إعنات وإحراج

كان الإنجليز في مصر يعملون جهد طاقتهم لحساب دولتهم كما بيّنَّا، حتى إذا حانت ساعة العمل لم يكن بينهم وبين فريستهم حائل … ولقد ظلوا متربصين بمصر بعد أن نجحت وزارة البارودي في حل مسألة الميزانية، ينتظرون أن تواتيهم فرصة فيعملوا على تنفيذ ما بيتوا.

وأخيرًا وقع في مصر حادث ما نظن في تاريخ الاستعمار الأوربي كله أن استغل حادث كما استغل هذا الحادث في قبحٍ ما بعده قبح، على بُعد ما بينه وبين السياسة العامة للبلاد، وذلك هو حادث المؤامرة الشركسية المشئوم …

نمى إلى عرابي وزملائه أن فريقًا من الضباط الشراكسة يأتمرون به وأصحابه ليقتلوهم، فكان أن قبضت عليهم الحكومة كما يقضي بذلك واجبها وساقتهم إلى المحكمة فقضت فيهم قضاءها …

وليس في هذا الحادث ما يتصل بالسياسة العامة للبلاد بسبب من الأسباب، وما كانت أية وزارة تستطيع أن تسلك فيه سبيلًا غير ما سلكته وزارة البارودي …

ولكن الطامعين المفترين ما لبثوا أن عادوا يملؤون الدنيا صياحًا وتنديدًا، وتهديدًا ووعيدًا، فقد واتتهم فرصة جديدة بعد أن أفلتت من أيديهم أزمة الميزانية.

ونسي هؤلاء كل شيء إلا تحقيق أطماعهم من وراء هذا الحادث، فكان من أقوالهم وأفعالهم ما هو خليق بأن يسِمَهُم بميسم الخزي والعار، بل ما هو خليق بأن يساق بين أقوى الأدلة وأنصعها على صحة مبدأ القائلين بأن هذه المدنية المزعومة قد أفسَدَت بني الإنسان فزادتهم قربًا إلى الحيوانية، بقدر ما باعدت بينهم وبين ما يرجى للآدمية من سموٍّ …

والحق لقد دَلَّ مسلك دعاة المدنية الأوربية على مبلغ ما يمكن أن يصل إليه غدر الإنسان بالإنسان في عصرنا هذا، وما برح مثل عملهم هذا يوحي إلى ذوي الأحلام من البشر أن الإنسان لا يزال هو الإنسان، وأنه إذا كان ارتقى في شيء ففي وسائل الكيد والبطش، أما غرائزه الأولى — غرائز السيطرة والأنانية — فما زالت بحيث لم يطرأ عليها أي تهذيب على الرغم مما يحلم به الخياليون من حماة الإنسانية …

وإنا لا نجد في بيان مدى ما بلغه هؤلاء الساسة من انحطاط خيرًا من أن نعرض المسألة في وضعها كما حدثت مكتفين بذلك عن كل تعليق عليها، فما يمكن أن يبين كلام ما يقوم في الذهن أو يعتلج في أطواء النفس، تلقاء هذا العدوان الشنيع …

أراد الشراكسة المتذمِّرون من سياسة عرابي والمضللون منهم أن يقتلوه هو وأصحابه من كبار رجال الحركة الوطنية، وقد نمى ذلك إلى علم عرابي من طلبة باشا عصمت قائد اللواء الأول، وهذا علمه من أحد المتآمرين، وهو راشد أنور أفندي الذي خالف إخوانه فسارع إلى إفشاء سرِّهم …

وفي اليوم الثاني عشر من شهر أبريل سنة ١٨٨٢، قبض على تسعة عشر ضابطًا وسيقوا إلى مجلس عسكري أُلِّفَ لمحاكمتهم بعد أن عُرض الأمر على الوزراء وعلى الخديو، وقد جعلت رئاسة المجلس للفريق راشد باشا حسني وهو شركسي، وقد اختير كما ذكر عرابي في مذكراته المخطوطة١ لنزاهته وتقواه واعتداله …
وبعد عشرة أيام بلغ عدد المقبوض عليهم ثمانية وأربعين، وكان من بينهم عثمان باشا رفقي نفسه «وقد اعترف أحدهم وهو القائمقام يوسف بك نجاتي بالمؤامرة، وأقر بأن راتب باشا هو مدبرها، وأنه أغرى الضباط الشراكسة بحضور عثمان باشا رفقي بقتل عرابي، واعترف بعض الضباط المتهمين بما يؤيد اعتراف نجاتي بك.»٢

وقضى المجلس بإدانة أربعين رجلًا منهم رفقي، فحكم بتجريدهم جميعًا من ألقابهم ونفيهم إلى أعالي النيل الأبيض في ربوع السودان … وعوقب بهذا العقاب اثنان من المدنيين مع حرمانهما من الحقوق المدنية، وأحيل خمسة على المحاكم الأهلية، وعوقب راتب باشا المدبر للمؤامرة كما رأى المجلس بالحرمان من الرتب العسكرية والامتيازات والنياشين، ومنع من العودة إلى مصر، وإذا عاد فينفى من فوره … وذكر المجلس أن الخديو إسماعيل هو الذي حرّك المؤامرة، واقترح أن ينظر مجلس الوزراء في مرتباته …

•••

اختلفت الآراء في بواعث هذه المؤامرة الشركسية، ومن هذه الآراء ما ذكره بلنت حيث يعزوها إلى الخديو إسماعيل، الذي وكل بها رجلًا عرف بعداوته القاسية للحركة الوطنية ووجوهها يدعى راتب باشا، وكان إسماعيل يطمع أن يصل بهذه المؤامرة إلى العودة إلى عرشه ابتغاء القضاء على القلاقل والفتن المزعومة التي عجز توفيق عن القضاء عليها كلَّ العجز، وكان يُمنِّي نفسه بأن توافق إنجلترا على ذلك فتقنع به تركيا أو تجبرها عليه …

ويؤكد بلنت هذا الرأي قائلًا: إنه عرفه من جملة مصادر منها إبراهيم بك المويلحي سكرتير إسماعيل، ولقد أَيَّدَ الشيخ محمد عبده هذا الرأي فيما جاء بكتابه إلى بلنت بعد سفره إلى أوربا عن هذه المؤامرة قال: «أما فيما يتصل بالمؤامرة الشركسية على حياة عرابي باشا فليست بذات خطر حقيقي، فإن الخديو السابق إسماعيل أكبر عدو رأته مصر والرجل الذي لا يزال يحقد على ما بلغناه من سعادة، لا يفتأ منذ مدة طويلة يضع ألغام مؤامرته ليدمِّر حكومتنا الحالية ظنًّا منه أن ذلك يمهِّد السبيل لعودته، ولكن الله القادر قد بعثر آماله أدراج الرياح، حيث إن كل مصري يعرف أن عودة إسماعيل معناها خراب مصر.»٣

ولقد بدأت المؤامرة بتذمُّر الضُّبّاط الشراكسة في الجيش مما اتخذه وزير الحربية الجديد أحمد عرابي باشا من إجراءات الترقية، زاعمين أنها إجراءات ظالمة تنطوي على الكيد لهم والانتقام منهم، لا عن جريرة ارتكبوها ولكن لأنهم ليسوا مصريين، ومما غاظهم كما زعموا إلحاق بعضهم بالمناصب الخالية بالجيش المصري في السودان …

والذي يقف على أساليب السياسة الإنجليزية الماكرة في تعكير كل جَوٍّ ترى مصلحتها في تعكيره لا يستبعد أن يكون لمن كان يقيم بمصر من الإنجليز يومئذ أثر كبير في الإيحاء إلى هؤلاء الشراكسة بهذه الآراء لكي تَشِيع فيهم الفتنة، ثم تجاوزهم إلى المصريين فلا تصيب الذين ظلموا منهم خاصة …

ومما يميل بنا إلى الاعتقاد في صحة هذا القول الذي نقول — فضلًا عما أسلفنا بيانه من سوابق السياسة الإنجليزية — ما رمى به الإنجليزُ الوزارةَ الوطنية من التُّهم على ألسنة صحفهم ومندوبيهم في مصر، وبخاصة ما ذكروه من الإفك حول الجيش وسيطرته على كل شيء.

والواقع أنه لم يكن فيما فعل عرابي إلا ما يقتضيه تطبيق القوانين العسكرية الجديدة التي وافقت الحكومة السالفة عليها، فإن تلك القوانين تنصُّ على وجوب إحالة المرضى والذين بلغوا سنًّا معينة على الاستيداع، ولقد دافعت الوزارة بهذا، ولكن الخرّاصين المناوئين لم يحملوا هذا العمل إلا على الرغبة في الانتقام …

ولقد كان ممن نقلوا إلى السودان ستة وثمانون من المصريين وتسعة من الشراكسة فحسب وستة من الأتراك، فأي معنى للكيد والانتقام في هذا؟

ونحن إذا جارَيْنا هؤلاء الكائدين لمصر وحركتها فيما زعموه من أن الوزارة متهمة فلا تصدق فيما تورده دفاعًا عن عملها، فإن فيما كتبه الشيخ محمد عبده إلى صديقه مستر بلنت في كتابه المشار إليه أقوى دليل على براءة عرابي والوزارة السامية مما اتهمت به؛ قال: «أما عن ترقية الضباط التي لا تزال تلغط بها الصحف الأوربية فاسمح لي أن أشرح لك الحقائق، فأول كل شيء إن هذه الترقيات ليست من عمل عرابي باشا وحده ولا كانت رشوة يقصد بها اجتذاب الضبّاط نحو عرابي، فإنها كانت نتيجة للقوانين العسكرية الجديدة التي تقضي بأن يحال على المعاش من يبلغون سنًّا معينة ومن يصابون بالمرض أو التقاعد أو العجز، وقد بدأ تنفيذ هذا القانون من عهد شريف باشا ووضع في قائمة الإحالة على المعاش ثمانية وخمسون وخمسمائة ضابط، ثم أُرسل ستة وتسعون إلى حدود الحبشة وإلى زيلع وأماكن أخرى، وأخرج من الجيش نحو مائة ضابط ألحقوا بالوظائف المدنية، ويبلغ عدد هؤلاء جميعًا أربعة وخمسين وسبعمائة ضابط، فكان من الطبيعي إذن أن تُجرى ترقيات لملء المناصب الخالية، ولا يزال في الجيش خمسون منصبًا يحتفظ بها لخريجي المدرسة الحربية.»

هذا ما ذكره الشيخ محمد عبده ومنه يتبيّن الحق في هذه المسألة. على أننا لو فرضنا أن عرابيًّا قد آثر المصريين بالرقيات وتخطى بذلك نفرًا من الشراكسة، فلن يكون في رأينا مخطئًا حتى في هذا العمل. فحسب هؤلاء الشراكسة ما نالوه من حُظوة طوال العهود السابقة، وبخاصة في عهد رفقي، وذلك على ما كانوا يضمرونه وما كانوا يبدونه من حقد واحتقار لمصر والمصريين، وحسب المصريين وهم أبناء البلاد الذين تجبى منهم الضرائب ما ذاقوا من هوانٍ ومذلة على أيدي هؤلاء السادة الذين استنزفوا دماءهم، واتخذوا منهم عبيدًا وإماءً …

وماذا كان ينتظر من عرابي غير أن يطبق القانون، وهذا أقل ما يفعله رجل هو زعيم ثورة كان هذا القانون ثمرة من ثمارها؟ ماذا كان ينتظر من ذلك الذي ظل طول عمره ناقمًا على حرمان المصريين في الجيش واستئثار الشراكسة فيه بالخير، فلم يكفّ عن الشغب على هؤلاء الشراكسة الباغين منذ أن كان جاويشًا ليس له من الأمر شيء ولم يفتُر عن مقاومتهم ومصاولتهم في كل خطوة خطاها في سلك الجيش حتى انتهت إليه زعامته؟

أجل، ماذا كان ينتظر من هذا الرجل، وما كان حقده على هؤلاء في يوم ما صادرًا عن صغار أو أنانية، وإنما كان مبعثه ما يُحسّ في أعماق نفسه من حماسة وطنية وغيرة قومية هما في مقدمة ما كان يتَّصف به من صفات؟!

ومهما يكن من الأمر فما كان عمل عرابي في أية صورة له، مما يقابَل بالقتل! ولا كان تقديم المتآمرين إلى المجلس العسكري مما يستأهل كل ذلك السِّباب الذي راحت تنبح به جوقات الاستعمار، وهل نسي هؤلاء أن عرابيًّا وصاحبيه قد قبض عليهم في صورة مخزية غادرة تبعث على الاشمئزاز والسخرية، لمجرد أنهم تقدموا ليرفعوا شكواهم إلى أولي الأمر مما كانوا يحسونه من إجحاف بحقوقهم دون أن يفكروا في قتل أحد أو العدوان على أحد؟

وكيف لا يستحي دعاة الاستعمار من أن يلوموا هذا الرجل بالأمس ويتهموه بالفوضى لمجرد أنه شكا أمره إلى رؤسائه، حتى إذا قبضت الحكومة عليه عدّ ذلك منها عين الصواب، ثم يعودون اليوم فينددون به ويستصرخ بعضهم بعضًا عليه لا لشيء إلا لأنه يقدِّم إلى المحاكمة فريقًا ممن يتآمرون على قتله! ألا ما أشد ما تحسه النفس من ضيق وغيظ تلقاء هذه المقارنة بين الموقفين!

واتت الفرصة كلفن ومالت وأشياعهما من الثعالب وبنات آوى، وهيهات أن تواتي الإنجليز فرصة فيضيعوها، لذلك ما كان أسرعهم إلى استغلال الحادث فبدأوا أولًا يذكرون التعصب الأعمى، ثم انتقلوا إلى ذِكْر الفوضى الحكومية، وعدّوا ترقية الوطنيين مظهرًا من مظاهر الرشوة التي أريد بها التأثير في رجال الجيش كي يكونوا على استعداد عند أول صيحة، ثم رأوا في محاكمة الشراكسة مظهرًا من مظاهر الظلم والاستبداد الغاشم قائلين في منطق عجيب ليس مثله في معنى الصفاقة والتبجح: إن المؤامرة وهمية لم توجد إلا في رأس عرابي، وإن الغرض منها لم يكن سوى التخلص من الشراكسة بأي وسيلة، وإن المحكمة العسكرية التي فصلت في الأمر كانت جلساتها سرية فكانت تعمل بما يشير به عرابي، لذلك جاء حكمها في منتهى القوة بحيث لا يقلّ عن الإعدام، ولم يكفهم ذلك حتى يدَّعُوا في جرأة وفي إمعان في القحة أن عرابيًّا كان يذهب إلى السجن فيعذب هؤلاء الشراكسة أيام المحاكمة ويشفي غليل نفسه بمنظر ذلتهم وخضوعهم …

ولقد جعل الأفّاكون الخراصون هذه المحاكمة من أكبر سوءات ذلك العهد ومن كبائر خطيئات عرابي، وحذا المؤرِّخون من الإنجليز حذو الساسة في موقفهم من هذه المسألة، وما كان ينتظر منهم أن يفعلوا غير ذلك، ومن هؤلاء كرومر، وهو رجل كان بحكم صلته برجال ذلك العهد جميعًا يعلم حقيقة الأمر، ومع ذلك طاوعه ضميره على أن يقول في كتابه «لم يظهر دليل جدير بالتصديق ولا ظهر دليل على أن تهمة المؤامرة كانت تهمةً حقيقيةً، وكان حكم المحكمة العسكرية وثيقة وحشية تحمل طابع المظاهرة السياسية أكثر مما تحمل طابع الحكم القضائي، وكان عرابي كثير الظنون شأنه في ذلك شأن كل جاهل من الرجال، ولم تعش المؤامرة على قتله إلا في خياله هو فحسب.»

هذا الذي شاء أدب كرومر أو على الأصح شاءت سخيمته أن يكتبه مع علمه باعتراف بعض المتآمرين بالتهمة …

ولقد أخذ بعض المؤرخين من المصريين هذا الكلام المرسل على عواهنه وشايعوا الإنجليز — وا أسفاه — في رأيهم هذا في عرابي كما شايعوهم في غير هذا من الآراء، الأمر الذي يؤلم النفوس أكبر الألم، فليس يعنينا ما يقول خصوم الوطن وخصوم عرابي، ولكنا نضيق كل الضيق أن تجوز الأباطيل على المصريين في رجل منهم، ومن هنا ضاع تاريخ عرابي وأنكره بنو قومه، ونجح الاحتلال في مآربه فساق الجيل الذي خلف جيل عرابي كما يحب، فأضاف هؤلاء إلى عيب خضوعهم للدخيل فضيحة مشايعته فيما يسبهم به في شخص بَطَل من أبطالهم! …

ويجدر بنا أن نضع أمام عيني القارئ بعض ما كتبه الشيخ محمد عبده تعقيبًا على المؤامرة … قال في كتابه إلى بلنت: «كانت الوزارة يخالجها منذ زمن طويل شبهات عما عسى أن ينجم من شر، فمنذ أن عاد راتب أول مرة إلى مصر، طلب البارودي رئيس الوزراء الحالي وكان يومئذ وزير الحربية، من شريف باشا في حضرة الخديو إخراج راتب، فقد داخلته الريبة بسبب أن راتبًا ترك الخديو السابق فجأة في نابلي، ولكن شريفًا رفض ذلك على الرغم من أن البارودي حمله تبعة ما عسى أن يقع من الحوادث يومًا ما، وكان ذلك لأن راتبًا كان صهر شريف، وربما كان شريف لذلك يرى رأيه في العمل على إعادة إسماعيل.»

ثم قال الشيخ محمد عبده: «وقد أحدث هذا الحادث شيئًا من الهياج بين عامة الناس. إن كل امرئ يعلم أن حياة عرابي معرَّضة للخطر كل يوم كحياة غيره، كما أنه لا يتّفق لرجل مهما يكن من عظمته ألا يكون بين الناس من يريده بالسوء، ولكننا لا يسعنا إلا أن نضحك إذا أعلن أن إنجلترا على وشك الفوضى لأن أحد المجانين من المدنيين أو من العسكريين حاول قتل ملكتكم.»

وليت هؤلاء المغرضين قد اقتصر أمرهم على الكذب والاتهام، فلم يخطوا تلك الخطوة النكراء التي أكدت القطيعة بين الخديو والوزراء وعجلت الكارثة للبلاد، وما كانت ادعاءاتهم إلا مقدمة بدأوا بها ما كانوا يبيِّتون من المكر السيئ … يقول في ذلك بلنت: «وفي تلك الأثناء بلغت الحوادث في مصر مبلغًا عظيمًا من الحرج بسبب المؤامرة الشركسية التي وصلت أنباؤها لندن في الأسبوع الثالث من أبريل، ولم أُعِرْها أول الأمر كثيرًا من الاهتمام، وأخذتها على أنها إحدى الشائعات التي كانت تذاع يومئذ، ولكن سرعان ما أصبحت ذات خطر كبير لا من حيث هي في ذاتها، ولكن بوجه خاص لأنها أمدّت رجالنا السياسيين بالفرصة التي طالما ترقبوها، لكي يوقعوا الخلاف الصريح بين الخديو ووزرائه، وكان مالت يومئذ قد خضع تمام الخضوع لكلفن، وصار منذ ذلك الحين يهتدي في حركاته حتى النهاية بما يعرض كلفن من آرائه الإنجليزية الهندية.»

عرض قرار المحكمة العسكرية على الخديو فأسقط في يده، أيوافق على هذا الحكم فيظهر أمام الإنجليز أنه يظاهر وزراءه فيخسر الذين يظاهرونه هو، أم يرفض التصديق عليه فيُرضي الإنجليز ويقضي على كل أمل في إرضاء عواطف الوطنيين؟

وكان مالت قد أشار عليه برفض هذا الحكم الذي ينطوي على القسوة والظلم على حد قوله، وللقارئ أن يقدّر مبلغ ما في هذا التدخل من تطفّل وقحة؛ إذ ما شأن مالت وهذا الحكم مهما كان ظالمًا كما يزعم؟ وإنهم ليعلمون أن جلسات المحاكم العسكرية كانت سرية حتى في عهد المراقبة، وأن الخديو لا يملك رفض أحكامها، وكل ما له من حق في هذا الصدد هو تخفيف تلك الأحكام بعض الشيء بعد التصديق عليها …

حار توفيق واشتدت حيرته ورأى الأمر جد خطير، وأي شيء أخطر من أن يتحدى وزراءه في غير حق وفي موقف كهذا تحيط فيه بهم الدسائس من كل جانب ويعترض طريقهم من الصعاب ما يتطلب تذليلُه جهودًا متواصلة.

لذلك وقف الخديو أول الأمر موقفًا مبهمًا، وسرعان ما شاعت الشائعات عنه من ناحية، وعن الوزارة من ناحية أخرى، وكلما مر يوم ازدادت ريبة الوطنيين وتعاظم غيظهم وغضبهم، ووجدت الدسائس الجو الصالح لنجاحها، فنشطت نشاطًا كبيرًا، ولازم مالت الخديو يوحي إليه ويوسوس له.

ولم تطل حيرة توفيق؛ فإنه آثر جانب مالت، وخطا بذلك خطوة أخرى من خطواته التي كانت تعجِّل سير الحوادث أبدًا نحو الغاية التي رسمها الإنجليز والتي كان بلوغها من جانبهم معناه الْتِهام مصر وازدراد تلك اللقمة التي طالما منّت إنجلترا نفسها بازدرادها …

ولعلنا نذكر من مواقف توفيق السالفة ما كان يدفع به الحوادث في طريق العنف والثورة دفعًا، فهو الذي أدى إلى انضمام الحزبين العسكري والوطني وتضافرهما يوم تنكّر للدستور، وأخرج شريفًا من الوزارة، وهو الذي تقع على عاتقه قبل غيره مسؤولية مظاهرة عابدين، ثم هو الذي قبل المذكرة المشتركة فأحبط أعمال شريف للمرة الثانية وصدم الوطنيين صدمة لم تدع لهم بعد رجاء فيه.

وليس بعجيب أن تكون خطى توفيق كلها مفضية إلى الاقتراب من الكارثة، فهو إنما يعمل بوحي من الإنجليز. وقد عين هؤلاء الهدف الذي يقصدون إليه بسياستهم، وكان الخديو قد دان بمبدأ نحسب أنه جرى في نفسه مجرى العقيدة، وذلك أن يُؤثر جانب الإنجليز في كل شيء لأن في ذلك كما توهم منجاته من الصعاب التي كانت تحيط بعرشه.

رأى الخديو كما أوحى إليه مالت أن حكم المجلس العسكري على المتآمرين من الشراكسة حكم لا يسعه الموافقة عليه، ورأت الوزارة من جانبها أنها سلكت في المسألة منذ بدايتها مسلكًا لا غميزة فيه، فهي بذلك تتمسك بالحكم الذي أصدره المجلس، هذا إلى أن رَفْض الحكم من شأنه أن يضيع هيبتها وينتقص من نفوذها، ثم إنها إلى ذلك ترى التحيُّز واضحًا من جانب الخديو، ذلك الذي كان يتشدّد بالأمس أعظم التشدد يوم سيق عرابي وصاحباه إلى السجن لا لشيء سوى أنهم شكوا إلى أولي الأمر حالهم … ومن هنا قامت أمام البلاد مشكلة من أدقّ المشاكل وأخطرها …

وكان الذي يُغضب الأمة والوزارة في الواقع أشدَّ الغضب وآلمَه تدخل الإنجليز في تلك المسألة التي لا صلة لهم بها ولا شبه صلة، وأحست الوزارة أن غرضهم هو إحراجها فحسب، ومن هنا اتخذت المشكلة مظهرًا دقيقًا غاية الدّقّة، خطيرًا كل الخطر، فلقد وجد الوطنيون البلاد تلقاء موقف … تمتحن فيه الكرامة الوطنية، والعزة القومية، ورأوا الظروف تعود من جديد فتظهر للخديو أن لا سبيل له إلا سبيل الوطنيين لأنه بانحرافه عن هذه السبيل إنما يطعن البلاد طعنة نجلاء في صميم قوميتها.

ولقد فرح المستعمرون لا ريب أن تتعقد المشكلة على هذا النحو، وزاد فرحهم أنها من صنع أيديهم، لذلك كانوا لا يألون جهدًا في العمل على تفاقمها بكل ما وسعهم من مكر وخبث، وراحت صحفهم تزيد نار الخلاف اشتعالًا لا تتورع ولا تتوانى، ومن ورائها رجال السياسة ورجال المال يصورون مصر في أشنع حالات الفوضى والاضطراب، فلقد سيطر رجال العسكرية وسيطر زعيمهم عرابي على كل شيء حتى ما يقف في طريقه حائل من قانون أو التزامات حتمتها الديون والظروف على مصر …

وكان الخديو في الواقع تلقاء آخر فرصة يستطيع أن ينقذ بها مصر مما كان يبيّت لها، ولكنه ألفى نفسه سليب الإرادة أمام إرادة الإنجليز، بل إنه في الحق قد فَرِحَ أن يلطم وزارة البارودي لطمة يتخلص بها منها ويتخلص من عرابي الذي بات يغار منه أشد الغيرة ويمقته أشد المقت حتى ما يطيق أن يسمع اسمه.

وليت توفيقًا تحرك من تلقاء نفسه، إذن لهان الخطب وخفت وطأة البلوى على النفوس، فقد كان يمكن أن يقال يومئذ إنه ارتأى رأيًا، وإنه ينتوي الخير أو ينتوي الشر حسبما يرى، ولكنه وا أسفاه كان يقوى على الوطنيين بضعفه، فلم يكن يريد شيئًا وإنما كان يراد له كل ما يأخذ أو يَدَعُ من أمر …

وبدا لمالت فأوعز إلى الخديو أن يتخلص من المأزق بعرض الأمر على السلطان، وحجته أن عثمان رفقي يحمل لقب الفريق، فلا يجوز لأحد غير السلطان أن ينزع منه هذا اللقب، وسرعان ما فعل توفيق كما أشار به مالت فزاد الأمور ارتباكًا وتعقيدًا.

ولقد أخطأ مالت خطأً كبيرًا فيما أشار به، فإنه جرجر بذلك تركيا إلى الدخول في ذلك النضال، الأمر الذي كانت تحذَره الدولتان أعظم الحذر، وإن كانت إحداهما تخفيه، بينما الأخرى لا تتحرج من أن تعلنه في كل مناسبة وتبديه …

أما الوطنيون فقد غضبوا لذلك أشد الغضب، ورأوا فيه ضربًا جديدًا من لؤم مالت، فأجمعوا أن يمنعوا تدخل تركيا مهما كلفهم ذلك من وجوه الصعاب والمشاق. وبلغ الغضب برئيس الوزراء أن أعلن في عزم وتصميم: «أنه إذا أرسل الباب العالي أمرًا بنقض حكم المجلس العسكري على الشراكسة السجناء، فإننا لن نطيع هذا الأمر، وإذا أرسل الباب العالي من قبله مندوبين، فسوف لا نسمح لهم أن يهبطوا مصر، وسوف نردُّهم بالقوة إذا لزم الأمر.»٤

وهذه لا ريب ثورة غضب من البارودي نعدُّها من أخطائه، فلقد أفضى بهذا التصريح إلى مالت، وهذا أرسله إلى حكومته وإنه لشديد الاغتباط به إذ يسوقه دليلًا على أن الأمور قد بلغت غاية الحرج، ثم إنه يسوقه من جهة أخرى دليلًا على صحة ما ذكره مرارًا وهو تسلط زعماء الجيش واستهتارهم بكل سلطة. ولم ينجُ عرابي من حملات الكائدين له، وحُمّل مسؤولية هذا التصريح كأنما كان هو قائله، وأرجف المرجفون أن البارودي إنما يعمل بوحي من عرابي الذي يعدُّ الحاكم الحقيقي للبلاد! …

الحق أن البارودي قد أساء إلى القضية إساءة كبيرة بهذا التصريح. فهو فضلًا عما ذكرنا، إنما يتحدّى السلطان في ذلك الوقت العصيب فيضيف إلى أعدائه عدوًّا جديدًا، وإن الذي يحيط به الأعداء من كل جانب لجدير به أن يحتال ليستلَّ السخائم من صدورهم، أو ليكسب من الأعوان والأصدقاء مَنْ يكونون له في الشدة قوة وسندًا.

وكانت النتيجة المباشرة لهذا التصريح استحكام الأزمة بين الوزارة والخديو، فلقد رأى توفيق أنه أصبح في الواقع وليس له من الأمر شيء، فإذا كان البارودي يقف هذا الموقف في وجه السلطان نفسه فكيف إذا جاءت المعارضة من الخديو؟ وهذا هو المعنى الذي لا يفتأ مالت وأعوانه يوحونه إلى الخديو في تلك الأزمة العصيبة.

ولو كانت الوزارة أصرّت يومئذ على موقفها من العناد والصرامة لحملت قسطًا كبيرًا من التبعة عن تعقد الأمور وتحرجها، ولكنها ما لبثت أن خطت خطوة حميدة حقًّا كانت تنطوي على كثير من الكياسة وبعد النظر، فإنها تقدمت إلى الخديو تقترح أن يخفف هو الحكم من تلقاء نفسه دون الرجوع إلى تركيا أو غيرها. والوزارة ترضى أن يُنفى المحكوم عليهم من مصر إلى أي جهة من الجهات دون أن تمس رتبهم أو ألقابهم، وإنما تَستبعد أسماءهم من سجلات الجيش المصري …

وهذا المقترح لا ريب دليل صادق على حسن نية الوزارة ورغبتها في أن تنتهي المسألة وتنجو البلاد من كيد الأعداء، وهي فيما تقدمت به على هذا النحو متساهلة في الواقع أكبر التساهل، فما دام المجلس العسكري قد حكم بإدانة هؤلاء فإن إبعادهم من البلاد يقتضي إبعادهم من سجلات الجيش، ولكن الخديو وا أسفاه قد تنمَّر وتنكّر، فرفض أن يجيبها حتى إلى هذا الاقتراح …

وكان مالت من ورائه لا ينفكّ يوسوس له ويزيّن فعل السوء، وكان جرانفل قد أنكر من مالت ما أشار به على الخديو من دعوة تركيا إلى التدخل، فكتب إليه أن يسير على وفاق مع ممثل فرنسا، وفي هذا تلميح إلى ما كان في سياسته من خطأ، وكان ممثّل فرنسا يسير بوحي من فرسنيه، ولكن عزّ على مالت أن يتراجع بعد هذه الخطوات فينقض ما نسجه من غزل بيده، فانظر إليه كيف يخلع النقاب على صورة قلّ أن يوجد مثيل لها في سجل السياسة العام فيكتب إلى جرانفل قائلًا: «اسمحوا لي أن ألاحظ أنه عند النظر في الخطة التي يجب أن يسلكها الخديو بإزاء حكم المجلس العسكري يجب أن نلقي نظرة عامة على الحال كلها، وأن نذكر أن الوزارة الحاضرة تسعى لتضييق نطاق الحماية الإنجليزية الفرنسية، وأن نفوذنا آخذ كل يوم في النقصان، وقد يستحيل علينا أن نستعيد سلطتنا العليا حتى تخضد شوكة الحكم العسكري الذي يرزح القطر تحته الآن، وفي اعتقادي أنه لابد من حدوث ارتباكات شديدة قبل الوصول إلى حل مرضٍ للمسألة المصرية، وأن الحكمة تقضي باستعجال هذه الارتباكات لا بتأجيلها.»٥

وأي كلام يمكن أن نعلق به على هذا الذي يقول مالت، وبخاصة تلك الحكمة التي يشير إليها؟ أهكذا تطغى المطامع على القول والقلوب حتى تجعل من الحكمة استعجال الارتباكات؟ ولكن خرافة الذئب والحمل لن تزال أبدًا الأساس الذي يقوم عليه منطق الكلام بين القويّ والضعيف في هذا الوجود!

وأي دليل أبلغ من هذا على صحة ما ذكرناه وما يذكره كل منصف عن السياسة الإنجليزية تجاه مصر منذ كان لها في هذا الوادي أطماع؟ ألا إنا لنقرر تلقاء هذا في غير تردد أن هذه السياسة اللئيمة كانت خليقة بأن تقابل من جانب الوطنيين بكل مقاومة، بل إنها لسياسة كان يغتفر في مقاومتها يومئذ كل عنف، ويجب أن نذهب إلى أبعد من ذلك فنقول إنها سياسة كان لا يغتفر معها الاعتدال ولا تمتدح الحكمة، إن كان الاعتدال والحكمة معناهما إقرار المذلة ومقابلة الغدر واللؤم بالصفح والمغفرة!

ولكن بعض الناس لا يزالون يأخذون على عرابي وحزبه تشدّدهم وعدم مصانعتهم خصومهم، ويعدون إباءهم الوطني من السيئات التي لا تُغتفر ولا تُنسى، وما نظن أن هؤلاء الناس يعلمون ما كانت تبيِّته السياسة الإنجليزية لوطنهم من غدر وإذلال، فمن أصعب الأمور أن يتصوّر المرء قبولهم الذلّة على أوطانهم حتى ينكروا على الوزارة ما فعلت …

ورأى جرانفل أن يشايع فرسنيه في هذه المسألة، وكان يرى فرسنيه أن يخفف توفيق الحكم كما ترى الوزارة فتنتهي الأزمة، ولكن كيف يدع مالت الفرصة تمرّ وهي من صنع يديه؟ وكيف يطيق أن تخرج الوزارة من الأزمة ظافرة فيكون ظفرها في الواقع هزيمة له؟ لذلك لم يزل بتوفيق حتى وقع على أوراق الحكم بنفي المتآمرين إلى خارج البلاد لا إلى السودان مع عدم استبعاد أسمائهم من سجلات الجيش، ومعنى ذلك أن النفي مؤقت …

وتلقّت الوزارة اللطمة وتلقتها معها البلاد، وآلم عرابيًّا وضباط الجيش من الوطنيين هذا الترفُّق بالمتآمرين، وقد كان عرابي ومن شايعه على وشك أن يفقدوا رؤوسهم بالأمس أو ينفوا إلى أقصى السودان لأنهم شكَوْا من سوء ما صنع بهم رفقي …

وأعلنت الوزارة على لسان رئيسها أن لابد من قرار يلغي هذا القرار حتى تُمحى الإهانة التي وجهت إلى الوزارة وإلى البلاد في شخصها، ولكن مالت حذّر الخديو أن يجيب وزراءه إلى ما طلبوا، ويستطيع القارئ أن يدرك خطورة هذا الموقف، فلقد تأكدت القطيعة بين الخديو ووزرائه، وانعدمت الصلة وتفاقَمَ البلاء …

وصل كلٌّ من الطرفين إلى الموقف الذي يفسر فيه كل عمل حسب ما يجري في أطواء النفوس، ففي كل حركة ريبة، وفي كل بادرة إهانة، وكل نية لن تكون إلا نية سوء، وكل جنوح إلى السلم لن يؤخذ إلا على أنه ضرب من الهزيمة والتسليم، وكل كلمة نابية أو شديدة لن تفهم إلا على أنها نوع من التحدي يراد به إعنات القلوب وإحراج الصدور …

وفي هذا الموقف راح مالت يجني ثمار غرسه وإنه ليطفر من الفرح كما يطفر الشيطان. كتب إلى جرانفل في اليوم الثامن عشر من شهر مايو سنة ١٨٨٢، أي بعد قرار الخديو بتسعة أيام يقول: «لقد انقطعت الصلة بين الخديو ووزرائه، ووصل الموقف إلى أقصى الخطورة …»

وتقدَّمَتِ الوزارة لتردّ على الخديو فخطت خطوة جريئة بالغة الجرأة، فدعت مجلس النواب من عطلته دون الرجوع إلى الخديو لتعرض عليه الأمر، فازدادت الأمور حرجًا على حرج، فلقد عدّ أعداء البلاد هذا العمل من الوزارة بمثابة خروج على الحاكم الشرعي لا يقل في مغزاه عن خلعه عن عرشه، ونسوا أو تناسوا أن الخديو باتباع مشورتهم هو الذي دفع الوزارة حتى أوقعها في مأزق ضيِّق بحيث لم يبقَ أمامها إلا أن تقر الخديو على خروجه على الدستور ومشايعة أعداء البلاد أو تستقيل، وفي كلا الأمرين تفريط منها في حقوق البلاد فضلًا عن كرامة رجالها …

وانطلقت الشائعات من هنا ومن هناك، فالبارودي يريد أن يثبَ إلى العرش، والجيش على أهبة لأن يتحرك إلى عابدين ليرغم توفيقًا على قبول مطالب الوطنيين كما أرغمه على مثل ذلك في اليوم التاسع من شهر سبتمبر من العام الماضي، والخديو يعد العدة للمقاومة، إلى غير ذلك من الأراجيف التي كان من طبيعة ذلك الموقف أن يخلقها.

ولو كانت الرُّوح العسكرية هي المسيطرة على الحكم يومئذ كما أرجف المرجفون لما وقف دون الجيش حائل إلى القصر، وليكن بعد ذلك النصر أو الطوفان، ولكن الوزارة رأت أن تحتكم إلى نواب البلاد، ولما كانت واثقة أن الخديو لن يدعو المجلس دعته هي ليفصل في الأمر، ولا عبرة بالشكل في سبيل تحقيق الجوهر …

وسئل رئيس الوزراء عن وجهة نظره في دعوة المجلس دون الرجوع إلى الخديو، فكان جوابه أن الخديو قد نشأ الخلاف بينه وبين وزرائه بحيث لا يمكن الاتفاق بينه وبينهم، ولذلك فقد دعى المجلس دون مراعاة سلطته في هذا، ثم قال: «إن شكوانا من سموه هي أنه سلك مسلكًا يقضي على استقلال مصر، وكثيرًا ما فعل ذلك دون مشاورة وزرائه.»٦

والحق أن توفيقًا كان يود التخلص من هذه الوزارة بأي ثمن، وكان فيها البارودي الطامع في عرشه، وعرابي زعيم مصر وقائد حركتها القومية، الذي يسير بطبيعة حركته في طريق تعدُّ عند الخديو طريق الضلال والعصيان، وتعد كل خطوة فيها ثورة وتكبرًا، وأي شيء هو آلم لنفسه من أن يرى فلاحًا من أبناء هؤلاء الذين ما خلقوا في رأيه إلا للفأس والطاعة يتربّع على كرسي الوزارة، ويتكلم إذ يتكلم باسم الأمة، ويقبل ما يقبل أو يرفض ما يرفض باسم الأمة؟ …

ولقد عاب كثير من الناس على البارودي وعرابي مسلكهما تجاه الخديو في الأزمة، وحجتهم أن الواجب كان يقضي على البارودي أن يترك الحكم ما دام الخلاف قد استحكم بينه وبين الخديو، ولقد يبدو هذا الكلام وجيهًا لمن ينظرون في النتائج دون تمحيص المقدمات، أما الذين لا يصدرون حكمًا إلا عن تَقَصٍّ وفهم، فهم لا يذهبون مذهب هؤلاء، ولا يقيسون قياسهم.

وليست المسألة دقيقة على الأفهام حتى تتشعب فيها وجوه الرأي، فحسب هؤلاء العائبين على الوزارة مسلكها أن يذكروا أن الخديو كان يعمل بوحي من الإنجليز، وعلى ذلك فإجابته لن تكون إلا تسليمًا لأعداء البلاد، الأمر الذي لن يقبله وطني …

ولو أن الأمر كان خلافًا بين الخديو ووزرائه، وكان الخديو يريد وجه الوطن، فالسبيل واضحة أمامه، وذلك أن يحتكم إلى الأمة ممثلة في مجلسها النيابي، ويجعل للمجلس عن طيب خاطر القول الفصل في الخلاف.

وهل كان يحمد من الوزارة أن يكون قصارى جهدها الاستقالة من الحكم، وإنها لفي موقف جهاد ومقاومة لدسائس الدساسين ومطامع الطامعين، وإن الخلاف بينها وبين الخديو في جوهره لخلاف على السلطة لمن تكون؟ … كلا، بل إنا لنرى استقالتها في مثل تلك الظروف ضربًا من الفرار ومثلًا من أبلغ أمثلة الضعف، وبخاصة إذا سلّمنا بموقف الخديو من القضية كلها على النحو الذي نذكره والذي لن نجد دليلًا على صحته أبلغ مما ذكره كرومر في كتابه حيث يقول عن الخديو: «إنه بيّن للسير إدوارد مالت في يوم ٦ مايو أنه يؤثر أن تفقد مصر بعض امتيازاتها على يد الباب العالي وتعود إليها السلطة المنظمة على أن تبقى في مثل تلك الفوضى.»، ومعنى ذلك أنه كان يريد أن تطلق يده في مصر فيحكمها كما يشاء ولا عبرة في سبيل الوصول إلى هذا الغرض بما تفقد مصر مما حصلت عليه من امتيازات خطت بها خطوات واسعة نحو الاستقلال …

لم يكن أمام الوزارة إلا أن تحتكم إلى نواب الأمة، وقد لجأت إلى ذلك بدعوة المجلس إلى الاجتماع ما دام الخديو لم يَدْعُه …

ووقف وزارة البارودي لا تتحول ولا تلين، فكان موقفها هذا ثورة لا شبهة فيها، ثورة قومية كأروع وأجمل ما تكون الثورات القومية، وهو موقف نراه جديرًا بالإعجاب والتقدير، وما نحسبه لو كان في بلد غير بلدنا إلا كان يعد من المواقف المشهودة التي تُذكر في مواطن الفخر والمباهاة …

وكانت الوزارة قوية بادئ الأمر لأنها كانت معتزة بالنواب وإجماعهم على الأخذ بناصرها، ولكنها نظرت فإذا بينهم تغامز وفي صفوفهم إسرار وإعلان! وإذا كبيرهم سلطان يدعوهم إلى الحكمة والرويّة … وكم تُحمل على الحكمة والروية أعمال ليست منهما بسبب من الأسباب!

قال سلطان باشا يومئذ للسير إدوارد مالت: «لقد أسقط المجلس شريفًا تحت ضغط عرابي، وإن نفس الأعضاء الذين ألحوا في ذلك أكثر من غيرهم يتوقون اليوم إلى إسقاط الوزارة وقد استبان لهم أنهم خدعوا.»٧ ولو اطلع عرابي على الغيب يومذاك لرأى أن هذه أخف ضربة من ضربات سلطان هذا الذي بدأ يتنكر للحركة القومية، تلك الضربات التي سوف يسددها إلى قلب مصر في ضجيج الجهاد وسكرات الاستشهاد …

انحاز سلطان إلى توفيق منذ ذلك الوقت، فطلب من النواب الحكمة والروية، وما نلقي هذا القول على عواهنه فهذا كلامه لمالت الإنجليزي عدو مصر اللدود ينبئ عن ذلك؛ إذ إنه يكشف الوزارة أمام الكائدين لها من الإنجليز ويجعلهم يستهينون بما تستند إليه من سلطة الأمة.

وكتب مالت إلى حكومته في اليوم الثالث عشر من شهر مايو يصف الحال في مصر، أو على الأصح يصف مبلغ ما أصابته من نجاح دسائسه الإجرامية، قال: «يظهر أن رئيس المجلس والنواب يميلون إلى جانب الخديو، ولقد سألوا سموه أن يأخذ بالعفو فيصالح وزراءه، ولكن الخديو رفض ذلك … ويصرّ سموه على رأيه فلن يصالح وزارة تحدَّتْه صراحة وتهددته هو وأسرته، واعتدت على القانون بدعوة المجلس إلى الانعقاد دون الرجوع إليه، وفي القاهرة قدر غير قليل من القلق، وكثير من الناس يغادرونها.»٨

إزاء موقف السلطان وفريق من النواب انخلع عن رئيس الوزراء عزمه، وتزايل إصراره شيئًا فشيئًا، حتى رأت البلاد البارودي يرفع إلى الخديو استقالته فيرتكب بذلك إثمًا نعيبه عليه أشد العيب، فقد كان عليه أن يستطلع رأي النواب صراحة في جلسة يعقدونها، فإذا ناصروه كان عليه أن يبقى في مكانه حتى يقال فيحظى بشرف الإقالة أو ينتظر فيكون له فخر الانتصار …

لقد رفض النواب أن يجتمعوا في مجلسهم، أي أنهم رفضوا أن يشايعوا الوزارة في تحديها الخديو، واجتمعوا في منزل رئيسهم، ولكن هذا أمر شكلي لا يمس جوهر الموضوع، فالأمر الذي كان يهم الوزارة هو معرفة رأي ممثلي البلاد، وسواء لديها اجتماعهم في مجلسهم أو في أي مكان، فليس ثمة من فرق بين الاجتماعين إلا أن هذا رسمي وذاك غير رسمي، ولم يكن المجال يومئذ مجال شكليات، وقد جرى الخديو في مضماره الذي اختاره على الرغم من إرادة البلاد، وهل كان نواب الشعب الفرنسي الذين التقوا في ملعب التنس في مستهل ثورتهم الكبرى لا يعبرون عن رأي الشعب لأنهم لم يجتمعوا في قاعة مجلسهم؟

•••

الحق أن البارودي قد هدم ما فعل جميعًا باستقالته هذه، ولو أنه نال شرف الإقالة، لكان منطقه متسقًا، ولأضاف بذلك إلى نفسه وإلى وزارته معنى من معاني الإباء، وحمّل الخديو والموحين إليه وزرًا جديدًا يضاف إلى سابق أوزارهم.

وعجز الخديو عن أن يقيم في مصر وزارة، فقد أشفق من الحكم الرجال يومئذ، وأشفق مصطفى فهمي باشا حين عرضت عليه رئاستها عملًا باقتراح ممثلي إنجلترا وفرنسا الذين صار لهما الآن حق إسقاط الوزارة إلى من يرضيان عنهم في مصر.

وصرح الوزراء على الرغم من استقالة رئيسهم أنهم لا يستقيلون إلا إذا كان ذلك بأمر من مجلس النواب.

هنا يعود عرابي فيثب إلى مكان الصدارة من حوادث قومه بعد أن تنحّى البارودي، ولقد كان عرابي في الواقع في رأي الناس وفي رأي الأوربيين في مكان الصدارة دائمًا وإن كانت رئاسة الحكومة للبارودي …

عاد عرابي فوثب إلى الطليعة، وقد ضاق البارودي بالأمر ذرعًا، فهو الذي أوحى إلى الوزراء بما فعلوا وقد عز عليه أن يبعد الوزراء عن مناصبهم بمشيئة غير مشيئة الأمة، وتلك خطوة أخرى نضيفها في غبطة وفخر إلى سابق خطواته …

•••

ووقف عرابي في مكانه لا يتزعزع وما كان أصلبه وأشد مراسه إذا وقف في أمر يرى أنه الحق، ولقد المبطلون وقفته هذه أنها عودة إلى الثورة المسلحة يوشك أن يفاجئ البلاد بيوم آخر كيوم عابدين، فما حفل بكلامهم ولا خشي تهديدهم، وكتبت الحكومات إلى ممثليها في مصر أن «يرسلوا إلى عرابي فيبلغوه أنه أصاب النظام خلل فسوف يجد أوربا وتركيا كما يجد إنجلترا وفرنسا ضده، وأنهم يُحَمِّلُونه تبعة ذلك.»٩ وتلقى عرابي هذا الكلام رابط الجأش، وإن كان ليفطن إلى خطورة الموقف، وأصر ذلك الفلاح الذي لولا ما كان من حميته وأنفته منذ حداثته لكان يجيل الفأس يومئذ في حقل من حقول هرية رزنة ولا يدري من أمر السياسة والحكم شيئًا …

وظلَّ الرجل على عناده يكشف عن كرم عنصره فيفهم يريد أن يفهم أن بين أولئك الفلاحين من أمثاله الذين يجيلون فؤوسهم في صبر وصمت في حقول هذا الوادي لا ينقصهم إلا العلم والحرية ليبهروا العالم ببسالتهم ونبوغهم …

وصرّح سلطان وقد أخذ يكيد للبارودي وعرابي معًا «إنه ليس من الممكن تغيير الوزارة ما دامت القوة الحربية مجتمعة في يد عرابي باشا.»١٠

ولم يكن يدري سلطان أن وراء تلك القوة الحربية قوة أخرى لولاها ما قام غيرها. لم يكن يدري سلطان أن هذه القوة الحربية التي يشير إليها كانت قائمة في مصر من قبل، فلم يظهر أثرها وخطرها إلا في يد عرابي دون غيره من الرجال، ولو أن رجال وطنه جميعًا التفُّوا حوله ما نالت إنجلترا منهم شيئًا، ولسوف يكون سلطان هذا وأمثاله ممن نكبت بهم مصر، من أكبر عوامل الهزيمة يوم التّلِّ الكبير.

•••

حلت الأزمة بأن أشار ممثِّلا إنجلترا وفرنسا على الخديو «بأن يطرح المسائل الشخصية جانبًا، وبما أن سموَّه لم يستطع أن يقيم وزارة جديدة فإنهم يطلبون إليه أن يجدد علاقته بالوزارة القائمة».

وبقيت الوزارة في كراسيها، وانتصرت كلمة الأمة من جديد على يد ذلك الذي خرج من هرية رزنة ولم يلقَ إلا قسطًا من العلم في الأزهر، والذي درج على الرغم من ذلك في مدارج الرقيّ، فكان نموه كما تنمو الشجرة الطيبة لا كما ينمو العليق الذي لا يرتفع إلا على غيره …

ولولا ذوو الأطماع من المتربصين بمصر وحرية مصر لجنت البلاد من هذا الانتصار أطيب الثمرات ولعزت بذلك كلمة الأمة حتى ما تذلّ بعدها أبدًا …

ولكن مصر وا أسفاه سوف تجني من انتصارها هذا العلقم والحنظل.

١  تحت يدى نسخة من هذه المذكرات المخطوطة تفضل بعض أبنائه بإمدادي بها …
٢  الثورة العرابية لعبد الرحمن الرافعي، وقد نقل ذلك عن جريدة الوطن عدد ٢٩ أبريل سنة ١٨٨٢.
٣  S. H. of the British Ocupation of Egypt, P. 252.
٤  Modern Egypt—Cromer.
٥  المسألة المصرية تعريب الأستاذين العيادي وبدران.
٦  M. Egypt.
٧  M. Egypt.
٨  M. Egypt.
٩  M. Egypt.
١٠  M. Egypt.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤