مأساة الإسكندرية

بدأت هذه المأساة في يوم الأحد الموافق الحادي عشر من شهر يونيو سنة ١٨٨٢ في صورة مشاجرة بين أحد الوطنيين واسمه السيد العجان وبين مالطي من ساكني الثغر، هو من رعايا الإنجليز …

كان الوطني صاحب حمار ركبه المالطي وقتًا طويلًا متنقلًا من مقهى إلى مقهى حتى انتهى به المطاف في نحو الساعة الثانية بعد الظهر في حانة قريبة من «قهوة القزاز» على بعد خطوات من مخفر اللبّان بآخر شارع «السبع بنات»، وظهر منه أنه لا ينوي دفع أجرة ركوبه، فلما طالبه صاحب الحمار، لم يدفع له إلا قرشًا واحدًا، فاختلفا على الأجر، واستل المالطي سكينًا وطعن به صاحب الحمار عدة طعنات فأرداه قتيلًا …

وخفّ رفاق القتيل ليمسكوا بالقاتل، ولكنه هرب إلى بيت قريب، وسرعان ما رأى الوطنيون الذين تجمعوا عقب الحادث، طلقات الرصاص تتهاوى عليهم من بعض النوافذ والأبواب القريبة، فسقط بعضهم بين قتيل وجريح، واجتمع الوطنيون للانتقام، فأخذوا ما اتَّفق لهم من العصي والحجارة والكراسي وانهالو على كل ما يصادفهم من الأجانب ضربًا لا يخشون أي عاقبة …

واستمرَّت المعركة حتى الساعة الخامسة مساءً، وكان الوطنيون يستنفرون إخوانهم للقتال صائحين: «جاي يا مسلمين! جاي! بيقتلوا إخواننا.»١
ونهبت بعض الدكاكين، وامتدَّت الفتنة إلى الشارع الإبراهيمي وإلى شارع الهماميل وشارع المحمودية وإلى جهة الجمرك والمنشية وشارع الضبطية،٢ وسقط في هذه الشوارع جرحى وقتلى من الأجانب والوطنيين.

وقد ذكر جون نينيه، الذي شهد المعركة بنفسه، أن عدد القتلى بلغ ٢٣٨، منهم ٧٥ من الوطنيين و١٦٣ من الأجانب …

كان لهذه المأساة خطر أي خطر في الظروف القائمة حينذاك، وقد حاول كل حزب أن يتهم الآخر بتدبيرها، فالإنجليز والخديو يعزونها إلى الوطنيين، وهؤلاء يعزونها إلى الإنجليز وإلى عمر لطفي محافظ المدينة ومن ورائه توفيق …

وظل الحال كذلك حتى قُدِّم عرابي للمحاكمة بعد التل الكبير فما استطاع خصومه أن يثبتوها عليه وهم أصحاب الجاه والنفوذ …

ورمى محاميه مستر برودلي بالتهمة خصوم عرابي من المصريين، وألح في ذلك، ولعله إنما أراد به أن يبعد الشبهة عن بني جنسه من الإنجليز …

وفي سنة ١٨٨٣، تجددت قضية هذه المأساة في مجلس العموم البريطاني، إذ تقدم اللورد راندلف تشرشل يحمل حملة عنيفة على وزارة جلادستون، فاتّهم الخديو ومحافظ الإسكندرية عمر لطفي بأنهما المدبران للمأساة، وقد جمعت أدلة اتهامه في كراسة من كراسات الكتاب الأزرق الإنجليزي هي الكراسة «مصر رقم ٤ سنة ١٨٨٤.»

ويجدر بنا أن نتبين وجه الحق في هذه المأساة، لما كان لها من عظيم الخطر في مجرى الحوادث، فننظر هل كانت مبيتة؟ وإذا كان الأمر كذلك فمن بيتها؟ وماذا كان غرضه من هذا الفعل الأثيم؟ …

كان إجماع الإنجليز عقب المأساة على أنها مبيتة، وذلك لأنهم أرادوا أن يلصقوها بالحزب الوطني، فلما عجزوا عن ذلك راح كتّابهم ومؤرخوهم ومنهم كرومر يقولون إن الحادث من الحوادث التي تقع في المدن كل يوم وإنه ابن وقته فلا تبييت هناك ولا غدر من أحد …

أما أن هذا الحادث في ذاته ابن وقته فذلك ما يقبله العقل في غير صعوبة، بل ما يرجِّحه على الفرض الثاني، وأما أن الفتنة على الصورة التي ذكرناها كانت كذلك بِنت وقتها، فذلك ما يصعب تصوره، على أن المسألة ليست مسألة تصور، إنما هي مسألة حقائق، فلننظر فيما يحيط بها مما يصح أن يُساق مَسَاق الحقائق أو مَسَاق الأدلة الصحيحة …

قرر مستر جويس المهندس الإنجليزي، أن أحد باعة الخضر قال له صباح السبت: اشترِ وكل فإن النصارى سيُذبحون غدًا، ويقول هذا المهندس إن مثل هذه العبارات قيلت لغيره من الأجانب …

وقال إنجليزي آخر يُدعى هيوارت: «أعتقد كل الاعتقاد بناءً على ما لديَّ من معلومات استقيتها من عدة مصادر أن مذبحة ١١ يونية كانت نتيجة خطة مدبرة.»

وقال ثالث يُدعى ألكسندرفيس: «بناءً على معلومات تلقَّيْتُها تباعًا، كوّنت رأيًا قاطعًا هو أن المسألة قد دبِّرت من قبل، وقد بدأت في عدة أماكن في وقت واحد تقريبًا.

وقال مستر جورج بلافاتشي: «إن معركة يوم الأحد مع المالطيين تلك المعركة التي دبرها من قبل أعوان البوليس قد أدت إلى تلك المناظر العنيفة المرعبة مناظر الفتك والقتل التي كنا نحن شهودها وضحيتها، وإن هذه الحقيقة ألا وهي انبعاث الاضطرابات من ثلاثة أمكنة مختلفة لدليل على أنها كانت مدربة من قبل …»

ويقول فيلبوليس: «كنت في السوق يوم ٨ يونية الساعة الثالثة بعد الظهر فشاهدت كثيرًا من البدو يحملون بنادق، وكانوا يضعونها في مخازن لتحفظ فيها كما يبدو، وفي اليوم التالي بينما كنت جالسًا في مقهى اقترب مني أحد العرب وهو صديق لي وطلب إلي أن آخذ حذري، لأن العرب كانوا سيقتلون الأجانب إما في ذلك اليوم أو في اليوم الذي يليه.»

وكتب لورد جرانفل إلى نائب قنصل الإسكندرية مستر كارتريت يقول: «أنبأني مسيو سينادينو أحد أعضاء مصرف يوناني بالإسكندرية أن كل ما لديه من المعلومات يميل به إلى الاعتقاد بأن الاضطرابات الأخيرة بالإسكندرية كانت من قبل مدبرة …»

وكتب إليه بعد ذلك يشير إلى هذه الرسالة مضيفًا إليها قوله: «لقد ذكر أن رسالة أرسلت إلى كل قنصل من الأجانب كي يحضر إلى بيت المحافظ، وأنهم بناءً على ذلك اخترقوا المدينة في وقت الاضطرابات، وقد تبيَّن من البحث بعد ذلك أن رسالة كهذه لم يرسلها محافظ الإسكندرية.»

ويقول دكتور جويس: «إني أرى أن هذه المذبحة دبرت من قبل، وليس هذا شأنها فحسب، بل لقد نفذت في مهارة، وإن الذين خاضوا غمارها كانوا في الوقت نفسه يبحثون عن أسلاب، ولقد جمعوا في الواقع بين العملين في وقت واحد.»

ويقول مستر ستونتون: «عند نزولي إلى البر ومروري في عربة بشوارع المدينة رأيت الناس في الطرقات المؤدية إلى الحديقة العامة هادئين جدًّا لا يبدو عليهم شيء من الشّرِّ، ولما بلغتنا أنباء الاضطرابات بعد ذلك بثلاث ساعات، وشهدت مئات من الوطنيين مسلحين جميعًا بالعصيّ والمدى، استقرَّ رأيي على أن الفتنة مدبرة.»

وقرر مستر جروسجيان، ذلك الذي اختاره اللورد جرانفل ليجمع أدلة تُفضي إلى إدانة عرابي باشا، أنه وصل إلى أن الحوادث مدبرة، ولكنه لم يصل إلى شيء يلصقها بعرابي٣

نورد بعد ذلك بعض ما قاله جون نينيه، وهو رجل سويسري أقام بمصر أكثر من أربعين سنة منذ أن قدم في عهد محمد علي في عمل يتَّصل بزراعة القطن، وقد خالط أهل مصر من جميع الطبقات وعرف أحوالها معرفة وثوق كأنه من أهلها، وقد شهد مأساة الإسكندرية، وكان يتنقل في أركان شوارعها اثناء القتال متباعدًا حذر الغيلة، قال بعد أن وصف ما أحدثه مجيء السفن من هياج: «لقد نظر الأوربيون إلى ذلك كأول عمل من أعمال الحرب، وأصبح سلوكهم نحو الوطنيين ينطوي على التهديد … وقد أزعج الهياج الأوربيين، وخاصة الإنجليز والمالطيين، فاتصلوا بقناصلهم يسألونهم عن الوسيلة التي يحمون بها أنفسهم إذا وقع الاضطراب؟ وقد أخبرهم مستر كوكسن بأن عليهم أن يحموا أنفسهم، وقد علم في أواخر مايو أو في أوائل يونيو أن أسلحة أرسلت من اليونايين في الإسكندرية.» وقال جون نينيه يصف القتال: «ولكن على بعد نحو مائتي ياردة كان الدهماء يتحرَّكون كالبحر، ورأيت طلقات نارية تنبعث من بعض النَّوَافذ، واتَّجَه القتال سريعًا إلى حيث كنا نقف، ولذلك تراجعنا حتى إذا كُنّا على مقربة من مدرسة لازارست، رأيت أمام أحد المقاهي عددًا من اليونانيين مسلحين بالغدارات وقد أخذوا يطلقونها على الناس في غير تمييز عقب مرورنا بهم مباشرة … وعند ذلك رأيت عربة في داخلها أحد رجال المستحفظين جريحًا أو ميتًا، ولعله هو الذي طاف بالنذير. ذلك لأني رأيت في أثره عددًا من المسلمين وبعضهم من السود والبدو قادمين من عدة جهات يحملون عِصِيّهم … ثم اتسع نطاق القتال وإطلاق النار واتخذتُ طريقي إلى بيتي.»

ويقول أحمد رفعت بك، وهو من كبار الموظفين، وقد كان السكرتير العام لمجلس الوزراء في وزارة البارودي: «إن هناك شيئًا واحدًا يحمل على اليقين، وذلك أن هذا الحادث كان مدبرًا من قبل، فقد قام الدليل على أن عددًا من «النبابيت» قد وزع على الدهماء قبل يوم ١١ يونية بأيدي بعض العناصر الخفية، وأن هذه النبابيت ظهرت في وقت واحد في عدة أماكن في المدينة في نفس اللحظة التي قتل فيها أحد المالطيين حمّارًا لسبب تافه.»٤ ويقول الشيخ محمد عبده: «في هذه الحالة رؤي مستر كوكسن نازلًا من بيت أحد المالطيين بلباس ملكي ومعه قواصه، فتبعه المتشاجرون وضربوه ضربًا خفيفًا عندما أراد أن يركب.»٥
يضاف إلى ما سلف برقية مالت في أواخر مايو التي سبق أن أشرنا إليها وهي قوله: إن تصادمًا سوف يقع قريبًا بين المسلمين والمسيحيين،٦ ولقد أشار الشيخ محمد عبده إلى هذه البرقية في تلك الورقة التي كان يدون بها بعض ملاحظاته بقوله: «مسألة تسلح الأجانب وإيهام مستر كوكسن أن حوادث ستحدث …»

هذه كلها أدلة نقطع معها أن هذه المأساة كانت مبيّتة قبل وقوعها، وأنه لو لم يكن حادث السيد العجان، والمالطي، لوقعت المأساة عقب أي حادث من نوعه أو من أي نوع آخر …

وإذا كانت المأساة مدبَّرة على هذه الصورة فجدير بنا أن ننظر من دبرها، وسبيلنا في ذلك أيضًا أن نورد الحقائق التي تنهض أدلة على ما نذهب إليه …

ولما كان عمر لطفي باشا هو محافظ المدينة وقت وقوع المأساة فخليق بنا أن نبدأ به فنستعرض ما كان من مسلكه أثناء ذلك الحادث، فمن هذا يتبين لنا مبلغ ما يقع على كاهله من تبعة، إن كان الأمر فيما يتصل به أمر خطأ أو تقصير، ومبلغ نصيبه من الجريمة إن كان أمر إجرام وتدبير …

وإن أول ما نذكره عن عمر لطفي أنه كان بصفته محافظ المدينة المسئول عن الأمن والنظام فيها، كما نذكر أنه منذ استقالة الوزارة لم يكن لأحد عليه من سلطان إلا الخديو، وذلك حسب الأمر الذي أصدره الخديو عقب استقالة الوزارة بعرض ما كان من اختصاص وزارة الداخلية على القصر …

ونذكر بعد ذلك أن عمر كان من أنصار الحزب الوطني حتى منتصف شهر مايو، ثم انحاز إلى الخديو فيمن انحازوا إليه بعد ذلك، والدليل على ذلك أن الخديو عرض عليه منصب وزير الجهادية بعد سقوط وزارة البارودي … على أنه ظل إلى ما بعد سقوط الوزارة يتظاهر بالولاء للحزب الوطني، فيحضر حفلات هذا الحزب بالإسكندرية ويحرص على الصلة بكبار رجاله …

وتذكُر بعض المصادر الهامة نبأ برقية من الخديو إلى عمر لطفي على أعظم جانب من الخطورة نعربها فيما يأتي «لقد ضمن عرابي الأمن العام ونشر ذلك في الجرائد، وقد تحمّل مسئولية ذلك أمام القناصل، فإذا نجح في ضمانه، فإن الدول سوف تثق به وسوف نفقد بذلك اعتبارنا، يضاف إلى ذلك أن أساطيل الدول في مياه الإسكندرية، وأن عقول الناس في هياج، وأن الحرب قريبة الوقوع بين الأجانب وغيرهم … والآن فاخترْ لنفسك هل تخدم عرابي في ضمانه أم هل تخدمنا.»٧

وكان عرابي فعلًا قد أخذ على عاتقه مسئولية الأمن بعد إعادته إلى وزارة الجهادية، وأعلن ذلك رسميًّا في الصحف بعد الاتفاق عليه مع الخديو …

ويذكر عرابي باشا في تقرير كتبه لبلنت قوله: «قبل كل شيء أرسل الخديو إلى عمر لطفي محافظ الإسكندرية ليحضر إلى القاهرة بقطار خاص يوم ٩ يونية، وقد تحدث معه الخديو عقب وصوله مدة طويلة، وأعطاه ما يلزمه من التنبيهات لإحداث فتنة في الإسكندرية.»

وكانت شرطة المدينة تحت رئاسة عمر لطفي، وقد اشترك هؤلاء في الجرائم بدل أن يعملوا على القضاء عليها كما يقضي بذلك أول واجب عليهم، واشتراك الشرطة في المأساة ثابت من تقارير أشخاص لهم خطرهم، ومن هؤلاء مستر جروسجيان السالف ذكره، وقد كانت مهمته كما اختاره مالت بإشارة من جرانفل أن يجمع الأدلة على اشتراك عرابي في الجريمة، وقد قال جروسجيان أن الشرطة اشترت قبل الحادث بأيام قليلة عددًا كبيرًا من النبابيت، وأنها وزعتها على عدد من سفلة البدو، وكان توزيعها من بيت قريب من مقر الضبطية، ولم تتّخذ إجراءات ضد موزعي تلك النبابيت … كما يذكر جروسجيان أن عشرة من الأطباء الأجانب قرروا أن جراح المصابين جميعًا كانت إما من النبابيت، وإما من الحراب، وكانت هذه هي أسلحة الشرطة …

وقرر مستر جويس المهندس بالأسطول الإنجليزي: «إن المستحفظين أو الخفراء قد أخذوا بنصيب فعال في الفتنة، فكانوا يقتلون المسيحيين حين لا يفعل الوطنيون ذلك، وينظرون في سكون في حالة اعتداء الوطنيين.»

وذكر مستر هيوارت وهو من رجال المال وقد أقام سبعة عشر عامًا في الإسكندرية: «أن الشرطة بدلًا من أن تقضي على الفتنة عملت على زيادتها، وأن معظم الجراح كانت من أيديها، وأنها كانت توزع النبابيت على العرب، وأن بعض الأوربيين كانوا يلجأون إلى الضبطية، فكانوا يذبحون على مقربة منها أو بداخلها، وأنه لولا حضور الجيش في النهاية لتفاقم الخطب، وأن الأجانب يدينون بأرواحهم لرجال الجيش» …

ولقد وقف عمر لطفي موقفًا سلبيًّا من هذه الأحداث. يتّضح ذلك في قول جون نينيه: «تصادف أن قابلت عمر لطفي في الساعة الثالثة، وكان يمشي بملابس عادية ومعه بعض رجال الشرطة، فسألته: لماذا لم تفعل شيئًا لإيقاف الفتنة؟ فقال: إنه كان مع القنصل الإنجليزي وقد اعتدي عليه، فقلت: ولماذا لم تذهب بملابسك الرسمية وتستصحب نحو خمسين رجلًا من رجال الشرطة الفرسان لتقضي على الفتنة؟ فأجاب بأنه لم يعثر على قنديل رئيس الشرطة، فسألته: ولماذا لم يفعل الجند شيئًا؟ فقال: إنهم لم يتلقَّوا أوامر فلا يستطيعون التحرك، فسألته: وماذا فعل القناصل؟ فقال: إنهم عقدوا اجتماعًا، فقلت: ولماذا لم تبرق بما حدث إلى الخديو وإلى عرابي باشا؟ فأجابني في خشونة قائلًا: «وما شأنك والمسألة عن هذا؟»

ويقول روثستين: «ابتدأت الفتنة حوالي الساعة الواحدة بعد الظهر، واستمرت حتى الساعة الخامسة … حدث هذا كله ورجال البوليس كانوا تارة لا يفعلون شيئًا وتارة يشتركون في الفتك والقتال، أما عمر لطفي فكان في أثناء ذلك قد استحوذ على مكتب التلغراف ليكون على اتصال بالخديو، ولم يخبر سليمان سامي قائد الحامية بشيء عن الفتنة إلا بعد مضيّ الساعة الرابعة. وحتى في هذه الساعة قد أمر بأن يقود الجنود عزلًا من السلاح، على أن الرجل تولى الأمر بنفسه فبرز في الساعة الخامسة وأخمد ثورة المذبحة.»

ويقول عرابي: «إن عمر باشا وهو المحافظ لم يرسل إليَّ أي نبأ عن الحادث مع أنه يعلم أني أخذت على عاتقي حفظ الأمن والنظام في البلد كله.»

وفي الوقت نفسه كانت الصلة بين عمر لطفي وتوفيق مستمرّة أثناء الحوادث كما يشهد بذلك أحمد رفعت بناءّ على ما وصل إلى علمه من موظفي التلغراف بالقصر. ولقد كتب وهو في السجن أنه يستطيع أن يثبت ذلك، ولكنه بالضرورة لم يتمكن من شيء …

وقرر كذلك جون نينيه أن مصلحتي التلغراف في الإسكندرية والقاهرة قد شغلتا طوال الوقت بالاتصال بين الخديو وعمر لطفي.

ويقول الشيخ محمد عبده في تقرير له كتبه في منفاه بسوريا: «حقًّا إن أكثر من اتهموا ومن قبض عليهم بعد الحادث بيوم كانوا يصيحون بقولهم: «لا لوم علينا؛ فإن سعادة المحافظ نفسه هو الذي كان يأمرنا بأن نضرب وأن نسرق.»٨

وجاء كذلك في تلك الورقة المرقمة التي كان يثبت بها ملاحظاته قول الأستاذ: «وعلى القرب من زيزينيا رؤي عمر لطفي فسأله سائل: كيف تكون هنا والمذابح على خطوات منك؟ فقال: لست بقائد، وهذا لا يعنيني … فسأله: ولماذا لم تحضر بلباسك الرسمي على حصانك شاهرًا سيفك في حراسة خمسين من عساكر المحافظين وبذلك كان ينتهي الأمر؟ فأجابه: انصرف ليس هذا من شأنك، وهل أنت محافظ البلد؟»

وجاء فيها أيضًا قوله: «لم يصل الخبر عرابي إلا الساعة الرابعة والربع بعد الظهر مع أن القليل من موظفي التلغراف الذين يشتغلون بعد الظهر مع أن القليل من موظفي التلغراف الذين يشتغلون بعد الظهر لم يكن عندهم وقت للعمل إلا في تلغرافات المحافظ، حتى إن رسالتين هامتين من أحد الميرالايات في الإسكندرية لم تقبلا لاشتغال الكثرة بتلغرافات المحافظ.»

وقوله: «ذهب نينيه عند قنصل روسيا وحدّثه بما رآه من المحافظ، فتعجب وقام للمخابرة مع إخوانه القناصل، وبعد ذلك كتب للخديو ودرويش وعرابي، وكانت الساعة الرابعة بعد الظهر.»

وقوله: «سليمان سامي كان مستعدًّا لإرسال العساكر إذا ورد له الأمر من نظارة الجهادية، ولكن لم يكتب أحد بذلك إلى النظارة لأن الأمر بيد المحافظ.»

وقوله: «عمر لطفي باشا طلب إنزال جند إنجليز لعجز عرابي عن حفظ الأمن.»

وقال أحمد رفعت: «ولما كنت في الإسكندرية بعد الحادث باثني عشر يومًا سمعتُ الناس يقولون في صوت واحد: إن المحافظ عمر لطفي هو الذي أدّى بتفاقم الأمر إلى هذا الحد؛ لأنه كان حاضرًا ولم يصدر أي أمر لإيقافه.»

هذا ما يتصل بموقفه السلبي من الأحداث، ذلك الموقف الذي ينطوي على أشد الرِّيبة، وإنه ليصعب على المرء أن يتصور أن محافظًا في مدينة ما يرى القتال بين الناس ثم يقف منه مكتوف اليد كما وقف عمر لطفي من حوادث الإسكندرية، ثم لا يتهم بأنه إن لم يكن مدبِّر الجريمة، فهو على الأقل راضٍ عنها لأنها جاءت وفق ما يريد …

على أن جون نينيه يذكر نبأً عظيم الخطورة عن هذا المحافظ ويقول إنه سمعه من سكرتير سيمور أدميرال الأسطول، ومؤداه أن عمر لطفي ذهب إلى ذلك الأدميرال في قارب بعد المأساة بأربعة أيام وطلب إليه أن ينزل جنودًا بالإسكندرية؛ لأن عرابي لن يقوى على حفظ الأمن.

وقد رأينا أن الشيخ محمد عبده يشير إلى شيء مثل هذا في مذكراته، كما أن أحمد رفعت بك يذكر مثل هذا النبأ فيقول: إن الخديو وقت الحادث أبرق إلى لطفي أن يستعين بجنود من الأسطول لا بفرق من الجيش المصري، كأنما يستعجل توفيق الاحتلال ويخشى أن تُفلت الفرصة من يده.

ومن أخطر ما يتّصل بموقف عمر لطفي أنه كان يعلم قبل المأساة أن الأجانب يسلِّحون أنفسهم، ثم لم يتَّخذ أي إجراء احتياطي لما عسى أن يؤدي إليه هذا التسليح، ولا هو أبلغ عرابي بشيء من هذا أو أبلغ الخديو ليتَّصل بعرابي، وكان علمه بهذا التسلح حقيقة ثابتة، فقد ذكر كوكسن في رسالة منه إلى مالت في اليوم السادس من يونية أن يعد العدّة للتسلح، ثم قال: «ويصحّ أن أذكر أن محافظ المدينة زارني منذ أيام وكان معي بعض زملائي وأبلغني أنه علم أن الأجانب يسلحون أنفسهم.»٩

ولننظر بعد ذلك في موقف الخديو من هذه المأساة، ولنبين ما عسى أن يكون من صلة بينه وبين عمر لطفي، وما عسى أن يكون من مغزًى لهذه الصلة بينهما …

ذكر اللورد راندلف تشرشل في قرار اتهامه الذي أثاره في مجلس العموم البريطاني في سنة ١٨٨٣، أن الخديو توفيقًا، اتصل ببعض البدو في مديرية البحيرة وخاصة قبيلة أولاد علي، وذلك عن طريق مدير الإقليم إبراهيم توفيق، وكان الخديو يرمي إلى غرضين: اتخاذ هؤلاء البدو قوة له يقاوم بها قوة الجيش، ثم الاعتماد عليهم في إحداث فتن وقلاقل تظهر الوزارة بمظهر العجز أمام دول أوربا، وقد أنفق الخديو على ذلك نحو عشرين ألفًا من الجنيهات وزّعت على مشايخ هؤلاء البدو، واستقبل توفيق هؤلاء الشيوخ في مقره وأكرم مثواهم، واتفق معهم على أن يُدخلوا عددًا من أتباعهم القاهرة عن طريق الجيزة، وكان يريد أن تقع الفتنة في القاهرة، ولكن هؤلاء البدو تخاذلوا عن القاهرة لما رأوا من يقظة الحكومة، على أن عمر لطفي قد استعان ببعض هؤلاء البدو في مأساة الإسكندرية١٠

وذكر بلنت في كتابه هذه المؤامرة وأكّدها، وكذلك ذكر أحمد رفعت بك في تقرير كتبه في سجنه …

ويقول روثستين: «في هذا اليوم وقعت بالإسكندرية مذبحة الأجانب التي دبَّرها الخديو ومحافظ المدينة عمر باشا لطفي، وقام بها رجال البوليس وجماعة من الفُتّاك المستأجَرين، وهي مثل صحيح لما يقع في زمننا هذا من مذابح اليهود المدبرة …

لقد كان الخديو يعلم حق العلم أن هيجة صغيرة تقع بمصر إنما هي ضالة السياسة البريطانية التي ما برحت تنذر بأشدِّ الويل للأجانب إذا لم يقض على «الفوضى» التي يؤيدها حزب سامي وعرابي بنفوذه «العسكري». وفي ٣١ مايو، وليس قبل، أنهى السير إدوار مالت إلى اللورد جرانفل أن المسلمين والمسيحيين قد يصطدم بعضهم ببعض وقتًا ما، وقد رأينا أن ذلك أدى إلى تعزيز الأسطولين …

ومع هذا فإن الخديو باطِّلاع مستشاريه الأجانب، أو بغير اطّلاعهم قد عقد العزم على أن يتعجّل تلك الفتنة المنشودة بشيء من الكياسة ولطف الحيلة إذا كان سير الحوادث الطبيعي لا يعجل وقوعها. ولكن ترى أين تقع هذه الفتنة؟ إنها إذا وقعت في القاهرة فلا تؤمن عاقبتها على الإطلاق. ففي القاهرة عرابي ورفاقه، وفي القاهرة الجيش الذي يستطيع أن يقطع دابر الفتنة في طرفة عين، أما إذا وقعت في الإسكندرية فإنها يكون لها شأن آخر. فمحافظ المدينة هو عمر باشا لطفي الذي كان وطنيّ الميل زمنًا ما، والذي رشحه الخديو لنظارة الحربية في فترة اليوم التي أعقبت استقالة وزارة سامي، فأصبح من مصلحته أن يعمل على سقوط عرابي.»

وقال اللورد تشرشل بعد أن أشار إلى برقية توفيق الخطيرة إلى عمر لطفي: «إن لديّ أدلة على أنه أثناء الأسبوع التالي، أرسل حيدر باشا ابن عم الخديو مرتين إلى الإسكندرية، وكان يلقاه الخديو عقب عودته تحت ستار الليل، وقد ثبت أن حيدر هذا نفسه كان حاضرًا بالإسكندرية يوم الفتنة ومنها سافر إلى القاهرة عقب الحادث مباشرة.»

وأورد أحمد رفعت بك مثل هذه الرواية عن حيدر باشا، وزاد عليها أنه صحب الخديو بعد ذلك عند سفره إلى الإسكندرية …

ولا يفوتنا ونحن في صدد الكلام عن صلة توفيق بالمأساة أن نشير إلى برقيته الخطيرة إلى عمر لطفي، التي طلب إليه فيها أن يختار لنفسه، هل يكون معه، أم يكون مع عرابي …

كذا لا يفوتنا أن نشير هنا إلى ميله لإنجلترا وقبوله المذكرة المشتركة الثانية، وإلى رغبته في التخلص من عرابي وحزبه بأي ثمن …

وقد ذكر أحمد رفعت بك فيما ذكره عن المأساة بعد نفيه من مصر: «في يوم الأحد الموافق ١١ يونية كان المندوب العثماني درويش باشا، الذي وصل إلى مصر قبل ذلك بثلاثة أيام، يقطع في عربته الطريق بين قصر الجزيرة وجسر قصر النيل، وكان قد لقي في مقره عرابي باشا والوزراء المستقيلين لقاءً طويلًا، وكان متجهًا إلى قصر الإسماعيلية حيث كان يقيم الخديو ليفضي إليه باتفاق كان يؤدي كما قيل إلى صلح بين الخديو والوزراء.

وعلى مقربة من الجسر قابله طلعت باشا سكرتير الخديو، وقد أرسله سيده ليبلغه بأن فتنة وقعت في الإسكندرية، وأنها استمرّت ثلاث ساعات، وأن الأوربيين والمسيحيين كانوا يُقتلون أينما وجدوا، وقد أدى طلعت الرسالة في مظهر المنتصر، وظهر عليه سرور شديد، وكأنما كان يريد أن يقول إن عرابي الذي عمل من أجله ما عمل كان سبب ما حدث …

وأرسل درويش باشا أحد الضباط المرافقين له في العربة ليعود من فوره إلى عرابي، ولما كنت حاضرًا فقد أفسحت لرسول درويش مكانًا في عربتي وأخذته إلى بيت محمود سامي حيث كان عرابي حاضرًا في ذلك الوقت. وشاعت الأنباء سريعًا في المدينة، وقد انزعج لها الناس جميعًا، واستولى الحزن على عرابي وصحبه. أما في قصر الخديو وحده فكان الفرح واضح المعالم.»

وقد جاء في تقريره وهو بالسجن ما لا يخرج عن هذا، وقد ذكر في نهايته أنه يستطيع أن يثبت ما يقول بشهادة شهود لا يمكن أن تحوم حولهم شبهة …

•••

ومما هو جدير بالاعتبار أن الخديو عين عمر لطفي باشا على الرغم من سلوكه أثناء الفتنة رئيسًا للجنة التحقيق التي كلفت بالبحث عن المسئولين، وكان أول شيء يجب أن يعمل لو سارت الأمور سيرًا بريئًا أن يُنَحّى عمر لطفي لكي يُستطاع سؤاله عن أسباب تقصيره، ذلك التقصير الذي لا يستطيع أن يماري فيه أحد …

وكان الغرض من لجنة التحقيق إلصاق تهمة المذابح بعرابي وحزبه، فلما لم يتيسّر ذلك بأي وجه انسحب الإنجليز كما سنرى من لجنة التحقيق، ونصح الخديو لعمر لطفي أن يطلب إجازة بحجة السفر إلى خارج القطر للراحة.

وبقي عمر لطفي بمصر حتى أُعلنت الحرب، ولما عُزل عرابي في اليوم السادس والعشرين من شهر يوليو عيّنه الخديو وزيرًا للحربية مكانه.

ومما يذكر في صدد هذا أن حيدر باشا كذلك قد ظفر بمقعد بين الوزراء …

•••

ننظر بعد ذلك فيما كان من أمر عرابي وحزبه تلقاء هذه الفتنة، ولنبدأ بما ذكره روثستين في هذا الصدد. قال: «وأعجب ما يتصل بهذا الحادث وأغربه أنهم حاولوا فيما بعد أن يجعلوا لعرابي يدًا فيه مع أنه قاسى من جرائه ما لم يقاسه غيره. فزعموا أنه ناسج برد المؤامرة لحمته وسداه، والآمن بالمذبحة، والناهي رجال الحامية عن التعرض لها. ولكن التهمة تطايرت بشكل يُرثَى له عندما أدركوا أن اللجاج في الأمر قد يزيح الستار عمن قاموا حقيقة بتلك الفظيعة المنقطعة النظير. ثم ظهرت الحقيقة على الرغم من ذلك كله، وكان الفضل في ظهورها راجعًا إلى جهود المستر بلنت. وفي سنة ١٨٨٣ بسط اللورد رندلف تشرشل لأعضاء البرلمان الأمر بأجمعه.»

ونحسب أن المسألة واضحة كل الوضوح في بُعد عرابي وحزبه عن هذه المأساة، فمما لا ريب فيه أنها موجهة ضدهم، فقد ضمن عرابي الأمن، ولا يمكن أن يطعن نفسه بنفسه فيأتي بما يهدم كل ما يدّعي، كذلك ما كان من الممكن أن يقف سليمان سامي قائد حامية المدينة مكتوفَ اليدين من المأساة لو أنه أحيط علمًا بها وقد علم أن تبعة الأمن ملقاة على عاتق عرابي …

وقد أرسل كوكسن برقية إلى مالت عقب إعادة عرابي إلى الوزارة يصف الإسكندرية فقال: «كل شيء هنا هادئ، والسلطات المحلية تؤكد لي أنه لا خوف من وقوع اضطراب، وقد تلقت فرق الجيش ردًّا من القاهرة اتفقت بناءً عليه أن تظل ساكنة في الوقت الحالي.»

ولم يكن لعرابي من سلطان علي عمر لطفي؛ إذ كان هذا بعد استقالة البارودي يتلقّى الأمر من الخديو مباشرة، وقد ثبت أنه لم يتصل بعرابي عند وقوع المأساة حتى يمكن أن يقال إن عرابي تراخى في الإشارة عليه بما يجب أن يعمل.

هذا وقد أعاد الجيش الأمن إلى المدينة بأمر من عرابي بمجرد أن علم بالنبأ، ومما هو جدير بالنظر أنه لم يحدث بعد ذلك في المدينة حتى وقعت الحرب أي شغب منذ أن تدخل الجيش وفطن الحزب الوطني إلى الدسيسة.

ولقد كان وقع النبأ إليمًا في نفس عرابي ونفوس أصحابه، حتى إن عرابيًّا ظل صامتًا مكتئبًا يضغط بيده على قلبه ويتنهد تنهدات طويلة.١١

واهتمَّ عرابي بالتحقيق اهتمامًا كبيرًا يتّضح ذلك فيما أرسله إلى سليمان سامي إذ يقول: «لست تجهل أهمية مركزك في الوقت الحالي فيما يتصل بلجنة التحقيق، وذلك لأن أعضاء اللجنة ليسوا كما تعلم مساوين في العدد لأولئك الذين يهمهم شرف الجيش والأمة، وهذا يجعل من الضروري أن تتخذ كل الحذر أثناء التحقيق، وأن تعمل على كشف الدافع الحقيقي إلى هذه الفتنة.»

والأمر كما نذكر لا يحتاج إلى كثير من القول ولا إلى قليل لبيان موقف عرابي وحزبه، فإذا أراد المرء أن يبحث عمن ارتكب جريمة ما فلينظر من له مصلحة في اقترافها، ولقد كان في هذه المأساة الضرر كل الضرر على عرابي وعلى قضية الحزب الوطني.

•••

يأتي بعد ذلك الكلام عن موقف الإنجليز من المأساة، وأول ما نذكره أن ذلك المالطي الذي قتل السيد العجان كان أخًا لخادم مستر كوكسن، وقد يكون ذلك من قبيل المصادفات، ولكنه لا يمنع من القول بأنه تجرَّأ على الطعن لما كان يعلمه من نية مبيتة بينه وبين أشباهه من المالطيين.

وكذلك نذكر أنه كان بين القتلى رجل يدعى ستراكت، وكان يعمل خادمًا للسير بوشمب سيمور أدميرال الأسطول، وقد أقسم هذا الأدميرال العظيم الذي جاء لضرب الإسكندرية أن يثأر من أهل المدينة لمصرع خادمه.١٢

على أن هناك من الشبهات والقرائن ما هو أهم وأقوى من هاتين القرينتين، وحسب المرء أن يقلب صفحات الكتاب الأزرق ليرى أنه تلقاء يقين لا يخالطه شكّ …

ولقد أشرنا إلى بعض ما كان يدبره مالت وكوكسن وأشياعهما، ونكرر هنا الإشارة إلى برقية كوكسن الخبيثة بأنّ تصادمًا سوف يقع بين المسيحيين وبين المسلمين، وكذلك نعيد الإشارة إلى ما أرسله مالت إلى جرانفل في اليوم السابع من مايو، ومؤداه أنه لابد من حدوث ارتباكات قبل تسوية المسألة المصرية، وأن الأصوب استعجال هذه الارتباكات لا تأجيلها.١٣

ونعود بالقارئ إلى ما سقناه من أدلة على أن المأساة مدبرة، وخاصة تسليح الأجانب أنفسهم، ولنبسط القول بعضَ البَسط في هذه المسألة، فنقول إن كوكسن كان دائب السعي في تسليح الأجانب، وخاصة الإنجليز كما هو ثابت صراحة في الكتاب الأزرق، وقد اتّصل بالسير سيمور أكثر من مرة كما اتصل بالسير إدوارد مالت مرات، وكان يقول لمالت كل مرة إنه يحرص على سريّة هذا التسليح مخافة أن يحدث ذعرًا إذا عرف، والواقع أن الغرض منه كان تبييت الغدر حتى تحين الساعة المقصودة …

وليس يخفى ما ينطوي عليه هذا التسليح من تحريض على الفتنة بطريق الإيحاء، ولعل ذلك ما دعا مالت إلى شيء من التحفظ ليفلت من التبعة، ويتضح هذا التحفظ في برقية منه إلى اللورد جرانفل يوم الفتنة بالذات إذ يقول: «لي الشرف أن أذكر لفخامتكم أن قنصل السويد العام وصل اليوم من الإسكندرية، وعرض عليَّ مشروعًا للدفاع العام عن الأجانب، ورغب في موافقة ممثلي الدول عليه. وقد أجمع الممثلون على أن تسليح ثلاثة آلاف أو أربعة آلاف تمهيدًا لهذا الدفاع عملٌ بالغ الخطورة، وأنه بجانب ذلك عمل في ذاته يفضي إلى التصادم في أي وقت، وعلى ذلك فقد اتصلوا بقناصلهم كيلا يشاركوا في شيء من هذا. وبناءً على ذلك أبرقت إلى مستر كوكسن ألا يشارك بعد الآن في شيء منه، وفي حال ما إذا خيف الخطر على البريطانيين فعليه أن يعتمد على مساعدة الأدميرال، وأن يعمل حسبما يشير به من نصائح، ولما وجدت الأمر يقضي أن تبقى تعليماتي سرية إذ إنها تتصل بالرجوع فجأة عن خطة بانَت معلومة إلى حد ما، فقد أشرت على مستر كوكسن بأن يجعل ما سلف من الأمور السرية، وفي الوقت نفسه عليه أن يحاول أن يقضي على المخاوف بأن يذيع أنه ليس ثمة نزاع بين الوطنيين والأجانب، وأن المفاوضات في الوقت الحالي في يد درويش باشا المندوب العثماني الذي يعمل باسم السلطان. وطلبت إلى مستر كوكسن أن يُطلع على هذه التوجيهات الأدميرال السير. ب. سيمور.»

وأدعى من هذا التسليح إلى إثارة الشبهة موقف الإنجليز من التحقيق الذي أزمعت وزارة راغب باشا إجراءه عقب تأليفها …

أراد الإنجليز أن يعزوا هذه المأساة إلى عرابي، ولم يعنَوْا بالبحث عن الحقيقة في ذاتها، وقبلت ضمائرهم أن يتجهوا هذا الاتجاه وهم الذين طالما عابوا على الشرقيين انحطاطهم وتفاخروا عليهم بمدنيّتهم، أرسل جرانفل إلى مالت يقول له: «أطلب إليك أن تتخذ الخطوات التي تؤيد هذا الدليل، وخاصة ما يتصل منه بمسلك نديم ووكلاء عرابي وعلاقة قنديل بعرابي.»

ثم تلقى كارتريت نائب قنصل الإسكندرية من جرانفل برقية بتاريخ ٢٤ يونية، وفيها يقول: «لقد ذكر في الصحف العامة أن راغب باشا أمر بإجراء تحقيق في الاضطرابات التي وقعت بالإسكندرية يوم ١١ الحالي، وإذا كان الأمر كذلك فإن حكومة جلالة الملكة ترغب منك أن تقف بمنأى عن هذا التحقيق، وعليك أن تخبر قنصل جلالتها بما تلقَّيْت من توجيهات في هذه المسألة.»

ونفذ كارتريت ما أمر به، وأغرى زميله القنصل الفرنسي بأن يسلك مسلكه، وكان سبب انسحاب هذين من لجنة التحقيق أن اللجنة أرادت أن تفتِّش منازل الأجانب والوطنيين على السواء، وكان أولى بهما لو أرادا إنصافًا أن يزدادا اطمئنانًا إلى عدالة اللجنة بهذا القرار، وأن يجعلاه سببًا لانضمامهما إليها لا لابتعادهما عنها …

وعرض راغب باشا على الأجانب أن يؤلفوا لجنة جديدة يحدد عملها فرفض كارتريت هذا العرض وأيده جرانفل في رفضه. وفي الوقت نفسه طلب إلى كارتريت أن يجمع المعلومات لحسابه هو، وخاصة ما يتصل منها بمسلك وزارة الجهادية تجاه الحادث، وبما حصل من تأخير في إرسال الجنود إلى أمكنة الاضطرابات.١٤

علق اللورد رندلف تشرشل على ذلك بقوله: «وهكذا نرى أن الاضطغان المتعمق في نفس اللورد جرانفل على الحزب الوطني، وأن الاعتقاد القائم على غير أساس منه ومن السير إدوارد مالت بأن المذابح كانت من صنع الحزب العسكري، وبأن عرابي وأصحابه أرادوا أن يطمسوا الحق بأي ثمن، وقد كانوا في الواقع يعملون على إبرازه … نرى أن ذلك كان سببًا في صد التحقيق عن وجهه، ذلك التحقيق الذي أُجرِيَ عقب الفتنة مباشرة، وكان صنيعًا فذًّا من عرابي باشا، وفضلًا عن ذلك فإنه كان من الأهمية بمكان عظيم أن يعقب التحقيق الفتنة مباشرة لا ابتغاء الوصول إلى معرفة مدبري الفتنة فحسب، ولكن لمنع ما قد يعقبها من ظلم، وكان التحقيق عقب الحادث هو الوسيلة في ذلك الوقت فقط التي بها يمكن الوصول إلى أدلة يوثق بها، وليس من ريب في أنه بناءً على تعطيل التحقيق على يد اللورد جرانفل قد عُوقب كثير من الأبرياء ومن سيئي الحظ بالموت والنفي والسجن.»

وثمة حقيقة أخرى جديرة بكل اعتبار في صدد الكلام عن سياسة الإنجليز في المأساة، وهي خليقة بأن تثير أكبر الشبهات، وذلك أنه ما من برقية أو رسالة بين الخديو ومالت أو بين مالت وسيمور أو بين عمر لطفي والخديو، عما كان يحدث أثناء الفتنة، ما من شيء من ذلك أثبت في مجموعة الكتاب الأزرق، ولا يعقل بأية حال أن المخابرات انقطعت بين هذه الجهات أثناء وقوع الاضطرابات.

وحقيقة أخرى جديرة بالنظر، وقد سبق الإشارة إليها في موضع آخر، وتلك هي إطلاق النار من النوافذ على الوطنيين بمجرد مقتل السيد العجان على يد ذلك المالطي الذي هو شقيق خادم كوكسن، فكأن الأجانب أعدوا هذا الحادث إيذانًا ببدء ما سبق به الاتفاق …

ويتَّصل بذلك ما ذكره جون نينيه في قوله: «وفي طريقي قابلت مستر كوكسن في عربة، وأخبرني أحد الواقفين بجانبي أنه كان في بيت أحد المالطيين أثناء إطلاق النار، وأنه اعتدي عليه عند خروجه من ذلك البيت؛ لأن الدهماء عدوه مسئولًا عن إطلاق النار.»

ولا يفوتنا كذلك أن نشير إلى مساعي مالت وكوكسن بوجه عامّ ضد وزارة البارودي وضد عرابي منذ قامت هذه الوزارة، ومزاعمهما عن تسلط الحزب العسكري، ورغبتهما الملحّة في إسقاط تلك الوزارة التي أعلنت الدستور وقضت على نفوذ الرقيبين الأجنبيين، والتي زادت روح الوطنية تأصلًا في نفوس المصريين بحيث بات يَخْشى الأجانب استعصاءها على المقاومة لو تركت وشأنها. ولقد ازداد غضب مالت وكوكسن بصفة خاصة منذ عودة عرابي إلى الوزارة بعد سقوطها والتجاء الأجانب والوطنيين إليه لحفظ الأمن، وإعلانه أنه يأخذ ذلك على عاتقه، وواضح أن نجاحه فيما تعهّد به إسقاط لحجتهما من أساسها، وقضاء على محاولتهما الشيطانية لتنفيذ السياسة المرسومة، سياسة احتلال مصر …

والآن بعد أن أثبتنا أن المأساة مدبرة، وبعد الذي عرضناه من مسلك عمر لطفي ومن ورائه الخديو، ومسلك الإنجليز قبل المأساة وبعدها، يمكننا القول في غير أدنى شعور بالحرج إن المأساة كانت من تدبير مالت وكوكسن وقبيلهما من شياطين الاستعمار، وإن عمر لطفي كان شريكًا لهما فيما دبّرا، إن لم يكن بالتواطؤ الصريح فبالموافقة الضمنية، كمن يعلم سلفًا أن نارًا سيشعلها بعض الجناة فيظلّ يرتقبها لأن له مصلحة في إشعالها، حتى إذا اندلعت ألسنتها تركها تأكل كل شيء، ويزيد في تبعته أنه كان بحكم منصبه المسئول الأول عن الأمن في المدينة.

والحق عندي أن كوكسن ولطفي كانا في الشرّ سواءً، ولا يقلّ أحدهما تبعة عن صاحبه في تدبير هذه المأساة.

ولا يستطيع منصف أن يبرئ عمر لطفي إلا إذا استطاع أن يبرئ كوكسن ومالت، ولن يبرأ هذان إلا إذا أدين عرابي وأصحابه، وهو ما لم يستطع أعداء عرابي بكل ما وسعهم من جهد أن يصلوا إليه …

قال الشيخ محمد عبده: «وفي يوم هذه الحادثة توجّهت إلى السراي فرأيت موظفيها في جدل عظيم مما حدث، وكانوا يبالغون في رواية الأخبار، ويضحكون من عهد عرابي بالمحافظة على الأمن العام، ومن المعلوم أن موظفي السراي لا يقولون إلا ما يسرُّ الخديو، فإذا كانت الأخبار سارة تكلموا وضحكوا، وإلا تظاهروا بالحزن والكآبة جهدهم.١٥

وبعد اثني عشر يومًا من هذا التاريخ كنت في الإسكندرية، فسمعت الناس جميعًا يقولون إن المحافظ عمر لطفي سمح بانتشار الفتنة إلى هذا الحد لأنه كان مقيمًا في البلد ولم يصدر أمرًا بتوقيفها، ولم يذهب إلى مكان الفتنة إلا بعد مضي وقت، ولم يطلب مساعدة العسكر النظامي مع أنهم كانوا على مقربة منه، وأجمع الناس على أن عمله هذا موعز به من الخديو. وعلمنا أيضًا أنه لما كانت المذبحة على وشك النهاية وكان المحافظ يتجوّل من مكان إلى آخر، وإذا بأجنبي في شباك وفي يده مسدس فقال أحد البدو: أأرمي هذا الرجل يا باشا؟ فقال له: ارمه، فأطلق البدوي عليه الرصاص فقتله، وكثير من المنهوبات دخلت بيته وبيوت أقربائه في ذلك اليوم الأسود … وقد سمعت أيضًا أنه حرّض بعض الناس أثناء المذبحة وشجّعهم على ذلك، وأنه أشار إلى البوليس ألا يتدخل قائلًا: دعوا أبناء الكلاب يموتون.

ولم تسأل اللجنة التي تألّفت للنظر في أسباب هذه الفتنة عمر لطفي عن شيء مما حدث مطلقًا، بل كان الخديو أوعز إليه بأن يستقيل بحجة المرض.

كان عمر لطفي محافظ الإسكندرية زمن الفتنة، وقد أهمل أمر القيام بحفظ الأمن العام على أنه هو الشخص الوحيد المسئول عنه. هذا إذا لم نقل إنه هو المحرض عليها، فإذا كان فَعَل ما فَعَل إطاعة لأمر عرابي كما ادعى، مع أن وظيفته تابعة رأسًا إلى الخديو — لأن الخديو أصدر أمرًا خاصًّا صرح فيه أنه بعد استقالة وزارة سامي أفضت أمور الداخلية وشئونها إلى السراي — فكيف نعلل تعيينه وزيرًا للحربية جزاءً لطاعة عرابي وعصيانه لسيده الخديو؟ وإذا كان الأمر إهمالًا منه فكيف يصحُّ مع إهماله وعدم كفاءته تعيينه وزيرًا للحربية؟ ولماذا لم يُسأل سؤالًا واحدًا عما جرى مع أنه كان يجب أن يكون أول من يُسأل؟

لا ريب في أن استقراء سير الحوادث، يُظهر أتمَّ الظهور أن الخديو بالاشتراك مع عمر لطفي كانا سبب هذه الفتنة، أي مذبحة الإسكندرية.»١٦
ويعتقد برودلي اعتقادًا جازمًا بإدانة عمر لطفي، فقد كتب إليه اللورد تشرشل يسأله رأيه عقب عودته من مصر ليقدم هذا الرأي إلى جلادستون، فكتب برودلي إليه، بأنه سأل في السجن اثنين من كبار السياسيين النابهين لا ترقى إليهما شبهة ولا تخفى عنهما حادثة،١٧ فتوافقت روايتاهما بما يدين عمر لطفي، وكانا كل في معزل عن صاحبه في السجن بحيث لا يمكن التقاؤهما …

أما كوكسن فقد لعب في هذه الفتنة دور الشيطان، ويقيني أنه لو سار التحقيق كما أراد عرابي لأُخذ بجريمته، ولكن توفيقًا بادر بتعيين عمر لطفي رئيسًا للجنة التحقيق، ولم يعارض عرابي في هذا رغبة منه في المحافظة على المودّة بينه وبين الخديو، وقد أقسم كل منهما قبل ذلك بأيام على أن يحمي الآخر كما يحمي نفسه، ثم أحبط الإنجليز عمل اللجنة بانسحاب مندوبهم منها فنجا كوكسن من الاتِّهام …

أما الغرض من تدبير هذه المأساة فيتبيّن لنا في تتبع سير الحوادث صوب الهدف المقصود، وحسبنا أن نذكر الآن أنها كانت من أقوى الضربات التي نزلت بالحركة الوطنية القومية، وكانت فاتحة المآسي التي سوف يأتي بعضها في إثر بعض حتى تقع المأساة الكبرى يوم التل الكبير.

١  أثبت هذه العبارة جون نينيه في كتابه بنطقها العربي.
٢  رأس التين.
٣  وردت هذه الأقوال جميعًا في كراسات الكتاب الأزرق الإنجليزي، وقد ذكرها اللورد تشرشل أثناء اتهامه الخديو وعمر لطفي مستخرجًا إياها من مجموعة الكتب الزرق الخاصة بمصر.
٤  أثبت لورد تشرشل تقرير أحمد بك رفعت في اتهامه، وقد أكد رفعت كلامه في محضر استجوابه عند محاكمته.
٥  ذكر ذلك جون نينيه كما ذكره بلنت.
٦  Blue Book, Egypt, No. 8; P. 60.
٧  أكد أحمد رفعت هذه البرقية، وقد ذكرها رندلف تشرشل في اتهامه، كما أكدها بلنت في كتابه، وذكرها الشيخ محمد عبده، ويذكر برودلي في رد منه على كتاب من تشرشل أن اثنين من المسجونين السياسيين أثناء المحاكمة ذكرا له هذه الصلة، وأن أحدهما عرفها من أحد موظفي التلغراف بالقصر نفسه …
٨  عرضنا هذه العبارة من كلام الشيخ عن تقرير تشرشل الذي احتواه الكتاب الأزرق رقم ٤ سنة ١٨٨٤ مصر.
٩  مصر رقم ١١. ص٥٣٠.
١٠  الكتاب الأزرق. مصر رقم ٤، ١٨٨٤ ص٢، وجاءت الأدلة على استعانة الخديو بالبدو في رقم ٧ ص٧٨، ٨٧، ٩١، ٩٤، ٩٨، ١٠٤، ١٤١.
١١  مما كتبه صابونجي إلى بلنت عقب الحادث …
١٢  S. H. Blunt, P. 317.
١٣  Blue Book, Egypt, No. 7; P. 107.
١٤  Egypt No. 17 P. 61.
١٥  ذكر أحمد رفعت بك شيئًا كهذا عن موظفي السراي.
١٦  تعريب ما ذكره الشيخ للمستر برودلي المحامي أثناء المحاكمة حسب ما أورده الشيخ رشيد رضا، وهو يطابق الأصل الإنجليزي.
١٧  كان يقصد الشيخ محمد عبده وأحمد بك رفعت، وقد حذف اللورد اسميهما وقتئذ خوفًا عليهما.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤