحه الفيزيائيون عندما يتخذون قرارًا بشأن الاختيار بين بناء النماذج ونظرية الأوتار هو: هل يتبعون المنهج الأفلاطوني، الذي يحاولون من خلاله جَنْيَ المعارف من بعض جوانب الحقيقة الأساسية، أم المنهج الأرسطي القائم على الملاحظات التجريبية؟ هل يتبعون الأسلوب «التنازلي» أم «التصاعدي»؟ يمكن التعبير أيضًا عن هذا الخيار بأنه «منهج أينشتاين العجوز مقابل أينشتاين الشاب». فكَّرَ أينشتاين، في البداية، في التجارب القائمة على المواقف الفيزيائية، لكنه قدَّر أيضًا الجمال والأناقة، فحتى عندما تناقضت نتائج التجارب مع أفكاره عن النسبية الخاصة، قرَّرَ بثقةٍ (وأثبت قراره صحته في النهاية) أن التجربة لا بد أن تكون خاطئة؛ لأن نتائجها أقبح مما يمكن تصديقه.

ازداد ميل أينشتاين للرياضيات بعد أن أعانته على إتمام نظريته عن النسبية العامة. فنظرًا لما لعبته التطورات الرياضية من دور مهم في استكماله لنظريته، صار لديه إيمان أكبر بالأساليب النظرية في مسيرته المهنية بعد ذلك. لكن النظر إلى أينشتاين لن يحل المشكلة؛ فرغم تطبيقه الناجح للرياضيات على النسبية العامة، لم يؤت بحثه الرياضي اللاحق عن نظرية موحدة ثمارَه قط.

كانت نظرية التوحيد العظمى، التي اقترحها هوارد جورجي وشيلدون جلاشو، من الأفكار القائمة على الأسلوب التنازلي أيضًا. فقامت هذه النظرية على البيانات؛ إذ كان العامل الملهم لتخميناتها هو مجموعة الجسيمات والقوى المحددة الموجودة في النموذج القياسي، والقوة التي تتفاعل بها، لكن النظرية استنتجت مما نعرفه ما يمكن أن يحدث في نطاقات الطاقة البعيدة للغاية.

المثير للاهتمام أنه بالرغم من أن التوحيد يمكن أن يحدث عند طاقات أعلى بكثير مما يمكن لمعجِّل الجسيمات الوصول إليها، كان التنبُّؤ الذي توصَّلَ إليه النموذج الأولي لنظرية التوحيد العظمى قابلًا للرصد. فقد تنبَّأ نموذج نظرية التوحيد العظمى لجورجي وجلاشو باحتمال تحلُّل البروتون، وكان هذا التحلل سيستغرق وقتًا طويلًا، لكن الفيزيائيين التجريبيين جهَّزوا أوعيةً ضخمة من المواد على أمل أن يتحلَّل بروتون واحد على الأقل من البروتونات الموجودة بداخلها، ويخلِّف أثرًا مرئيًّا، ولمَّا لم يحدث ذلك، استُبعِد نموذج نظرية التوحيد العظمى.

منذ ذلك الحين، لم يعمل جورجي أو جلاشو على أي نظرية تتبع الأسلوب التنازلي وتقفز هذه القفزة الهائلة من الطاقات التي يمكننا الوصول إليها مباشَرةً في المعجِّلات إلى الطاقات المستبعدة تمامًا، والتي قد يكون لها نتائج تجريبية دقيقة أو لا يكون لها نتائج على الإطلاق، وهو الأمر الأكثر ترجيحًا. فقد توصَّلَا إلى أنه من المستبعد للغاية إجراء تخمين صحيح لنظرية بعيدة تمامًا من حيث الطاقة والمسافة عن أي شيء نستوعبه حاليًّا.

رغم هذه التحفُّظات، قرَّرَ الكثير من الفيزيائيين الآخَرين أن الأسلوب التنازلي هو السبيل الوحيد لخوض مسائل نظرية صعبة معينة. اختار علماء نظرية الأوتار العمل في سياق صعب لا يمثِّل العلم التقليدي بوضوح، لكنه أدَّى إلى مجموعة ثرية من الأفكار، وإن كانت مثيرة للجدل. وهم يفهمون بعض الجوانب في النظرية التي وضعوها، لكنهم لا يزالون يجمعون أجزاءها معًا، باحثين عن المبادئ الأساسية أثناء ذلك ومطوِّرين أفكارهم الثورية.

والدافع وراء نظرية الأوتار كنظرية للجاذبية لم ينبع من البيانات، وإنما من المعضلات النظرية. فتقدم هذه النظرية مرشحًا طبيعيًّا للجرافيتون، وهو الجسيم الذي تنص ميكانيكا الكم على ضرورة وجوده ونقله لقوة الجاذبية. هذا الجسيم هو المرشح الرئيسي لنظرية الجاذبية الكمية المتكاملة، التي تضم كلًّا من ميكانيكا الكم ونظرية النسبية العامة لأينشتاين، وتتحقَّق بجميع مستويات الطاقة التي يمكن بلوغها.

يمكن للفيزيائيين استخدام النظريات المعروفة لإجراء تنبؤات يمكن الاعتماد عليها عند مسافات صغيرة، مثل النطاق الداخلي للذرة؛ حيث تلعب ميكانيكا الكم دورًا كبيرًا، وتكون الجاذبية مهملة. ونظرًا لأن الجاذبية لها هذا التأثير الهزيل على جسيمات الكتلة الذرية، يمكننا استخدام ميكانيكا الكم وتجاهُل الجاذبية دون أن يكون لذلك أي أثر خطير. يمكن للفيزيائيين أيضًا إجراء التنبؤات بشأن الظواهر عند مسافات كبيرة، مثل الجزء الداخلي من المجرات؛ حيث تهيمن الجاذبية على التنبؤات ويمكن تجاهُل ميكانيكا الكم.

لكننا نفتقر إلى نظرية تشمل كلًّا من ميكانيكا الكم والجاذبية، وتعمل عند جميع الطاقات والمسافات المحتملة، ولا نعلم بوجه خاص كيف نجري الحسابات عند الطاقات العالية جدًّا والمسافات القصيرة جدًّا، مقارَنةً بطاقة وطول بلانك. ونظرًا لأن تأثير الجاذبية أكبر في الجسيمات الأثقل وزنًا والأعلى في طاقتها، فإن الجاذبية التي تؤثِّر على جسيمات كتلة بلانك سيكون لها دورٌ محوريٌّ، وعند طول بلانك الدقيق تلعب ميكانيكا الكم أيضًا دورًا مهمًّا.

وبالرغم من أن هذه المشكلة لا تفسد أيًّا من الحسابات المتعلقة بالظواهر القابلة للرصد — لا سيما الظواهر الموجودة بمصادم الهادرونات الكبير — فإنها تعني أن الفيزياء النظرية غير كاملة. لكن الفيزيائيين لم يعلموا بعدُ كيف يضمون ميكانيكا الكم والجاذبية عند الطاقات العالية جدًّا أو المسافات القصيرة جدًّا حيث تكون لكلتيهما أهمية متشابهة في التنبؤات، ولا يمكن تجاهُل أيٍّ منهما. هذه الثغرة المهمة في فهمنا يمكن أن توجِّه تفكيرَنا بعد ذلك، ويرى كثيرون أن نظرية الأوتار يمكن أن تمثِّل الحل.

واسم «نظرية الأوتار» مستمَد من الوتر المتذبذب الرئيسي الذي شكَّلَ جوهر التكوين الأولي. توجد الجسيمات في نظرية الأوتار، لكنها تنشأ من تذبذبات وتر ما. وتنشأ الجسيمات المختلفة من التذبذبات المختلفة، مثلما تنشأ النغمات المتعددة من وتر الكمان إذا اهتزَّ. ونظريًّا، من المفترض أن تتألَّفَ الأدلة التجريبية التي تثبت نظرية الأوتار من جسيمات جديدة تتماشى مع أوضاع الاهتزاز الإضافية الكثيرة التي يمكن أن تصدر عن وترٍ ما.

لكن معظم هذه الجسيمات تكون أثقل بكثير على الأرجح مما يمكن رصده، ولهذا يصعب للغاية التحقُّق مما إذا كانت نظرية الأوتار تنطبق على الطبيعة أم لا. فتصف معادلات نظرية الأوتار الأجسام المتناهية الدقة التي تحمل قدرًا هائلًا من الطاقة، الأمر الذي يجعل من المستبعد على أي كاشف يمكننا تصوره أن يراها. وتتحقق هذه النظرية عند نطاق طاقة يزيد ١٠ مليارات مليون مرة عن النطاق الذي يمكننا استكشافه بالتجارب باستخدام الأدوات المتوفرة حاليًّا. وفي الوقت الحاضر، ما زلنا لا نعلم حتى الآن ما سيحدث عندما تزيد طاقة مصادمات الجسيمات بمقدار عشر مرات.

لا يمكن لعلماء نظرية الأوتار التنبُّؤ على نحوٍ فذٍّ بما يحدث في نطاق الطاقات التي يمكن بلوغها تجريبيًّا؛ لأن محتوى الجسيمات وغير ذلك من خصائصها الأخرى يعتمد على التركيب غير المحدَّد بعدُ للمكونات الأساسية في النظرية. ونتائج نظرية الأوتار في الطبيعة تعتمد على كيفية تنظيم العناصر نفسها. وفي الصياغة الحالية، تشتمل نظرية الأوتار على عدد من الجسيمات والقوى والأبعاد أكبر مما نراه في العالم من حولنا، والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: ما الذي يميِّز الجسيمات والقوى والأبعاد المرئية عن الأخرى غير المرئية؟

على سبيل المثال، الفضاء في نظرية الأوتار ليس هو بالضرورة الفضاء الذي نراه من حولنا؛ أي الفضاء الثلاثي الأبعاد. بدلًا من ذلك تصف الجاذبية وفق هذه النظرية فضاءً ذا أبعاد إضافية تصل إلى ستة أو سبعة أبعاد مكانية تختلف عن الثلاثة التي نعرفها. وبقدر ما تتسم به نظرية الأوتار من جوانب مذهلة ومتميزة، فإن الخصائص المحيرة، مثل الأبعاد الإضافية، تجعل من الصعب ربطها بالكون المرئي.

وللوصول من الطاقة العالية التي تتحقَّق في إطارها نظريةُ الأوتار إلى التنبؤات عن الطاقات القابلة للقياس، نحتاج لاستنتاج ما ستبدو عليه النظرية الأصلية عند استبعاد الجسيمات الأثقل وزنًا. لكن هناك العديد من الجوانب المحتملة لتجلِّي نظرية الأوتار عند طاقات يمكن بلوغها، ولا نعلم حتى الآن كيف نميِّز بين القدر الهائل من الاحتمالات، أو حتى كيف نعثر على الاحتمال الذي يتشابَه مع عالمنا. والمشكلة هي أننا لم نفهم بعدُ نظريةَ الأوتار بالقدر الكافي لاستقاء نتائجها عند الطاقات التي نراها. فتعقُّد النظرية يحول دون التنبؤ بنتائجها. والصعوبة هنا لا تقتصر على الجانب الرياضي فحسب، وإنما تتمثل أيضًا في عدم وضوح الكيفية التي يمكن بها تنظيم مكونات نظرية الأوتار وتحديد المسألة الرياضية المراد حلها.

وفوق كل ذلك، فإننا نعلم الآن أن نظرية الأوتار أكثر تعقيدًا بكثير مما كان يظنه الفيزيائيون في البداية، وتتضمن قدرًا أكبر من المكونات الأخرى ذات التعددية البعدية المختلفة، لا سيما الأغشية. لا يزال اسم نظرية الأوتار مستخدَمًا، لكن الفيزيائيين يتحدثون أيضًا عن «النظرية M»، وإن لم يكن أحد يعلم حقًّا ما يشير إليه الحرف M.

نظرية الأوتار نظرية مذهلة أدَّتْ بالفعل إلى مدارك فيزيائية ورياضية عميقة، ويمكن أن تشتمل أيضًا على المكونات الصحيحة لوصف الطبيعة في النهاية. لكن للأسف، ثمة فجوة نظرية هائلة تفصل النظرية كما هي مفهومة حاليًّا عن التنبؤات التي تصف عالمنا.

وفي النهاية، إذا كانت نظرية الأوتار صحيحة، يجب أن تكون جميع النماذج التي تصف ظواهر العالم الحقيقي قابلةً للاستنتاج من الأسس الجوهرية لها، لكن الصياغة الأولية مجردة، وارتباطها بالظواهر القابلة للملاحظة بعيد. وينبغي أن نكون محظوظين للغاية لكي نعثر على المبادئ الفيزيائية السليمة التي ستجعل تنبؤات نظرية الأوتار تتماشَى مع العالم من حولنا، وهذا هو الهدف النهائي لنظرية الأوتار، لكنها مهمة شديدة الصعوبة.

مع أن الأناقة والبساطة يمكن أن تكونا علامتين مميزتين للنظريات الصحيحة، فلا يمكننا الحكم على جمال النظرية حقًّا إلا عندما يتشكَّل لدينا فهم شامل لكيفية عملها. واكتشافُ كيف ولماذا تخفي الطبيعة الأبعاد الإضافية التي تشير نظرية الأوتار إلى وجودها يمكن أن يمثِّل إنجازًا مُدهِشًا، والفيزيائيون يرغبون في التوصُّل إلى كيفية حدوث ذلك.

المشهد الطبيعي

من الدعابات التي تضمَّنَها كتاب «الطرق الملتوية» تشبيه معظم محاولات إضفاء الواقعية على نظرية الأوتار بالجراحة التجميلية. فلكي تتوافَق نظرية الأوتار مع عالمنا، لا بد أن يجد الفيزيائيون النظريون سبيلًا لإخفاء الأجزاء التي من المفترض عدم وجودها، مستبعدين بذلك الجسيمات والأبعاد غير المرغوب فيها. لكن رغم أن مجموعات الجسيمات الناتجة عن ذلك تكون قريبة للغاية من المجموعة الصحيحة، فلا يمكننا مع ذلك الجزم بصحتها.

والمحاولات الأحدث عهدًا لإضفاء الواقعية على نظرية الأوتار تشبه تجارب الأداء الفني، فبالرغم من أن أغلب مَن يخوضون هذه التجارب لا يمكنهم التمثيل جيدًا، وبعضهم تخلو وجوههم من أي تعبير، يمكن أن يظهر من بينهم ممثل وسيم وموهوب عند إجراء مجموعة كافية من تجارب الأداء.

وبالمثل، تعتمد بعض الأفكار المتعلقة بنظرية الأوتار على أن الكونَ تكوينٌ نادر — لكنه مثالي — من العناصر. وحتى إذا وحدت نظرية الأوتار في النهاية جميع القوى والجسيمات المعروفة، فقد تحتوي على مجموعة واحدة مستقرة تمثِّل مجموعة معينة من الجسيمات والقوى والتفاعلات، أو على الأرجح تحتوي على مشهد طبيعي أكثر تعقيدًا يتألَّف من العديد من الأودية والتلال الممكنة، ومجموعة متنوعة من الآثار المحتملة أيضًا.

وتشير الأبحاث الحديثة إلى أن نظرية الأوتار يمكن أن تتجسد على شكل العديد من الأكوان المحتملة في سيناريو يتوافَق مع مفهوم «الكون المتعدد»، ويمكن للأكوان المختلفة أن تكون بعيدة بعضها عن بعض على نحو يَحُول دون تفاعلها على الإطلاق — حتى من خلال الجاذبية — على مدار أعمارها، وفي هذه الحالة يمكن أن يحدث تطوُّر مختلف كليةً في كل كون من هذه الأكوان، ولا يتبقَّى منها سوى كون واحد فقط.

وإذا كانت هذه الأكوان موجودة بالفعل، ولم يكن هناك سبيل لإشغالها، فلنا الحق في تجاهلها جميعًا ما عدا الكون الذي نعيش فيه. لكن التطور الكوني يقدِّم سُبُلًا لتكوين جميع هذه الأكوان. والأكوان المختلفة يمكن أن تختلف اختلافًا هائلًا من حيث خصائصها المتمثلة في المادة أو القوى أو الطاقة.

يستخدم بعض الفيزيائيين فكرةَ المشهد الطبيعي مع «المبدأ الإنساني» لمحاولة التعامل مع المسائل الشائكة في نظرية الأوتار وفيزياء الجسيمات. ويشير المبدأ الإنساني إلى أنه بما أننا نعيش في كون يسمح بوجود المجرات والحياة، يجب أن تحمل مؤشرات معينة القِيَم التي تحملها أو قِيَمًا قريبة منها، وإلا فما كنَّا لنتواجَد الآن لنطرح هذا السؤال. على سبيل المثال، لا يمكن للكون أن يحتوي على قدر هائل من الطاقة يجعله يتمدَّد بمعدل سريع للغاية يجعل المادة تنهار في البنى الكونية.

وإذا كان هذا هو الوضع، يلزم علينا تحديد أي الخصائص الفيزيائية يرجِّح تركيبًا معينًا — هذا إن وُجِد — للجسيمات والقوى والطاقة على تركيب آخَر. لكننا لا نعلم حتى أي الخصائص من المفترض أن تكون قابلةً للتنبؤ بها، وأيها ضرورية لوجودنا في المقام الأول. أي الخصائص لها تفسيرات أساسية؟ وأيها لا تتعدَّى كونها مصادَفة؟

أنا شخصيًّا أومِن باحتمالية وجود مشهد طبيعي يحمل تكوينات عديدة محتملة يمكننا الوجود فيها؛ لأن هناك العديد من الحلول الممكنة لأي مجموعة من معادلات الجاذبية التي نضعها، ولا أرى سببًا يجعل ما يحتويه هذا الكون قاصرًا على ما نراه فقط، لكنني لا أرى أن استخدام المبدأ الإنساني كوسيلة لتفسير الظواهر المرصودة كافيًا. والمشكلة تكمن في أنه لا يمكننا أبدًا معرفة ما إذا كان المبدأ الإنساني كافيًا أم لا. أي الظواهر من المفترض أن نتمكن من التنبؤ بها؟ وأيها تحدث لأن «هكذا تجري الأمور» فقط؟ وفوق كل ذلك، التفسير الإنساني لا يمكن اختبار صحته؛ فقد يكون صحيحًا، لكنه سيُستبعَد بالتأكيد إذا ظهَرَ تفسيرٌ أكثر جوهريةً من المبادئ الأولى.

العودة إلى أرض صلبة

من المرجح أن تحتوي نظرية الأوتار على بعض الأفكار العميقة الواعدة، وقد قدَّمَتْ لنا بالفعل معلوماتٍ دقيقةً عن جاذبية الكم والرياضيات، هذا فضلًا عن تقديمها مكونات مثيرة للاهتمام يمكن لواضعي النماذج تتبُّعها، لكننا سنستغرق على الأرجح وقتًا طويلًا حتى نتمكَّنَ من حلِّ النظرية على نحوٍ يسمح بالإجابة عن المسائل التي من المرجح أن نحلها. واستقاء نتائج نظرية الأوتار في العالم الواقعي من الصفر قد يكون أمرًا بالغَ الصعوبة، وحتى إن نشأت النماذج الناجحة في النهاية من نظرية الأوتار، فإن فوضى العناصر غير الضرورية تجعل من الصعوبة بمكان العثور عليها.

وما يدعم منهج بناء النماذج في الفيزياء هو فكرة أن الطاقاتِ التي تُجري عنها نظريةُ الأوتار تنبؤاتٍ محددةٍ بعيدةٌ للغاية عن الطاقات التي نرصدها. فكما هو الحال مع الكثير من الظواهر التي تختلف في أوصافها وفقًا للنطاق، قد يكون من الأفضل تناوُلُ المسائل في فيزياء الجسيمات عند الطاقات الملائمة لنا.

يتقاسم الفيزيائيون أهدافًا مشتركة، لكنهم يختلفون في توقعاتهم بشأن أفضل سُبُل تحقيق هذه الأهداف، وأنا شخصيًّا أفضِّل أسلوب بناء النماذج؛ نظرًا لأنه من المرجح أن تتلقى النماذج توجيهًا تجريبيًّا في المستقبل القريب. وقد أستخدمُ أنا وزملائي أفكارًا مستقاة من نظرية الأوتار، وقد يكون لأبحاثنا بعض التبعات المرتبطة بهذه النظرية، لكن تطبيقها ليس هو هدفي الأساسي؛ فهدفي هو فهم الظواهر القابلة للاختبار. ومن الممكن وصف النماذج وإخضاعها للاختبارات التجريبية، حتى قبل ربطها بأي نظرية جوهرية.

يقر واضعو النماذج أنه لا يمكننا استنتاج كل شيء في آنٍ واحد؛ فافتراضات نموذج ما يمكن أن تمثِّل جزءًا من النظرية الأساسية النهائية، أو يمكن أن توضِّح ببساطة العلاقات الجديدة التي تظل تحمل معانيَ نظريةً أكثر عمقًا. والنماذج نظريات فعَّالة، وبمجرد أن تَثبُت صحة نموذجٍ ما، يمكن أن يقدِّم التوجيه لعلماء نظرية الأوتار، أو أي شخص آخَر يحاوِل التركيز على الأسلوب التنازلي. وتنتفع النماذج بالفعل من مجموعة كبيرة من الأفكار التي تطرحها نظرية الأوتار، لكنها تركِّز بشكل أساسي على الطاقات المنخفضة والتجارب التي تنطبق عند هذه النطاقات.

والنماذج التي تتجاوز حدود النموذج القياسي تضم مكونات ونتائج عند طاقات استُكشِفت بالفعل، لكنها تحتوي أيضًا على قوًى وجسيمات وتفاعلات جديدة يمكن رؤيتها فقط عند مسافات أقصر. ومع ذلك، فإن مواءمة كل شيء نعرفه أمر صعب، والنموذج الدقيق الناتج الذي أعمل عليه أنا أو أي شخص آخَر يفقد غالبًا قدرًا كبيرًا من جماله الأولي. ولهذا السبب ينبغي أن يتمتع واضعو النماذج بذهن متفتح.

يندهش الناس عادةً عندما أخبرهم بأنني أعمل على الكثير من النماذج المختلفة رغم علمي بأنها لا يمكن أن تكون جميعها صحيحة، وأنه من المفترض أن يوضِّح لنا مصادم الهادرونات الكبير أيها صحيح. وتزداد دهشتهم عندما أوضِّح لهم أنني لا أضع بالضرورة قدرًا كبيرًا من الاحتمالات لأي نموذج محدَّد أفكر فيه، لكنني أختار المشروعات التي توضِّح مبدأً تفسيريًّا جديدًا بحق أو نوعًا جديدًا من البحث التجريبي. والنماذج التي أتناولها تكون لها خاصية أو آلية معيَّنَة مثيرة للاهتمام تقدِّم تفسيرات محتملة مهمة للظواهر الغامضة. ومع الوضع في الاعتبار الأمور الكثيرة المجهولة — ومعايير التطور غير المؤكدة — يفرض توقُّع الحقيقة وتفسيرها تحديات هائلة، وسيكون من المُعجِز حلُّ جميع هذه التحديات من البداية.

من الجوانب الجميلة لنظريات الأبعاد الإضافية أنها تجمع أفكارًا من الأسلوبين التنازلي والتصاعدي. فقد أدرك علماء نظرية الأوتار الدورَ المحوريَّ للأغشية في الصيغ النظرية التي وضعوها، وأدرك واضعو النماذج أنه من خلال إعادة تفسير مشكلة التسلسل الهرمي كمسألة عن الجاذبية، يمكن أن يجدوا حلولًا بديلة.

يختبر مصادم الهادرونات الكبير هذه الأفكار الآن، وأيًّا كان ما سيكتشفه فإنه سيوجه بناء النماذج ويقيِّده في المستقبل. ومن خلال نتائج التجارب العالية الطاقة التي سيجريها المصادم، سنتمكَّن من جمع الملاحظات معًا لتحديد أيها الصحيح، وحتى إن لم تتفق الملاحظات مع مقترح واحد معين، فإن الدروس التي تعلَّمناها من بناء هذه النماذج ستساعدنا في تضييق نطاق الاحتمالات لنجاح النظرية.

يساعدنا بناء النماذج في تحديد الاحتمالات، واقتراح حلول تجريبية، وتفسير البيانات بمجرد توفرها، وقد يحالفنا الحظ ونصل إلى الحل، لكن بناء النماذج يمنحنا أيضًا معلومات دقيقة حول ما نبحث عنه، وسوف تساعدنا هذه التنبؤات في استنتاج تبعات أي نتيجة تجريبية جديدة، حتى إن لم تثبت صحة أي من تنبؤات النموذج بشكل كامل. والنتائج سوف تميِّز بين العديد من الأفكار وتحدِّد التبعات — إن وُجِدت — التي تصف الواقع وصفًا صحيحًا. وفي حال عدم نجاح أي اقتراح حالي، ستساعدنا البيانات مع ذلك في تحديد النموذج الذي من المحتمل أن يكون صحيحًا.

إن التجارب العالية الطاقة لا تبحث عن الجسيمات الجديدة فقط، وإنما تبحث عن بنية القوانين الفيزيائية الأساسية مع قدر أكبر من القدرة التفسيرية. وإلى أن تساعدنا التجارب في التوصل إلى إجابات، يقتصر ما نفعله على التخمينات، وسوف نطبِّق الآن المعايير الجمالية (أو التحيُّز) لتفضيل نماذج معينة، لكن عندما تصل التجارب إلى الطاقات أو المسافات والإحصائيات اللازمة للتمييز بين النماذج، سوف نعرف المزيد من المعلومات. والنتائج التجريبية — مثل التي نأمل في أن يقدِّمها لنا مصادم الهادرونات الكبير — ستحدِّد لنا أي التخمينات هو الصحيح، وتساعدنا في إثبات الطبيعة الأساسية للواقع.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤