نصرك الله يا عرابي

ما ذاعت في القاهرة والأقاليم أنباء ما فعل الإنجليز في الإسكندرية وما كان من موقف الخديو بعد ذلك، وما ذاع رد عرابي على استدعاء توفيق إياه حتى امتلأت القلوب عطفًا على عرابي وإجلالًا له، وازدادت محبة الناس له أضعافًا مضاعفة، وصار من الكلمات الشعبية التي يسمعها المرء في المدن أينما سار في شوارعها ودروبها وأينما حل في مقاهيها ومتنزهاتها، وفي القرى أينما وجدت شمالًا أو جنوبًا تلك الكلمة التي غدت شعار الشعب وهي: «الله ينصرك يا عرابي»١

ولم تقتصر الأمة على الهتاف والدعاء، فلسوف نرى أنها بذلت من أبنائها ومن أقواتها وأموالها ما هو خليق أن يسجل لها في تاريخ الحركات القومية مثلما يسجل للأمم الأبية الكريمة من دواعي الفخر …

•••

فطن عرابي منذ أن جاءته برقية الخديو إلى أن الإنجليز من أول الأمر سيتخذون من الخديو أداة لتحقيق أغراضهم، وكان أول اتجاه نحو هذا أن يصدر قرارات ضد عرابي تذيع الانقسام في البلاد …

لذلك رأى أن الظروف تحتم عليه أن يقضي على هذا السلاح، فبادر بإرسال برقية إلى جميع المديريات والمحافظات يعلن فيها للناس انضمام الخديو إلى الإنجليز ويحذرهم من اتباع أوامره ويدعوهم إلى الاستعداد وجمع ما يلزم للقتال٢
وأرسل عرابي برقية أخرى يعلن فيها للمديرين أن الوزراء أسرى عند الخديو وأنه يريد أن يتخذ منهم أداة لتنفيذ أغراضه في شل حركة الدفاع عن الوطن وعلى ذلك فليعلم الحكام والمديرون أن ما يأتي من رئيس الوزراء من البرقيات بطلب الكف عن الاستعداد إنما هو مجبر عليه فلا طاعة له، وأن الذين يخونون وطنهم لا يكون جزاؤهم العقاب وفق قوانين الحرب فحسب، بل سيلعنون في الآخرة٣
وأرسل كتابًا خطيرًا في اليوم السابع عشر من يوليو إلى يعقوب سامي باشا وكيل وزارة الجهادية بالقاهرة يعلن إليه فيه خيانة الخديو للبلاد وأنه سبب ما نزل بها من الكوارث ويدعوه إلى عقد جمعية من الكبراء، والعلماء للنظر في الأمر وإصدار قرار بشأن الخديو، وفيما يجب عمله لصالح الأمة وتقرير مدى «صلاحية هذا الوالي عليها».٤

وقد اهتم الإنجليز بأنباء هذه الاتصالات وغاظهم أن يسبقهم عرابي إلى السلاح الذي أرادوا أن يحاربوه به، وأبرق كارتريت إلى جرانفل في اليوم الحادي والعشرين من يوليو يقص عليه أمرها، فرد عليه جرانفل ببرقية في نفس اليوم هذا نصها: «بالنظر إلى لهجة عرابي باشا في بلاغاته التي ذكرتها لي في برقيتك اليوم، رأيت أن أوجهك بشدة إلى أن تؤثر على الخديو بضرورة إصدار بلاغات مضادة من جانبه إلى الشعب المصري، وأن تخبر سموه بأن حكومة جلالة الملكة تعد العدة لإرسال قوة كبيرة إلى البحر الأبيض المتوسط».

ومعنى ذلك أن إنجلترا كانت تعد حملتها لاحتلال مصر وأنها خشيت من نشاط عرابي وقطعه الطريق على أساليبها …

وكان الخديو قد أعلن فعلًا بعزل عرابي في اليوم الثاني والعشرين من يوليو وبنى قرار العزل على أمور نسبها إليه سوف نذكرها، ولكن الإنجليز لم يكتفوا بذلك وأرادوا أن يستمر الخديو في إصدار القرارات ضد عرابي …

وكان يعقوب سامي باشا من المخلصين للثورة الوطنية وكان يكره أشد الكره من الخديو انضمامه إلى الإنجليز، ويرى أن ذلك خيانة منه للبلاد، وكان يعقوب باشا كذلك من أكبر أنصار عرابي المتحمسين له …

فلما جاءته برقية عرابي اجتمع في نفس اليوم في مقر وزارة الحربية بقصر النيل مع عدد من صفوة أنصاره وتشاوروا في الأمر، واستقر رأيهم على دعوة مجلس من وكلاء الوزارات وبعض كبار الضباط وكبار الموظفين، وقد انعقد هذا المجلس وعرف باسم المجلس العرفي، وسيبقى يدير شؤون الحرب والإدارة طول مدة القتال.

وقرر المجلس العرفي في نفس اليوم دعوة جمعية عامة تضم رؤساء الأديان والعلماء ووجوه الأمة ممن يوجدون بالقاهرة وكبار موظفي الدولة، للنظر في هذه الأمور الخطيرة واتخاذ القرارات التي يراها صالحة للبلاد …

وانعقدت الجمعية العامة — أو مجلس العموم كما سميت — في مساء الاثنين في السابع عشر من يوليو سنة ١٨٨٢ الموافق غرة رمضان سنة ١٢٩٩ في وزارة الداخلية، وشهد هذا الاجتماع الخطير نحو ٤٠٠ عضو، كان بينهم الأمراء الموجودون بالعاصمة ورؤساء الأديان وفي مقدمتهم الشيخ الإمبابي شيخ الإسلام، ثم كبار العلماء وقاضي قضاة مصر ومفتي الديار المصرية والنواب ووكلاء الوزارات والقضاة وكبار الأعيان والتجار …

وعرضت على أعضاء الجمعية البرقيتان المتبادلتان بين الخديو وعرابي، والبرقية التي أرسلها عرابي إلى يعقوب سامي، وبعد أن تشاورا طويلًا في الأمر، اتخذوا قرارًا خطيرًا يدل على قوة روح الأمة ومناصرتها المجاهدين من أبنائها؛ وذلك أن الجمعية رأت الاستمرار في إعداد العدة للقتال ما دامت سفن الإنجليز في الشواطئ المصرية وجنودهم في الإسكندرية، كما رأت استدعاء الوزراء من الإسكندرية لسؤالهم عن حقيقة الأمر، وأوفدت لجنة من ستة مندوبين من أعضائها للسفر إلى الإسكندرية لإبلاغ الوزراء قرار الجمعية …

•••

وكان الخديو في قصر رأس التين بالإسكندرية يحيط به أعوانه من الإنجليز ويختلط بحرسه بحارة الأسطول البريطاني وإنه لينتظر بصبر فارغ ذلك اليوم الذي يؤتى إليه فيه برأس عرابي حيًّا أو ميتًا …

أبرق كارتريت في التاسع عشر من يوليو يقول: «أرسل الخديو في طلب السير أوكلند كلفن صباح اليوم وطلب إليه أن يستحث حكومة جلالة الملكة لتخطو خطوة جديدة بلا إبطاء، ويقول سموه: إنه من ناحيته يرى أن هذا العمل ضروري جدًّا، وإنه يسر سموه إذا أحيط علمًا بالخطوات التي ينظر فيها، وقد وصف سموه قوة عرابي باشا بأنها الآن بلغت من العظمة حدًّا ينشر الرعب ويبثه في عقول الوطنيين جميعًا، وأن سيطرته على البلاد وخاصة القاهرة يجعل عائلات جميع الموالين للخديو وأملاكهم تحت رحمته، أو الذين يستراب في أمرهم أنهم موالون، ومن ناحية أخرى فإن هناك إشاعة مستفيضة بأن إنجلترا سوف يحال بينها وبين خططها بسبب الخلاف بينها وبين الدول، وستكون عاقبة هذين الاعتبارين أن يصبح من الصعب على سموه أن يحتفظ بمن يشايعونه متحدين».٥

وهذه البرقية صريحة في أن الخديو لا ينضم إلى الإنجليز فحسب، بل إنه يستعديهم على مصر ويستحثهم في صورة من القول لا تحتاج إلى تعقيب …

وجاء إلى الإسكندرية من بورسعيد عمر باشا لطفي بطل مأساتها، يقص على الخديو والإنجليز مزيجًا مهوشًا من الأباطيل ليس فيه من الحق إلا ما كان من صالح الخديو إعلانه، وحتى هذا القدر من الأنباء قد جاء به على صورة ممسوخة أملتها ضغائنه ومن ذلك ما ذكره عن حوادث اغتيال بعض الأوربيين داخل البلاد …

ومن ذلك وصفه المجلس العرفي بأنه مجلس عدائي حضره نحو مائة من العلماء والباشوات والتجار، ومنه ما ذكره عن الشيخ حسن العدوي أنه قال: إنه بأمر الله ورسوله لن تطاع أوامر الخديو بعد اليوم، وإن الوقت قد حان لنشوب حرب مقدسة وقد وافقه الشيخ عليش على ذلك، ومنه أن أحد الباشوات اعترض على الشيخين وتشكك في صحة ما أرسله عرابي من الأنباء وطالب بالدليل عليها فوثب إليه بعض الضباط وأرادوا قتله، ولما أعيد النظام أبدى بعض الحاضرين أنه إذا كان للأمة أن تشكو شيئًا من الخديو فإن السلطان هو الذي ينظر في شكواها وليس للمجلس هذا الحق، وقال بطريق الأقباط: إننا سمعنا من جانب واحد هو جانب عرابي ولم نسمع شيئًا من الخديو … إلى آخر هذا الخلط المرذول …

ومما أورده بطل مذبحة الإسكندرية كذلك مشوهًا ممسوخًا قوله: إنه شاهد من القطار وهو مسافر إلى القاهرة عقب ضرب الإسكندرية جثث كثير من الأوربيين ملقاة على الطريق وقد اغتالهم الجند وقطاع الطرق، وإنه شاهد في محطة طوخ مقتل ألماني وزوجته، وإن طنطا ودمنهور والمحلة نهبت نهبًا تامًّا وقُتل جميع من كانوا فيها من الأوربيين.

وإنه بأمر عرابي باشا قد سُجن من كبار الموظفين إبراهيم باشا أدهم مدير الغربية وحسن بك مدير المنوفية وكمال بك مدير القليوبية.

وإن الضباط يعقدون اجتماعات كثيرة برئاسة محمود سامي باشا في قصر النيل، وإن عرابي باشا قد طلب إلى المديريات إرسال سدسي عدد الذكور في كل منها إلى كفر الدوار مسلحين بالنبابيت، كما أنه طلب للخدمة جميع الجنود القدامى من كل سن ومنهم من بلغ أرذل العمر؛ حيث كانوا في جيش محمد على نفسه.

وإن الخيل والأقوات تجلب قسرًا من داخل المديريات، وإن المديريات جميعًا في حال عامة من الفوضى التامة، ويسود القاهرة ذعر عظيم وإن لم يقع فيها حتى الآن ما يخل بالنظام٦

وقد أبرق كارتريت بأقوال عمر لطفي هذه إلى حكومته لتنتفع بها في الحملة على عرابي في كل فرصة دولية تسنح لها …

وليس أدل على تشويه عمر لطفي الحقائق، وبُعده بُعدًا كبيرًا عن الأمانة من إيراده نبأ حبس الموظفين في صورة تشعر المرء بطغيان عرابي، مع أنه حبس هؤلاء الموظفين رهن المحاكمة؛ لأنهم تهاونوا فوقعت حوادث اغتيال في أقاليمهم استاء لها عرابي أعظم الاستياء، وكان في مقدمة المتهاونين إبراهيم أدهم باشا مدير الغربية؛ فقد تمارض وترك الغوغاء يعيثون في الأرض فسادًا حتى لقد شاركهم بعض خفراء المديرية، وكان من جراء ذلك أن قُتل في طنطا نحو ثمانين من الأجانب وفي المحلة نحو تسعة منهم …

وقد أرسل عرابي فرقًا من الجيش على الفور إلى طنطا والمحلة وشبين الكوم، وأرسل قطارات تنقل من يرغب في السفر من الأجانب بالمجان إلى الإسماعيلية، وبورسعيد …

وممن كان لهم همة مشكورة في إخماد هذه الفتنة، أحمد باشا المنشاوي؛ فقد آوى في بيته نحو ٣٠٠ من الأوربيين والمسيحيين وظلوا في حمايته ورعايته حتى انتهت الحرب …

وما إن بلغ الخديو قرار الجمعية العامة حتى أعلن قراره في اليوم الثاني والعشرين من يوليو بعزل عرابي من نظارة الجهادية والبحرية، ذلك القرار الذي صدر منذ اليوم السادس عشر كما جاء في برقية كارتريت إلى جرانفل، وكان الخديو في هذه الأيام الستة بين إصدار القرار وإعلانه يحاول استدراج عرابي إلى الإسكندرية كما بينا، للقبض عليه غدرًا وعدوانًا …

وقد أعلن الخديو أن هذا الأمر بالعزل كان بناء على قرار من مجلس الوزراء وعين الخديو عمر باشا لطفي مكان عرابي ناظرًا للجهادية.

أما قرار العزل فهذا نصه: «إن ذهابكم إلى كفر الدوار مستصحبًا العساكر وإخلاء ثغر الإسكندرية من غير أن يصدر لكم أمر بذلك، وتوقيف حركة السكة الحديد وقطع جميع المخابرات التلغرافية عنا ومنع ورود البوستة إلينا ومنع حضور المهاجرين إلى وطنهم بالإسكندرية واستمراركم في التجهيزات الحربية … وارتكابكم عدم الحضور طرفنا بعد صدور أمرنا بطلبكم، كل ذلك يوجب عزلكم؛ فقد عزلناكم من نظارة الجهادية وأصدرنا أمرنا هذا لكم بما ذكر ليكون معلومًا».٧
وأذاع الخديو عملًا بنصيحة كارتريت وتنفيذًا لتعليمات جرانفل منشورًا علق على الجدران بشوارع الإسكندرية في اليوم الثاني والعشرين من يوليو وفيه يبرر الخديو عزله عرابي، ومما احتواه هذا المنشور، قول الخديو: «ليعلم كل من يقرأ هذا الأمر سبب عزل أحمد عرابي باشا؛ ذلك أنه بعد عشر ساعات من ضرب الشواطئ حطمت قلاعنا وحطم ٤٠٠ مدفع من مدافعنا وقتل القسم الأكبر من رجال مدفعيتنا أو عطلوا، بينما لم يفقد الأسطول الإنجليزي إلا خمسة رجال ولم تصب سفنه إصابات ذات بال، وجاءنا حينذاك أحمد عرابي باشا يعلن إلينا النبأ المؤلم عن تحطيم حصوننا، وقد طلب الأدميرال الإنجليزي منَّا إخلاء قلاع العجمي والدخيلة والمكس لتحتلها جنوده، ولما كان مجلس الوزراء منعقدًا بحضور درويش باشا؛ فقد تقرر أنه لا يمكن إخلاء القلاع إلا بأمر من صاحب الجلالة الشاهانية السلطان، وأنه على عكس ذلك صار من الضروري العمل على تدبير وسائل الدفاع عنها وذلك بوضع حاميات جديدة تمنع نزول الجنود الأجنبية، وفي نفس الوقت أرسلنا برقية بذلك إلى الباب العالي، ولكن عرابي باشا توجه إلى جهة باب رشيد بالإسكندرية دون أن يتخذ أي إجراء حربي، فأرسلت إليه أحد ياوري ليذكره بأنه يجب عليه إرسال إمدادات إلى القلاع المذكورة، فأجاب بأنه لا يستطيع أن يرسل جنديًّا واحدًا، وأمر الجند، بأن ينسحبوا معه وعسكر في كفر الدوار تاركًا المدينة بغير دفاع».٨

وإن المرء ليعجب حتى ما يفرغ عجبه من هذا الكلام! ويتساءل بحق: هل كان الخديو يقرأ هذا قبل إذاعته؟ إذ كيف يجمع الخديو بين هذا القول وبين ما جاء في برقيته إلى عرابي بكفر الدوار؛ إذ حمله تبعة الضرب نظرًا «لاستمرار الأعمال التي كانت جارية بالطوابي وتركيب المدافع التي كلما يصير الاستفهام عنها كان يصير إخفاؤها وإنكارها» وإذ دعاه إلى أن «يصرف النظر عن جمع العساكر وعن كافة التجهيزات الحربية»!

ومن المضحك المؤلم معًا أن يقول توفيق في نفس الوقت: «ولو لم يتحقق لدينا أن نية الإنجليز والفرنسيين ليست نية استيلاء، بل نية إصلاح أو كان عندنا أدنى شبهة في ذلك لكنا أول من يقوم بالمدافعة بأرواحنا وأموالنا إلى أن يقضي الله أمرًا مفعولًا».٩

ولكن ماذا عسى أن يقول توفيق غير هذا وهو لا يستطيع أن يجعل من الباطل حقًّا، ولا يستطيع في الوقت نفسه أن يسكت ومن ورائه كارتريت وفي دخيلة نفسه شديد مقته لعرابي وعظيم سخطه على الثورة؟

وأرسل كارتريت في اليوم الثاني والعشرين كتابًا إلى جرانفل يقول: «إيماء إلى رسالتي بتاريخ الأمس بشأن ما حدث في قصر الرمل أثناء الضرب وبعده، أفيدكم أني تلقيت من المصدر نفسه زيادة على ما سلف أن عرابي باشا حينما سأله الخديو ماذا ينوي عمله في المستقبل أجاب بأنه سوف يلجأ إلى تدبيرات غير نظامية حيث إنه لا قبل له بمقاومة الإنجليز، وكان عرابي بهذا يمهد لما كان من إحراق المدينة وتخريبها وحبس الماء عنها،١٠ ولقد لمح عرابي باشا قبل ذلك في حديث له مع رجل إنجليزي إلى ما سوف يتبعه من وسائل المقاومة.

ومن الجلي أن قوة عرابي الرئيسية كائنة في وسائله البربرية التي لا وازع يصرفه عنها، وإنه ليسود بين موظفي القصر الآن خوف شديد مما عسى أن يصنعه عرابي بأملاكهم في القاهرة وفي غيرها، حتى إن ذلك ليشمل عمل الخديو، وإن سموه ليحجم عن إعلان عصيان عرابي بسبب ما يفضي إليه ذلك من مكايلته بكيله …

وفي مقابلة لي مع سمو الخديو بالأمس حاولت أن أصور له ما يحدثه مثل هذا الإعلان من أثر أدبي، وما يبثه من الشجاعة في قلوب من لا يزالون موالين لسموه في القاهرة وغيرها، فأجاب الخديو بأنه ليس هناك ما يدعو في الإسكندرية إلى القول بأن قوى عرابي قد ذهبت، أما عن القاهرة فإنه أبرق إليها الآن بعزل عرابي من بورسعيد، وليس لديه وسيلة لإذاعة بلاغ ضده هناك، وأضاف سموه أن المديرين في الأقاليم لا يجرءون في الظروف الحالية إطاعة أوامره، ولكنه يتخذ الخطوات لإذاعة منشور فيهم بأيدي بعض البدو …

وإنه ليؤسفني أن أقرر، أنه على نقيض ما يذكر الخديو بشأن الإسكندرية، لا يزال يغادرها كثير من العرب لينضموا إلى عرابي، وربما كان مرد ذلك إلى خوفهم مما تهدد به من عقاب في بلاغاته الأخيرة وإن كان يمكن القول إلى حد ما بأن ذلك يرد إلى الذعر الذي استولى عليهم من نقصان الماء نقصانًا واضحًا».١١

ومن عجيب ما يذكر في هذا الصدد، أن كارتريت قد اقترح على حكومته الاعتراف بوزارة راغب باشا بعد طرد عرابي منها وتجديد العلاقات معها على أساس المودة، مع أن راغب يعد مسؤولًا عن كل شيء يسأل عنه عرابي، بل هو بحكم كونه رئيس مجلس الوزراء أكثر مسؤولية منه إذا سلمنا جدلًا بأن في الأمر مسؤولية، ومما يزيد الأمر غرابة أن عرابي كان نائبًا عن المجلس الذي انعقد في اليوم العاشر من يوليو بقصر رأس التين برئاسة الخديو؛ ذلك المجلس الذي قرر أن الحصون سترد على الأسطول بعد القذيفة الخامسة … فكيف تجدد الحكومة الإنجليزية علاقتها بوزارة راغب التي أصدرت هذا القرار وتمعن في معاداتها عرابي الذي لم يشهد هذا المجلس؟

وللقارئ أن يمعن النظر في هذه البرقية التي أرسلها كارتريت إلى جرانفل في اليوم الثاني والعشرين من يوليو قال: «بما أن الوزراء قد تجنبوا الآن كل فكرة عدائية وبما أنهم يظهرون صراحة ولاءهم للخديو؛ فقد طلب إلي سير أ. كلفن أن أعرض على فخامتكم ما يذهب إليه من أنه مما ينصح به تجديد العلاقات الدبلوماسية معهم مع استثناء عرابي باشا بالضرورة من بينهم، وإن مثل هذه الخطوة كفيلة بأن تساعد الوزارة المصرية في محاولتها كسب الشعب ثانية إلى جانب توفيق باشا كما أنها تبث الثقة في نفوسهم بشأن ما تنويه الحكومة الإنجليزية، وقد شرح السير أوكلند في مقابلة شخصية بينه وبين وزير المالية سبب المعارضة التي كانت توجهها المراقبة إلى الوزارتين اللتين اشترك فيهما عرابي، فذكر أن ذلك يرجع إلى أن هاتين الوزارتين كان قيامهما خطرًا على قانون التصفية، ولم يكن في الأمر أي اعتبارات سياسية أو دولية، ولما كان الخديو قد أسقط عرابي باشا؛ فقد أصبح من الأمور الهامة أن نستعيد ثقة البلاد، وأن نثبت للملأ أن المعارضة التي كان يوجهها من قبل ممثلو حكومة جلالة الملكة لم يقصد بها إلا العصابة العسكرية الذين كانوا يؤدون بسياستهم إلى القضاء على الوضع المقرر والإخلال بمالية الدولة! ولا يمكن أن تقصد بها وزارة تؤيد بولائها الخديو، وتجلس في كراسيها بإرادته! ويقول السير أوكلند كلفن: إن شرحه هذا قد صادف نجاحًا كبيرًا، ويرى أنه إذا لقيت الوزارة الحالية اعترافًا من حكومة جلالة الملكة (دون أن يؤثر ذلك بالضرورة في حرية الخديو في العمل بشأن استمرارها أو تغييرها في المستقبل) أدى ذلك إلى تأثير حسن بوجه عام، وفي حالة ما إذا صادف هذا الرأي قبولًا لديكم فإنه يقترح أن يسمح للرقيبين ثانية بحضور اجتماعات مجلس الوزراء».١٢

وفي هذه البرقية الخبيثة أبلغ الأدلة على أن الحكومة الإنجليزية لم ترمِ إلا إلى القضاء على الحركة الوطنية القومية التي يمثلها عرابي، إن كان الأمر لا يزال يحتاج إلى دليل …

لم تحفل الأمة بأمر الخديو القاضي بعزل عرابي، بل لقد زادها ذلك تمسكًا به والتفافًا حوله، وكان الناس يتجهون بوجوههم إلى السماء ويرفعون أكفهم كلما ذكر عرابي قائلين: «الله ينصرك يا عرابي».

وكره الناس انضمام الخديو إلى الإنجليز أعظم الكره، ونظروا إلى عرابي نظرهم إلى المدافع عن كيان البلاد في وجه الغاصب الذي لم يَرْعَ حرمة القانون والذي أطلق مدافعه على الإسكندرية في غير وازع من ضمير أو شرف …

ولذلك أضاف الناس إلى ألقاب عرابي — رئيس الحزب الوطني، وقائد الجيش الوطني — لقبًا جديدًا هو «حامي حمى الديار المصرية»، وهذا ما خاطبته به الجمعية العامة …

وفي هذا الذي فعلته الأمة المصرية دليل على أن الثورة القومية قد تغلغلت إلى أعماقها لا كما يقول بعض المؤرخين عن جهل مشايعين في ذلك كتاب الاحتلال …

وأما عرابي فلم يعبأ بقرار عزله وقد وطد نفسه على الدفاع عن مصر ووقف في خطوط كفر الدوار معتمدًا على تأييد الأمة وعلى عدالة قضيته وشرف جهاده في سبيل الحق والحرية …

وأرسل عرابي إلى يعقوب سامي باشا ليدعو الجمعية العامة ثانية للنظر في الأمر واجتمع المجلس العرفي وقرر دعوة الجمعية إلى الانعقاد.

وفي يوم السبت الموافق الثاني والعشرين من يوليو اجتمعت الجمعية بوزارة الداخلية، وكان اجتماعًا قوميًّا خطيرًا أعظم وأشمل من الاجتماع السابق، فهو مؤتمر وطني عام شهده نحو خمسمائة من وجهاء الأمة المصرية وفي مقدمتهم ثلاثة من الأمراء هم: الأمير إبراهيم باشا ابن الأمير أحمد باشا، والأمير كامل باشا فاضل ابن الأمير مصطفى فاضل وهو ابن عم الخديو توفيق، والأمير أحمد باشا كمال ابن الأمير أحمد باشا …

وشهده كبار علماء الأزهر وفي مقدمتهم شيخ الإسلام الإمبابي وقاضي قضاة مصر والمفتي ونقيب الأشراف، وكان من أبرز الحاضرين من العلماء الشيخ محمد عبده والشيخ حسن العدوي والشيخ محمد عليش والشيخ محمد أبو العلا الخلفاوي …

وشهده كذلك بطريرك الأقباط ووكلاء البطريكخانات وحاخام اليهود …

وشهده وكلاء الوزارات والنواب وعدد كبير من الباشوات وكبار الضباط وكبار موظفي الدولة الإداريين والقضاة ومديرو الأقاليم …

ومن الأهالي شهده كبار التجار والأعيان ورؤساء العشائر من الأقاليم …

ومن أهم ما امتاز به هذا الاجتماع التاريخي العظيم هو تمثيل الأسر المصرية الكبرى فيه من معظم مديريات مصر صعيدها وريفها.١٣

فقد شهده من كل إقليم عدد من كبار العمد كانوا هم في الوقت نفسه عمداء أسرهم وكبراء الجهات التي ينتمون إليها، وبذلك كانت مصر كلها ممثلة في هذا المؤتمر الوطني العظيم …

وفي ذلك أبلغ رد على الذين يزعمون أن الحركة القومية في مصر كانت فتنة عسكرية لم تؤيدها الأمة المصرية فها هي ذي الأمة المصرية بجميع طوائفها تقول قولها الفصل في موقف من أعظم مواقف الثورة، موقف الجهاد والذود عن كيان البلاد تحت راية زعيم الثورة أحمد عرابي باشا.

وكان الاجتماع برئاسة حسين باشا الدرمللي وكيل الداخلية، وتولى قراءة المكاتبات الشيخ محمد عبده، وقد تليت في الاجتماع فتوى شرعية من المشايخ حسن العدوي ومحمد عليش ومحمد أبو العلا الخلفاوي مؤداها أن الخديو بانحيازه إلى العدو المحارب لبلاده يعد مارقًا عن الدين …

ثم تداول المجتمعون في الموقف الحربي وانتهوا إلى قرار خطير أجمعوا عليه؛ وذلك هو عدم الاعتراف بقرار الخديو الصادر بعزل عرابي باشا من نظارة الجهادية والبحرية … وهكذا تأكدت لعرابي زعامة الأمة …

وهذا القرار الخطير في الواقع مضافًا إلى فتوى مروق الخديو من الدين هو بمثابة خلع توفيق من منصبه …

وسأل يعقوب سامي باشا أعضاء المجلس قائلًا: «حيث قرر هذا المجلس المحترم عدم عزل عرابي باشا من نظارة الجهادية والبحرية ورأى لزوم بقائه في الوظيفة فأرجو من المجلس أن يرى رأيه في أوامر الخديو التي تصدر لي من جنابه، وكذلك ما يصدر من حضرات نظاره المقيمين معه هل يلزمني قبولها وتنفيذها أم لا؟»

وتداولت الجمعية في هذا وأصدرت القرار الآتي: «بعد تلاوة الأوامر الصادرة من الخديو أولًا وآخرًا، وفيها الأمر الصادر بعزل أحمد عرابي باشا … وتلاوة منشورات عرابي باشا، وبعد سماعنا ما عرضه وكيل الجهادية (بصفة هذه الوظيفة وكونه رئيس المجلس المشكل لإدارة أشغال الحكومة) على المجلس وهو هل وجود الخديو في الإسكندرية هو ونظاره تحت محافظة عساكر الإنجليز يقتضي عدم تنفيذ أوامره أم لا، وإذا صدرت له أوامر من الخديو هل يعمل بها أم لا، رأينا أن وجود العساكر في الإسكندرية والسفن الإنجليزية في السواحل المصرية، ووقوف عرابي باشا بمدافعة العدو يقتضي وجوب بقاء الباشا المشار إليه في نظارة الجهادية والبحرية مداومًا على قيادة العساكر ومتبعًا في أوامره المتعلقة بالعسكرية وعدم انفصاله من تلك الوظيفة، ورأينا وجوب توقيف أوامر الخديو وما يصدر من نظاره الموجودين معه كائنة ما كانت لأي جهة من الجهات وعدم تنفيذها حيث إن الخديو خرج عن قواعد الشرع الشريف والقانون المنيف، ويلزم عرض قرارنا هذا على الأعتاب العالية الشاهانية بواسطة وكلاء النظارات».١٤

أما المجلس العرفي برئاسة يعقوب سامي باشا فكان هو الذي يتولى شؤون الإدارة العامة في البلاد وكان أشبه بمجلس الوزراء وقد أدى المجلس واجبه على خير ما يرجى من الهمة والوطنية، ومن أهم قراراته، وضع الرقابة على الصحف والتلغراف، ومنع السفر إلى الخارج ما دامت الحرب قائمة …

وكان الفيضان عاليًا في تلك السنة فبذل المجلس همة عالية في حراسة ضفاف النيل حتى لا يدهم البلاد خطر الغرق في وقت الحرب …

هذا إلى ما أمد به الجيش في خطوط الدفاع بالذخيرة والرجال والعتاد في نشاط وحمية وإخلاص، وما أظهره من كفاءة في حفظ الأمن والنظام داخل البلاد …

•••

وكان نفوذ الخديو لا يعدو الإسكندرية، بل إنه في الواقع لم يكن له شيء من النفوذ هناك؛ فقد كان الأمر كله للإنجليز، ولم يعد الخديو إلا اسمًا يستترون خلفه ويصدرون قراراتهم وأوامرهم منسوبة إليه …

ونشط السير بوشامب سيمور كما زعم في المحافظة على النظام والقضاء على الفوضى حتى لقد عاقب ثلاثة من الوطنيين وواحدًا من اليونانيين بالقتل رميًا بالرصاص بتهمة إثارة الفوضى، ولكنه فاته أن يؤدب جنوده الإنجليز الذين يستعين بهم على إقرار النظام والذين جاءوا مصر للقضاء على عرابي وأصحابه من العصاة؛ فقد سرق هؤلاء الإنجليز قصر الخديو بالرمل وانطبق عليهم بذلك المثل القائل: «حاميها حراميها».

أبرق كارتريت إلى جرانفل في السادس والعشرين من يوليو يقول: «تلقى الخديو كتابًا من الرمل بالأمس فيه أن جندًا بريطانيين اقتحموا قصر سموه وعاثوا في أنحائه للسرقة، وقد توجه إلى هناك فورًا الميجور جنرال سير أ. أليسون الذي أخبر بهذا الحادث لتحقيق المسألة … وقد أخبرني صباح اليوم الميجور أردغ الذي رافق الجنرال أنه يعتقد أن القصة لا أساس لها، وظهر أن مدخلًا فتح خلال شباك في الطابق الأسفل وقد أفرغت محتويات الصناديق والصواوين جميعًا، ولكن ليس هناك من ريب في أن هذا عمل بضع ساعات وأنه وقع قبل وصول فرقنا».١٥

وانظر إلى هؤلاء الإنجليز كيف يهونون الأمر هنا وينفونه عن جنودهم بنفس الأسلوب الذي يتبعونه حين يهولون ويسرفون في محاولة إلصاق تهمة لا دليل عليها بالمصريين، وبعرابي بوجه خاص …

وتولى رئاسة البوليس في الإسكندرية شارلز برسفورد، وقد أذن للتجار فتح دكاكينهم ليلًا، كما حتم على كل شخص يسير بالليل أن يحمل مصباحًا وإلا قبض عليه، وذلك ريثما تعود شركة الغاز إلى عملها …

وأخذت الحياة تعود إلى المدينة شيئًا فشيئًا، وبذل البوليس جهدًا كبيرًا في إزالة الأنقاض ودفن جثث القتلى، ولم ينتهِ شهر يوليو حتى أضيئت المدينة بالغاز كما كانت وفتحت القنصليات أبوابها …

على أن أشد ما خوف الإنجليز والأجانب عمومًا هو تناقص الماء الآتي من ترعة المحمودية؛ فقد سدها الجيش بالقرب من جهة كنج عثمان، ولذلك أصدر البوليس بطاقات لتوزيع الماء من الصهاريج حسب الحاجة، ويتبين مبلغ خوف الإنجليز من سد الترعة في برقية أرسلها كارتريت بهذا الشأن في العشرين من يوليو، يقول فيها: إن ذلك سوف يؤدي إلى هجرة الوطنيين إلى داخل البلاد وإلى التجاء الأوربيين للسفن ليشربوا من ماء الأسطول … وكذلك أبرق سيمور يبدي تخوفه من هذا العمل، ولعلهما بذلك كانا يستحثان حكومتهما لإعداد الحملة على مصر …

•••

وأما تركيا، فقد ظلت على حالها من التلكؤ والتردد، ولم تصدر شيئًا بشأن توفيق ولا بشأن عرابي، على أن (درويش باشا) الذي غادر مصر خفية في اليوم التاسع عشر من يوليو، قد أعرب عن استيائه من موقف الخديو حتى من قبل أن ينضم صراحة إلى الإنجليز، وذلك فيما أرسله إلى كارتريت في اليوم العاشر من يوليو ردًّا على تحميله تبعة سلامة الخديو؛ فقد قال درويش بعد أن استعرض قضية الضرب كلها في صراحة وقوة وأظهر تعسف الإنجليز وتنكبهم طريق الصواب: «أما عن دعوتك إياي أن أعمل بكل ما في قوتي على ضمان سلامة سمو الخديو فيجب عليَّ أن ألاحظ أنه ليس من سلامة المنطق أن يفرق بين الذات الفخمة، ذات سمو توفيق باشا، وبين حكومته، وإنه من الأمور الطبيعية أن يشغل الخديو نفسه بضمان أمن البلاد التي يحكمها وسلامتها أكثر مما يشتغل بما يهم شخصه».١٦

•••

وقبل أن نختم هذا الفصل نشير إلى خدعة ثانية أراد بها الخديو أن يتصيد بها عرابي أو يبث في صفوفه التردد والانقسام؛ وذلك أنه أرسل إليه على لسان علي مبارك باشا أحد أعضاء الوفد الذي أرسلته الجمعية العمومية إلى الإسكندرية عقب اجتماعها الأول يقترح تأليف لجنة للصلح ممن ينتدبهم عرابي من رؤساء الجند لتنضم إليهم لجنة أخرى من الأعيان …

وكانت خطوة علي مبارك باشا خدعة لا ريب فيها، وإن ذهب بعض المؤرخين إلى أنها كانت رغبة منه في إصلاح ذات البين، بل إنا لنقول في غير إسراف: إن عمله بالنسبة إلى عرابي وأصحابه من قادة الثورة القومية يعد ضربًا من الخيانة، وإنا لنشعر بعظيم الأسف؛ إذ نثبت هذا عن رجل له جلائل أعماله وله مكانته في نهضة مصر الحديثة، ولكن الحق فوق كل اعتبار، وحسبنا أن نورد ما يأتي من الأدلة على سوء ما فعل …

أبرق كارتريت إلى جرانفل في الرابع والعشرين من يوليو يقول: «أتشرف بإبلاغكم أن علي مبارك باشا وزير الأشغال السابق في وزارة رياض نجح في الوصول إلى الإسكندرية من القاهرة، كان يسود الهدوء في القاهرة وقت مغادرته إياها، ولكن هناك قدرًا من القلق بين الناس، وعند كفر الدوار رأى عرابي باشا وهو يصف وصفًا حيًّا ما رأى هناك من الأمور، أعلنت الحرب المقدسة، بتأثير الشيوخ، ويأتي إليه أعداد كبيرة من المتطوعين القرويين، ويوزع السلاح على القادمين ويبلغ المجموع الكلي للقوات الآن ٣٠٠٠٠ رجل، وتتوفر لديه الأقوات والخيل، ويقول ضباط عرابي: إن رغبة إنجلترا هي طرد عرابي باشا نفسه وتسريح الجيش، وتكوين فرق أجنبية أو تركية تحل محله ولكن هذا لن يكون … ويقول علي باشا مبارك: إن العلاقات بين عرابي والبدو ليست متينة، وقد علمت من مصدر آخر أن البدو اعتزلوا معسكره كلية».

وأبرق كارتريت بعد ذلك بيوم يقول: «إيماء إلى رسالتي بالأمس بشأن التقارير التي تلقيناها من القاهرة وكفر الدوار، أبلغكم أن علي مبارك باشا الذي جاء بها زار سير أ. كلفن صباح اليوم، وأفهمه أن عرابي باشا وطلبة باشا يترددان في الواقع في السير في الطريق التي يسلكانها الآن … بل لقد استحثاه بصفة شخصية أن يجس نبض الإنجليز بشأن شروط للصلح، وقد أجاب سير أ. كلفن بأنه لا يملك عمل شيء، وأنه يصح أن يذهب علي باشا مبارك إلى الأدميرال السير بوشامب سيمور، ولكن الأمر على كل حال بيد المؤتمر ولا يستطيع الأدميرال أن يعمل إلا عمل الوسيط، وبعد سماع هذه التحفظات استمر علي باشا مبارك في كلامه فقرر ما يأتي: «إنه يظن أنه بعد أن يزال في الحال السد من ترعة المحمودية كدليل على الإخلاص سوف يقترح العصاة على السير بوشامب سيمور أن يسرح الجيش وأن يعود الجميع إلى مواطنهم ويكتفي بنفي القادة المحرضين، فقال السير أ. كلفن: إن كان ثمة من شروط تقترح، فيجب ألا يضيع شيء ما من الوقت؛ لأن قوات عظيمة تعد الآن، ولما كان كل مخرج ممكن من البلاد محاصرًا فإن خاتمة المحرضين قد فرغ منها … وأضاف إلى ذلك أنه إذا ابتدأ القتال فإنهم سيسلكون الطريق التي رسموها …

ورد علي باشا مبارك فأفصح عما في نفسه بالتحديد قائلًا: إن معظم الضباط وفيهم طلبة يتلهفون إلى ضمان سلامتهم، وإنهم إذا نجحوا في الحصول على شروط لأنفسهم بانسحابهم عن عرابي، فإنه وأشياعه الأقربين مهما يبدو من إصرارهم سوف يضطرون في عزلتهم إلى طلب الصلح، ويعتقد أنه بهذا يمكن بعثرة الجيش وبذلك تنتهي المقاومة … وأكد له سير أ. كلفن ثانية أن كل مقاومة سوف لا تجدي، وأنه لا يترتب على أعمال التحطيم إلا خراب مصر؛ لأنه لا بد من فرض غرامة عليها، وانصرف علي باشا مبارك مصممًا أن يتصل بطلبة باشا، ولكن السير أ. كلفن كان حريصًا فلم يذكر أي اقتراحات عما تكون عليه الشروط ولا عما عسى أن يتوقع إذا قبلت شروط من أي نوع ما … وقد علم السير بوشامب سيمور بما حدث، ومن الخير أن ترسل إليه بعض التعليمات ليهتدي بها في حالة الضرورة».

ورد جرانفل في نفس اليوم فقال: «تؤيد حكومة جلالة الملكة بقوة لغة السير أ. كلفن في هذا الأمر، ولكنها ترى ألا يشار إلى شيء من هذا في المؤتمر في المرحلة الحالية، وحكومة جلالة الملكة على استعداد أن تنظر في أي مقترحات من جانب عرابي على شرط أن يكون أساسها الإخلاص، ولكن يجب أن يكون مفهومًا بأنها لا تقبل إلا الخضوع التام … على أنه إذا فتحت ترعة المحمودية فسوف تعد هذه الخطوة من جانبه علامة على حسن مقاصده، ولما كانت حكومة جلالة الملكة واثقة من ثبات السير أ. كلفن فإنها تسند كثيرًا من الأمور إلى حكمته، وفي الوقت نفسه فإن حكومة جلالة الملكة لن تتراخى في تدبيراتها الحربية، اتصل بالأدميرال بشأن موضوع هذه الرسالة».١٧

هذا ما صنعه علي باشا مبارك الذي يؤسفنا أشد الأسف أن يكون مثله من دعاة التردد والهزيمة، وأن يكون طليعة هؤلاء الذين سوف يكونون أشد خطرًا على عرابي من أعدائه الإنجليز …

•••

وعظمت دهشة عرابي أن يكون اقتراح الصلح على أساس قبول عرابي ما جاء في المذكرة المشتركة الثانية التي استقالت بسببها وزارة البارودي، ولذلك بادر برفض هذا الاقتراح السخيف معلنًا أنه لا يجوز تأليف لجان بعد قرار الجمعية العمومية.

وأذاع عرابي من فوره بلاغًا إلى داخل البلاد حتى لا تثمر هذه الخدعة ثمرتها من الانقسام والتخاذل؛ وذلك إذ يعلم الجيش وتعلم البلاد أن عرابي يطلب الصلح وقد جاء في هذا البلاغ أن الخديو انضم إلى الإنجليز فلا طاعة له على الناس واختتم بلاغه بقوله: «وها نحن بجيشنا المظفر المنصور في مراكز الحرب قد بعنا أنفسنا في حياة بلادنا وحفظها من الأعداء، ولا يردنا عن ذلك إلا الظفر والنصر أو ارتحال العدو من مياه الإسكندرية بأساطيله ورجاله، وإلا فإننا نقابل القوة بمثلها ولا نسلم البلاد لأحد وفيها ذو روح يتنفس، والله يؤيد بنصره من يشاء».١٨

وكان يقرأ الناس هذا البلاغ فيرددون كلمتهم التي ألفوها والتي صارت شعار البلد كله: «الله ينصرك يا عرابي».

١  أثبت محاميه مستر برودلي هذه الكلمة بالعربية مذهبة على غلاف كتابه الإنجليزي «كيف دافعنا عن عرابي» وأثبتها في الصفحة الأولى منه بالعربية كذلك وكتب تحتها «هتاف الشعب في القاهرة يوليو سنة ١٨٨٢».
٢  الوقائع المصرية ١٧ يوليو سنة ١٨٨٢ ومصر رقم ١٧ ص١٨٤.
٣  مصر رقم ١٧ ص١٨٤.
٤  الوقائع المصرية عدد ١٨ يوليو سنة ١٨٨٢ وقد أورد ترجمة كلام عرابي في مصر رقم ١٧ سنة ١٨٨٢ ص٢٧٥.
٥  مصر رقم ١٧ ص١٦٥.
٦  مصر رقم ١٧ ص١٨٦.
٧  الوقائع المصرية ٢١ سبتمبر سنة ١٨٨٢.
٨  مصر رقم ١٧ ص٢٧٢.
٩  الوقائع المصرية ٢٠ سبتمبر سنة ١٨٨١.
١٠  يقصد ما ذكره في برقية سالفة من أن عرابيًّا أخذ يسد ترعة المحمودية.
١١  مصر رقم ١٧ ص٢٧١.
١٢  ١٢٣.
١٣  لم يتخلف الا جرجا وقنا وأسوان؛ لبعدها، ولصعوبة المواصلات بعد أسيوط.
١٤  الوقائع المصرية ٣١ يوليو سنة ١٨٨٢.
١٥  مصر رقم ١٧ ص٢٢١.
١٦  مصر رقم ١٧ ص١٧٥.
١٧  مصر رقم ١٧ ص٢٠٦، ٢١٠، ٢١٣.
١٨  الوقائع المصرية ٢٥ يوليو سنة ١٨٨٢.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤