كفر الدوار

رابط عرابي عند كفر الدوار، وهذا المكان هو ما يعرف في الثورة باسم الميدان الغربي، ولقد اختاره عرابي عند انسحاب الحامية من الإسكندرية، كما ذكر محمود فهمي باشا في محضر استجوابه، وكما ذكر عرابي في التقرير الذي كتبه لمحاميه وهو في سجنه، قال محمود فهمى باشا: «توجهنا إلى كفر الدوار … وطلعنا إلى المحطة ومنها إلى كنج عثمان وتقابل معنا حسن بك ابن كنج عثمان فوجدنا هناك تلًّا قديمًا، فسأل عرابي عن اسم هذا التل فقال له حسن بك: اسمه تل الناصر، فالتفت إلى عرابي وقال: إن ابتداء استحكاماتنا يكون هنا، وأمرني بإنشاء استحكامات، وحرَّر بطلب العساكر وطلب الأنفار للعملية».

وقال عرابي: «وجرت مناقشة فيما عسى أن نفعل إذا عاد الأدميرال الضرب؟ وإلى أي مكان ينسحب الجيش إذا اضطررنا لإخلاء المدينة؟ وسمحت لمحمود باشا فهمي وخليل بك كامل أن يذهبا إلى المحمودية ويفحصا الجهة ابتداء من حجر النواتية إلى كفر الدوار ويضعا رسمًا للموضع الذي يريانه أليق من غيره».١
وقال في مكان آخر: «أمرت قوادهم أن يتجهوا بفرقهم صوب ترعة المحمودية … وعند الغروب بلغت جسر السكة الحديد الذي يعبر الترعة وهنالك وراء الجسر مباشرة اخترت مكان المعسكر، وتوافد الجند من الإسكندرية والرمل أثناء الليل، وكانت الساعة الثانية صباحًا حين وصل الجند الذين تركتهم بالإسكندرية؛ فقد تأخروا بسبب الزحام الشديد من الناس والدواب والعربات في الطريق … وفي الصباح وجدنا أن معسكرنا معرض للضرب من السفن فانتقلنا مبتعدين بجنودنا إلى مكان يسمى عزبة خورشيد على بعد نحو خمسة آلاف متر من محطة الملاحة».٢
ويعزو بلنت اختيار هذا الموضع إلى محمود فهمي باشا ويصف المكان في قوله: «وكان الفضل في اختيار هذا المكان المنيع الواقع على الخط الحديدي إلى القاهرة والذي تكتنفه من الجهتين بحيرة مريوط الضحلة وبعض المناقع راجعًا فيما أعتقد إلى مهارة محمود فهمي الهندسية، ولم يكن في وسع عرابي أن يصنع خيرًا من اتخاذه هذا المكان مستقرًّا لمعسكره الجديد، لقد كان بعيدًا البعد الكافي عن مدافع سيمور، ولم يكن يستطيع جيش مهاجم أن يبلغه إلا عن الطريق الضيق الذي مهده خط السكة الحديد، وبهذا لم يكن يمكن اقتحامه من جهة الإسكندرية في حين أنه من جهة الأرض كانت الدلتا مفتوحة للجيش بإمداداتها التي لا تكل، وكان الجيش حر الاتصال بالقاهرة، وهنا استطاع الجيش المصري أن يثبت أمام الإنجليز بنجاح نحو خمسة أسابيع، يصد كل الهجمات بل يدفع العدو بهجمات مضادة إلى ما يقرب من أبواب الإسكندرية، ولو لم يكن هناك باب آخر لدخول مصر غير كفر الدوار لظفرت الحركة القومية بالنجاح».٣

وقال عرابي في مذكراته المخطوطة: «أن الاستحكامات في كفر الدوار كانت تمتد من عزبة خورشيد إلى كفر الدوار، وأنشأوا في كفر الدوار استحكامات من ترعة المحمودية إلى الملاحة وحفروا خندقًا عرضه أربعة أمتار، وجعل خط الدفاع في المقدمة عند عزبة خورشيد على طول الخط من المحمودية إلى الملاحة، وجعل ما وراء هذا الخط من التلال والمرتفعات مواقع حصينة ركبت فيها مدافع كروب، وكذلك التلال الكائنة بين المحمودية وسد أبي قير … وقد تم إجراء هذه الأعمال الدفاعية بمعرفة المهندس الحربي العظيم محمود باشا فهمي ورجال الهندسة الحربيين ومساعدة خمسة آلاف رجل من الأهالي من مديريات البحيرة والغربية والمنوفية».

وممن كان لهم عظيم فضل في بناء هذه الاستحكامات الميرالاي محمد بك شكري أحد الضباط المصريين النابهين في أركان حرب الجيش المصري.

وكانت خطوط الدفاع في هذا الميدان ثلاثة، يبعد كل واحد عن الذي يليه بأربعة آلاف أو خمسة آلاف متر، وكان بين كل خطين خندق عمقه ١٥ قدمًا، وبنيت على جميع المرتفعات الصالحة قلاع وضع فيها نحو ٥٠ مدفعًا.

•••

وأقام عرابي خيمته عند كنج عثمان، وكان يفد إليه فيها — غير ضباطه وأركان حربه — الأعيان والعلماء وكبار التجار وغيرهم من ذوي المكانة والجاه، وكانت خيمة فخمة هائلة، وحسبك أنها خيمة سعيد باشا نفسه، تفضلت أرملته فقدمتها إلى عرابي هدية قومية مشفوعة بأصدق أمانيها أن يؤيده الله بنصره.٤

وكانت مصر كلها حينذاك في قبضة عرابي، تدين له طوعًا لا كرهًا، شعارها: «الله ينصرك يا عرابي»؛ لأن انتصار عرابي كان في نظر الأمة خلاصها من جشع الأجانب ومن استبداد الترك والشراكسة.

واستجابت الأمة لا بالدعاء فحسب، لهذا الفلاح من أبنائها الذي يقف موقف الشرف والكرامة، وأمدته بسخاء بما طلب من مال وعتاد ورجال.

وقلَّ أن نجد في تاريخ الحروب حربًا كهذه الحرب التي لم يُنفق فيها قرش واحد من خزانة الدولة، والتي قامت على ما بذل الشعب طائعًا من أقواته وأمواله ودمه.

وإن المرء ليتملكه شعور الإعجاب والفخار تلقاء هذه الصفحة المشرقة التي هي بحق أنصع صفحة في تاريخ هذه الحرب، والتي نسوقها دليلًا جديدًا على قوة روح هذه الأمة وكرم عنصرها، وعلى أن ثورتها القومية كانت منبعثة من أعماق القرى، وأنها كانت تهز مشاعر أبنائها هزًّا، وتنفض عنهم سبات القرون الطويلة.

هؤلاء فلاحون يعملون في خطوط الدفاع، إلى جانب جند فلاحين من إخوانهم، يقودهم مثلهم فلاحون، وجميعهم تحت إمرة فلاح مثلهم من قرية صغيرة، ولم يكن أبوه من الباشوات ولا كان يفتخر بنسب شركسي أو تركي، وإنما كان هو محمد عرابي شيخ بلدة هرية رزنة.

وكان هؤلاء الفلاحون يدافعون عن مبدأ استشعرته أنفسهم وإن لم يدرك أكثرهم كنهه كما يدرك المتعلمون منهم والمثقفون، وكانوا في حملتهم أشبه حالًا بأبناء فرنسا أيام ثورتها الكبرى فالبذل والتطوع كان قوام الحركتين، ولكن ثوار فرنسا كان وراءهم تاريخ طويل من المعرفة والثقافة، في حين لم يكن وراء ثوار مصر إلا ما عانوه وما عاناه آباءهم وأجدادهم زمنًا طويلًا من الجهل والمذلة، على أن ذلك لن يضير المصريين شيئًا، بل إنه ليحسب لهم لا عليهم، فحسبهم أن يقفوا وقفتهم هذه ونهضتهم بنت الأمس …

وقال الشيخ محمد عبده في تقريره الذي كتبه لمستر برودلي وهو بالسجن: «هل يقدر أحد أن يشك في كون جهادنا وطنيًّا صرفًا بعد أن آزره رجال من جميع الأجناس والأديان؟ فكان يتألب المسلمون والأقباط والإسرائيليون لنجدته بحماس غريب، وبكل ما أوتوه من حول وقوة؛ لاعتقادهم أنها حرب بين المصريين والإنجليز … إني لم أعلم أنه قيل: إن الخديو كان يحارب جيشه، بل المعروف عند الناس أن الحرب وقعت برضاه وبأمره، وقد رسخ هذا الاعتقاد عندما علم الناس أنه أقال عرابي من منصبه؛ لأنه لم ينفذ أمره؛ بالاستمرار على المقاومة وتحصين بعض المراكز؛ اتقاء لنزول غزاة من البحر …

وفي أثناء ذلك طفق العلماء يقرأون البخاري في الأزهر ومسجد سيدنا الحسين، ويدعون بالنصر لعساكر عرابي والهزيمة للإنجليز، وكان إمام الخديو الشيخ الصالح العالم الإبياري في طليعة الملتهبين غيرة ووطنية، فنشر قصيدة إبراهيم دريد في غارة التتار على بغداد في أيام الخليفة العباسي المعتصم، وهي عبارة عن دعاء وابتهال وقد أضاف إليها أبياتًا من نظمه فكان من الناس من يقرأها ويتلوها بعد قراءة البخاري …

وقد تبرع الأمراء والأعيان والعلماء وسائر أفراد الحاشية الخديوية، حتى النساء، بالخيل والحبوب والنقود والميرة اللازمة للجيش، وأظهر المديرون والموظفون — على اختلاف طبقاتهم — والكتبة غيرة وحمية في جمع الميرة المطلوبة وحشد المتطوعين للجيش ولسائر الأشغال العسكرية …

وقد رأيت الناس من فلاحين وبدو ذاهبين إلى الحرب برضاهم واختيارهم، متشوقين لقتال الإنجليز، وقد شمل هذا الحماس الأقباط، وكان يشجعهم على ذلك رؤساؤهم، وكان شبان القاهرة يمرحون في المدينة ليلًا يتغنون بمديح عرابي، وفي أي اجتماع ذكرت فيه الحرب كان الناس يدعون الله طالبين النصر لجيوشنا».٥
وقال نينيه: «كانت ترد كل يوم إلى كفر الدوار إعانات الشعب من المال والقمح والشعير والبقول والسمن والخضر والفاكهة والخيل والماشية، وقد أبدى أعيان الوجهين البحري والقبلي شهامة عظيمة في إمداد الجيش، وفي مقدمتهم أحمد باشا المنشاوي زعيم طنطا الوطني، الذي أنقذ من الموت في حوادث ١٣و١٤ يوليو عددًا من المسيحيين واليهود، وقد بدا من الأهالي ما يدل على شدة تعلقهم بالدفاع عن وطنهم وظهروا بمظهر الشرف».٦

وقال عرابي في مذكراته المخطوطة تحت عنوان: «كرم المصريين وسخاؤهم»: قامت هذه الحرب الشعواء وليس في خزانة الحكومة درهم؛ لأن المراقب الإنجليزي المستر كلفن أخذ الأموال من خزينة المالية، وأنزلها في الدوننمة الإنجليزية قبل إعلان الحرب بأيام، وكذلك الأموال الموجودة في صندوق الدين العمومي، وقد حملها أعضاء قومسيون الصندوق إلى السفن الحربية حيث أمنوا عليها …

وبناء على ذلك أرسل المجلس العام إلى المديريات بتحصيل الأموال من الأهالي عشرة قروش عن كل فدان، ومن شاء أن يتبرع بشيء إعانة للجند المجاهدين في سبيل الدفاع عن الوطن وحفظ الكرامة والشرف يقبل منه مع إعلان الشكر …

ولما أعلن ذلك للعموم جادت الأمة على اختلاف طبقاتها بالمال والغلال والخيل والجمال والأبقار والجاموس والأغنام والفاكهة والخضروات، حتى حطب الحريق …

وقد تبرع موسى بك مزار الرجل الوطني ﺑ ١٣٠٠ ثوب من البفتة و٣٠ عجل بقر عن طيب خاطر، ووالدة الخديو إسماعيل تبرعت بجميع خيول عرباتها، وجاراها في هذا المضمار باقي أفراد العائلة الخديوية، وكذلك حرم خيري باشا رئيس الديوان الخديو، وحرم رياض باشا، وكثير غيرهم من الذوات رجالًا ونساءً، كل ذلك فضلًا عما مدوا به الجيش من الأقمشة والأربطة اللازمة لتضميد جروح الجند وغيرهم، وتبرع بعض الأهالي بنصف ما يملكونه من الغلال والماشية، ومنهم من خرج عن جميع مقتنياته، ومنهم من عرض أولاده للدفاع عن الوطن لعدم قدرته على الدفاع بنفسه، وبالجملة فإن الأمة المصرية عن بكرة أبيها قدمت من التبرعات وأظهرت من النخوة والغيرة ما لم يسبق له عهد في القرون الماضية، أسأل الله — سبحانه وتعالى — أن يجزي الأمة خير الجزاء وأن يرد لها حريتها واستقلالها».٧
وجاء في كتاب أرسله عرابي من منفاه إلى صابونجى في يوليو سنة ١٨٨٣، قوله: «أرجو أن تذكر صديقنا المستر بلنت، فضلًا عما كتبناه إليه بتاريخ ١٥ الحالي أن جميع النفقات التي لزمت لمائة ألف جندي مصري أثناء الحرب كانت كلها تبرعات من الأمة المصرية بغير تمييز بين العقائد؛ فقد بدأت الحرب ولم يكن هناك أكثر من عشرة آلاف جندي تحت السلاح، ولا أكثر من ألف ومائتي حلة عسكرية في المخازن، وحتى هذه لم تكن كاملة، ولم يكن لدينا أكثر من ألف وخمسمائة عدل من الحبوب، ولكنه عند نهاية الحرب كان لدينا في مستودعات الجيش وفي المديريات المختلفة والمخازن ما يزيد قيمته على مليون من الجنيهات من المال والمنتجات الزراعية والبقر والجاموس والغنم والأقمشة، وكل ذلك قدم هدايا من الأمة لجيشها المدافع عن وطنها … ولم ينفق على الجيش اثناء القتال درهم واحد من خزانة الحكومة».٨

وتجلت حماسة الأمة للثورة والحرب فيما ألقاه نفر من أبنائها من الخطب وما كتبوه من المقالات وما نظموه من الشعر وكلها ناطقة بنضج هؤلاء وحرصهم على الحرية والدستور ونفورهم من الاستبداد والعبودية، وإن الذي يقرأ ذلك ليوقن أنه حيال حركة صادقة قوية جديرة بكل ثناء وإعجاب، ولو اتسع المجال لأوردنا طائفة منها، فلنكتفِ بذكر أسماء نفر من أصحابها، وقد كان في مقدمة هؤلاء عبد الله نديم خطيب الثورة وكاتبها الأشهر وصاحب جريدة «الطائف» لسان حال الثورة ومرآتها، والشيخ محمد عبده أحد أفذاذ الحركة الأعلام، والأستاذ الشاعر الشيخ أحمد عبد الغني من علماء الأزهر، والشيخ علي المليجي، والشيخ محمود إبراهيم خطيب أسيوط، والشيخ محمد أبو الفضل خطيب مسجد الحنفي، والشيخ حميدة الدمنهوري، والشيخ عبد الوهاب أبو عسكر، والشيخ محمد فتح الله، والملازم علي أفندي غالب، والشيخ أحمد سيف الباري، وغيرهم من الخطباء ورجال القلم …

•••

وكان جيش مصر العامل تحت السلاح عند بدء الحرب لا يزيد عن عشرة آلاف كما ذكر عرابي، ولعل عرابي يقصد القوات التي كانت في كفر الدوار؛ فقد ذكر الشيخ محمد عبده في مذكراته إحصاء عدد الجيش فقال: «كان الجيش مؤلفًا من ٨٠٠٠ منظمة مع ٨٠ مدفعًا من كروب، وكان يوجد في أبي قير ثلاثة آلاف وخمسمائة، وألفان وخمسمائة في رشيد، وخمسة آلاف في دمياط، المجموع أحد عشر ألفًا، أما الخيالة فلم يكن لهم وجود إلا قليلًا».٩

وإحصاء الشيخ محمد عبده قريب من إحصاء عرابي؛ لأنه كان يقصد بالثمانية آلاف التي ذكرها أولًا الجيش القائم في كفر الدوار، فإذا أضيفت هذه إلى تلك الآلاف الإحدى عشرة الموزعة على النحو الذي ذكر كان الجيش في مجموعه نحو تسعة عشر ألفًا.

ويقول بلنت: إن الجيش المصري لم يكن يزيد عن ثلاثة عشر ألفًا من الجنود النظامية، كان منهم ثمانية آلاف في كفر الدوار …

وذكر نينيه أن الجيش النظامي لم يكن يزيد عن تسعة عشر ألفًا، كان منهم ثمانية آلاف في كفر الدوار، وثلاثة آلاف وخمسمائة في أبي قير، وألفان وخمسمائة في رشيد، وخمسة آلاف في دمياط، ويتفق هذا الإحصاء مع ما ذكره الشيخ محمد عبده.

أما الصحف الإنجليزية، فقد بالغت في عدد الجيش، حتى كانت ترتفع بهذا العدد أحيانًا إلى ما يقرب من خمسين ألفًا …

وانضمتْ إلى الجيش النظامي أعداد من المتطوعين لم يتوصل إلى حصرهم، ولعل هذا هو السبب في اختلاف الآراء في إحصاء عدد الجيش المصري وقت القتال، والواقع أن المتطوعين كانوا أضعاف النظاميين وقد وزعوا على أعمال مختلفة تتصل بالجهاد …

وقد عين عرابي باشا محمود فهمي باشا رئيسًا لهيئة أركان حرب الجيش المصري عقب ضرب الإسكندرية، وكان محمود باشا فهمي من أكفأ رجال الهندسة الحربية في مصر، وقد تخرج في مدرسة المهندسخانة ببولاق، ونبغ في الفنون الهندسية أثناء التحاقه بالجيش المصري، ثم عين أستاذًا لعلم بناء الاستحكامات والفنون العسكرية في المدارس الحربية في عهدي سعيد وإسماعيل باشا، وقد عهد إليه بتحصين الشواطئ المصرية الشمالية، فأكسبه ذلك خبرة عملية، كما أنه اشترك في حرب البلقان التي نشبت بين تركيا وروسيا سنة ١٨٧٦، فاكتسب مرانًا وخبرة …

وقد وضع محمود فهمي باشا خطة حكيمة للدفاع عن مصر كانت كفيلة بأن تصد الإنجليز وتنقذ مصر من تدبيرهم وسوء مكرهم، وسنرى مبلغ ما دخل على هذه الخطة من عوامل أضعفتها وأحبطتها في النهاية …

عين محمود باشا خمسة مواقع رئيسية للدفاع، أولها في كفر الدوار، وثانيها في رشيد، وثالثها بين رشيد وبحيرة البرلس، ورابعها في دمياط، وخامسها في الصالحية والتل الكبير، وكان الغرض من هذا الأخير صد هجوم الإنجليز من ناحية قناة السويس.

وقد سد محمود باشا ترعة المحمودية بالقرب من كنج عثمان ووضع المدافع على السد لحمايته، كما أشار بسد ترعة الإسماعيلية لمنع المياه العذبة عن الإسماعيلية والسويس وبورسعيد، وبسد قناة السويس نفسها لمنع اتخاذها قاعدة عسكرية للإنجليز …

أما القيادة، فقد عين طلبة عصمت باشا قائدًا لفرق كفر الدوار تحت إمرة عرابي، وخورشيد باشا طاهر على رشيد وأبي قير، وعلي باشا الروبي على مريوط، وعبد العال باشا حلمي على دمياط، ومحمود باشا سامي البارودي على الصالحية، والفريق راشد باشا حسني لخطوط الدفاع في الميدان الشرقي.

وبعد … فهذه أمة ممثلة في مؤتمر وطني وقد نهضت نهضتها بالأمس القريب، وهذا جيش أمة يقوم على تطوع أبنائها، وهذا قائد أمة يذود عنها في وجه إنجلترا صاحبة الإمبراطورية العظمى، ومالكة الأساطيل الضخمة، وذات النفوذ السياسي العظيم …

وقد واتت إنجلترا الفرصة لتحقيق حلمها الذي ساورها منذ إخراج حملة نابليون من مصر، والذي بدده محمد علي سنة ١٨٠٧ حين أجبر فريزر على الانسحاب بعد أن أحبط كيده وقد كان يمني نفسه أن ينضم إليه بعض زعماء المماليك كما ينضم الخديو إلى سيمور اليوم … والذي عاد يغازل خيالها حين فتحت قناة السويس وصار فيها النفوذ لفرنسا، والذي باتت منه اليوم على قيد خطوات بعد ضرب الإسكندرية واحتلالها …

ونحب من الذين لا يزالون ينكرون الحرب على عرابي أن ينظروا في هذا الذي نقول، وأن يذكروا ما قدمناه في صفحات هذا الكتاب من الأدلة على أن نية إنجلترا في الاستيلاء على مصر كانت سابقة لعهد عرابي، وأن يستعيدوا ما قلنا في أكثر من موضع؛ إنه لو لم يوجد عرابي لعمل الإنجليز على خلقه …

وليذكر هؤلاء حقيقة أخرى لا يخلق بمصري أن يجهلها، وهي أن الإنجليز حاربوا الحركة القومية الدستورية في مصر؛ لأنها قامت في أواخر عهد إسماعيل لتنقذ مصر من دسائسهم ومن شباكهم المالية، ولأنهم أيقنوا أنهم لو تركوها وشأنها استعصى عليهم بعد ذلك قمعها وضاعت فرصة اصطياد مصر من أيديهم!

ونظن أنه لم يعد في مصر من يماري في هذه الحقائق، وعلى ذلك فمن لغو القول ومن تفاهة التفكير وسخفه أن يردد إنسان في مثل نغمة الصبية قول الجاهلين بحقيقة هذه الثورة القومية وحقيقة أطماع الإنجليز في مصر: إنه لولا عرابي وثورته ما دخل الإنجليز مصر …

ما سعى عرابي إلى هذه الحرب، ولكنه لما رأى أن إنجلترا قد ساقت البلاد إليها بسياستها، وأيقن أن الأمر بات أمر كرامة وشرف ودفاع عن حرية يراد بها أن تخنق، لم يجد بدًّا من خوض غمرتها كما ذكرنا فإما نصر يتحقق به كل شيء، وإما هزيمة تذهب بكل شيء إلا الشرف والكرامة، ولم يكن ينتظر من وراء التسليم بلا قتال كما ذكر بلنت شيء يخالف ما حدث فعلًا بعد الحرب، وعلى هذا فضَّلت مصر أن تقف موقف الكرامة، وما حملها عرابي على هذا الموقف كرهًا وإنما كان ممثلَ إرادتِها وقائدَ ثورتِها …

وقد حاول عرابي ورجال الحزب الوطني أكثر من مرة أن يقنعوا جلادستون بعدالة قضيتهم، وبأن العدوان عليهم ليس طريق الصواب، وكان سفيرهم في هذا السعي صديقهم مستر بلنت، ولكن المسألة — كما ذكرنا — في أكثر من موطن في هذا التاريخ لم تكن مسألة إقناع وإنما هي نية مبيتة، والإنجليز في سبيل إمبراطوريتهم ومطامعهم الاستعمارية لا يبالون بشيء …

وكانت آخر محاولة من عرابي في هذا السبيل ما أملاه على صابونجي ليرسله إلى بلنت كي يحمله هذا إلى جلادستون، وكان ذلك في اليوم الثاني من يوليو أي قبل العدوان الغادر على البلاد بتسعة أيام … قال عرابي بعد أن أنذر بسوء ما يترتب على نية إنجلترا في الشرق الإسلامي كله: «لقد سمحت الحكومة الإنجليزية لنفسها أن يخدعها وكلاؤها، فكلفها ذلك مكانتها في مصر، وستجد إنجلترا نفسها أنها عملت بنصح أسوأ إذا حاولت أن تستعيد ما فقدته بالقوة الوحشية، قوة المدافع والحراب … ومن الناحية الأخرى فإن هناك وسائل إنسانية ودية إلى هذا الغرض، إن مصر على استعداد، بل إنها لترغب، في أن تصل إلى تفاهم مع إنجلترا على أساس أن تكون صديقتها وأن تحمي مصالحها في مصر كما تحمي طريقها إلى الهند، وتكون حليفتها، ولكن يجب على إنجلترا أن تظل في حدود ما تخوله لها القوانين، فإذا آثرت إنجلترا أن تظل على انخداعها وأن تتباهى علينا وتهددنا بأساطيلها وفرقها الهندية فلها أن تختار ما تشاء، ولكن على ألا تقدر وطنية الشعب المصري قدرًا ينزل بها عن حقيقتها، أن ممثليها لم يطلعوها على التغيير الذي طرأ علينا منذ أيام طغيان إسماعيل.

وإن الأمم في عصرنا هذا لتخطو خطوات مفاجئة هائلة في طريق التقدم، وجملة القول: أنه ينبغي أن تكون إنجلترا على يقين من أننا عقدنا العزم على أن نحارب، وأن نموت شهداء أوطاننا كما يقضي بذلك ما جاء به رسولنا، أو ننتصر فنعيش سعداء مستقلين، وإن السعادة في الحالين هي ما نوعد به، وإن أمة تؤمن بهذا لن يعرف لشجاعتها حد».١٠

واختارت إنجلترا سبيل القوة وضَرَبَ أسطولها الإسكندرية واعتدت عدوانها الغادر على مصر والمؤتمر الدولي الذي انعقد في الآستانة — والذي قرر أن يكون للسلطان وحده حق التدخل في مصر— لا يزال قائمًا لم ينفض …!

•••

اختلقت إنجلترا الظرف القاهر الذي اتخذته ذريعة لضرب الإسكندرية، ثم فعلت ذلك في غير تحرج من شناعة ما تفعل، والآن بعد أن خطت الخطوة الأولى وأنزلت جنودها بالإسكندرية، اتجهت سياستها إلى إتمام ما بدأت وتحقيق حلمها القديم باحتلال مصر …

وانحصر همها الآن في أن تصل بسياستها إلى أحد أمرين: إما أن تظفر من المؤتمر بتفويضها بدخول مصر وبذلك يلغي قراراته جميعًا، وإما أن تفعل ذلك دون مبالاة بالمؤتمر كما فعلت حين ضربت الإسكندرية …

وكان الخطر — الذي زعمت أنه محدق بالأجانب — هو الذي خوفت به المؤتمر بالأمس، فبماذا تخوف المؤتمر اليوم وقد رحل الأجانب عن داخل البلاد وبقي منهم من بقي بالإسكندرية؟ ولكن هل يعدم الإنجليز حيلة؟ لقد راحوا يخوفون المؤتمر وينذرونه بويل جديد هو الخطر المحدق بقناة السويس …

وأحست إنجلترا أن أمامها صخورًا يجب أن تتجنبها في حذق ويقظة، فهي لا تأمن أن تراجع فرنسا نفسها فيما فعلت فتطرح حيادها، وهي لا تأمن جانب الدول الأخرى كروسيا وألمانيا والنمسا وإيطاليا، وهي لا تستبعد أن توافق تركيا على الانضمام إلى المؤتمر، وقبول قراره الذي أصدره في اليوم السادس من يوليو وإرسال قوة تركية إلى مصر بناء على هذا القرار …

لذلك عادت إنجلترا إلى مراوغاتها، وقد أعدت لكل أمر حسابه، وسوف تعتمد هنا كذلك على سياسة الأمر الواقع، تلك السياسة التي نبغت في اتباعها، والتي تسبقها بمفاوضات ومراسلات تقصد بها إلى التمويه، ثم تباغت بالخطوة المبيتة، كما تفعل سفنها؛ إذ تثير الدخان من حولها ثم تضرب ضربتها …

ما كاد يفرغ سيمور من ضرب الإسكندرية حتى أرسل جرانفل إلى دوفرين بيانًا مطولًا ليفضي به إلى زملائه، وفيه تفصيل للحوادث التي أدت إلى ضرب الإسكندرية واختتمه بقوله: «إن حكومة جلالة الملكة لا ترى الآن غير اتباع القوة للقضاء على حال لن تطيق بعد صبرًا عليها … وإنها ترى أن أصلح وضع وأقربه إلى مبادئ القانون الدولي والعرف أن يكون الجيش الذي يؤدي هذا الغرض هو جيش الدولة صاحبة السيادة، فإذا لم يتيسر ذلك لتردد السلطان صار من الضروري النظر في طرق أخرى … ولا تزال حكومة جلالة الملكة عند رأيها الذي أبدته في منشورها بتاريخ ١١ فبراير ومؤداه أن كل تدخل في مصر يجب أن يكون مظهرًا لإرادة أوربا وتضامنها».١١

إذن ترى إنجلترا الاستمرار في الحرب ولكن ماذا تقصد «بالطرق الأخرى؟» ذلك ما سوف تتكشف عنه سياستها، وهل تكون الطرق الأخرى غير انفرادها بدخول مصر كما انفردت بضرب الإسكندرية؟

وفي اليوم الخامس عشر من يوليو، أي بعد ضرب الإسكندرية بأربعة أيام اجتمع المؤتمر لاستئناف أعماله فبلغت المهزلة في تاريخه أقصى ما تبلغه؛ ففي ذلك اليوم تلقى أعضاء المؤتمر اعتماد حكوماتهم للمذكرة المشتركة وأرسلت إلى تركيا الدعوة للاشتراك في المؤتمر وإرسال جيش عثماني إلى مصر؛ تنفيذًا لقراره …

وتباطأ السلطان وتلكأ وصار يقدم رجلًا ويؤخر أخرى حتى بعد أن وصلت الأمور إلى هذا الحد، ويبدو أن إنجلترا كانت واثقة من أن السلطان لن يقبل ما طلبت الدول؛ فقد أبرق جرانفل إلى دوفرين في اليوم التاسع عشر يطلب إليه إما أن يمهل السلطان اثنتي عشرة ساعة أو يشرع في البحث عن وسائل أخرى،١٢ وأخيرًا فاجأ السلطان المؤتمرين في اليوم التاسع عشر نفسه بأنه قبل الاشتراك في المؤتمر للمباحثة في إقرار الوسائل الكفيلة بإعادة الأمور إلى وضعها السليم! …
ولعل تركيا كانت تتوقع أن تؤيدها ألمانيا فتضع العراقيل في سبيل إنجلترا؛ إذ كانت ألمانيا منذ مؤتمر برلين سنة ١٨٧٨ تميل إلى ملاينة تركيا واستدراجها إلى جانبها؛ تحقيقًا لأطماعها في البلقان والشرق، ولكن بسمارك كان يرمي من جهة أخرى إلى الإيقاع بين إنجلترا وفرنسا؛ وذلك بإطلاق يد إنجلترا لتنفرد بالدخول في مصر فتثير بذلك فرنسا، كما أنه في الوقت نفسه كان يريد أن يوقع إنجلترا وحدها في سوء عملها ليحاسبها على ذلك عند الضرورة، ولهذا رأى بسمارك أن يترك إنجلترا وشأنها فلم يمنحها تفويضًا كما فاوضته وساومته ولم يضع في وجهها العراقيل كما توقعت تركيا أن يفعل، ففي اليوم العشرين من يوليو أبرق دوفرين إلى جرانفل خلاصة حديث جرى بينه وبين القائم بأعمال السفارة الألمانية فقال: «إنه بعد انفضاض الاجتماع أعاد عليَّ وعلى السفير الفرنسي، القائم بأعمال السفارة الألمانية ما سبق أن ذكره في اليوم السالف ومؤداه أن دول الشمال لن ترضى بتفويضٍ ما، وأنه خير لنا أن نتقدم وحدنا من غير إبطاء، وأن كل إنسان يقر أن التحفظ الذي أثبتناه باسم الظروف القاهرة يشمل كل ما نضطر إلى عمله في مصر، وقد حذا حذوه السفير النمسوي في الاجتماع الأخير».١٣
ولقد كان سفير النمسا أكثر صراحة من القائم بأعمال السفارة الألمانية؛ وذلك أنه قال: «إنه لا يعارض في أن تعمل إنجلترا أو فرنسا على شرط ألا يفهم من ذلك أنها تعمل بتفويض من أوربا».١٤

ويبدو أنه لما يئست تركيا من ألمانيا وأحست ما كان بين مندوبها وبين دوفرين مالت أخيرًا إلى الاشتراك في المؤتمر.

وكان عمل تركيا هذا خليقًا أن يسبب ارتباكًا شديدًا للسياسة الإنجليزية، ولكن إنجلترا سوف لا تبالي به ولن تعدم أن تخلق شروطًا ومباحثاتٍ مع تركيا حتى تباغتها بالأمر الواقع …

ولم تنتظر إنجلترا ما عسى أن يفعل المؤتمر ولا ما عسى أن تفعل تركيا؛ فقد رأت في موقف ألمانيا والنمسا ما يسهل لها عملها تسهيلًا كبيرًا.

ففي اليوم الثاني والعشرين من يوليو شرح جلادستون سياسة الحكومة الإنجليزية في مجلس العموم حيال المسألة المصرية فأدلى بتصريح جلي وصل به إلى وضع المؤتمر أمام الأمر الواقع، وواضح أنه كان يقصد به إلى الرد على قبول تركيا دخول المؤتمر وتنفيذ قراره قال: «إننا نشعر أننا لم نؤد واجبنا إذا لم نحاول أن نغير الحال الداخلية القائمة في مصر الآن من الفوضى والفتن إلى السلام والنظام، وسوف ننظر فيما تبقى لدينا من وقت في تعاون دول أوربا المتمدنة وإيانا إذا كان سبيل ذلك التعاون مفتوحًا أمامنا» ثم أضاف إلى ذلك بين هتاف النواب واستحسانهم قوله: «فإذا أعيتنا جميع الوسائل المؤدية إلى التعاون فإن هذا العمل سوف تضطلع به إنجلترا وحدها».١٥

ولكن إنجلترا لم تكن تريد أن تذهب في معارضة تركيا إلى حد إغضابها؛ وذلك لأنها كانت تدخرها لأمر خطير ذلك هو أن يعلن السلطان عصيان عرابي فيذهب بذلك ما جاءه من مكانة في نفوس الناس من ناحية أنه المدافع عن حقوق أمير المؤمنين … لذلك سوف تعمد إنجلترا إلى المراوغة والمصانعة حتى تظفر بهذا التصريح الخطير ثم تدير ظهرها لتركيا آخر الأمر في غير مبالاة وفي غير هوادة …

وهل يمنع إنجلترا قبول تركيا تنفيذ قرار المؤتمر والاشتراك فيه عن إعداد حملتها على مصر والسير فيها إلى نهاية الشوط؟ كلا بل إن ذلك كان حافزًا لها على سرعة البت لتضع تركيا وغيرها حيال الأمر الواقع …

وما كانت معارضة تركيا سياسة إنجلترا لتغني عنها شيئًا، وإن إنجلترا لتفهم ما بين الدول من تيارات خفية يصعب معها إجماع كلمتها على مناهضتها، وتدرك مبلغ استعداد كل منها للتدخل الفعلي في شؤون مصر …

ومضت إنجلترا في سياستها، ففي اليوم السابع والعشرين من يوليو وافق البرلمان على المبلغ اللازم للحملة وقدره ٢٣ مليونًا من الجنيهات بأغلبية ٢٧٥ عضوًا تلقاء ١٩ من المعارضين …

وأعد خمسة عشر ألفًا من الرجال للسفر إلى مالطة وقبرص وأمر بإرسال خمسة آلاف من الهنود إلى مصر وعين السير جارنت ولسلي قائدًا عامًّا للحملة الإنجليزية على مصر «ليقضي على ثورة عسكرية في تلك البلاد ورغبة في تأييد سلطة سمو الخديو كما قررتها الفرمانات السلطانية والعلاقات الدولية القائمة».

وكانت إنجلترا قد أخذت تعمل على وضع الصعاب في وجه تركيا منذ أن ثبت لديها أنها قبلت قرار المؤتمر فأرسل جرانفل إلى دوفرين في الحادي والعشرين من الشهر يطلب إلى السلطان: «في عبارات مناسبة أنه بعد المراسلات التي جرت والتباطؤ الذي حدث، لم يبق له من أمل به يستعيد ثقة حكومة جلالة الملكة إلا أن يعلن في الحال بلاغًا في صالح الخديو وفيه قرار بأن عرابي يعد من العصاة».١٦

وكانت إنجلترا ترمى بذلك إلى المراوغة كما ذكرنا ريثما تعد العدة لحملتها وتتبين سياسة الدول الأخرى ولعلها كذلك تظفر بهذا البلاغ الذي سوف تعيد الكرة للظفر به مهما كلفها ذلك من جهد …

أما عن موقف فرنسا، فكان يتحكم في سياستها نحو المسألة المصرية عامل قوي؛ وذلك أنها كانت لا تستطيع إغضاب إنجلترا؛ لأن سياسة بسمارك كانت موجهة في نشاط إلى وضعها في عزلة سياسية، وكانت تدرك فرنسا بعد أن انضمت إيطاليا في مايو سنة ١٨٨٢ إلى التحالف بين ألمانيا والنمسا، أن سياسة بسمارك في طريقها إلى النجاح، وأنه خير لفرنسا أن تحرص على مودة إنجلترا وروسيا، وهي لا تأمن إن شاركت إنجلترا في حملتها على مصر أن يؤدي ذلك إلى الخلاف بينهما، كما أنها بالضرورة لا تستطيع أن تقف منها موقف المعارضة لهذا الاعتبار.

وكان بسمارك لا يفتأ يلاين إنجلترا في المسألة المصرية؛ ليثير بذلك فرنسا علها تتدخل فيصيب بذلك غرضين: أن يجعل فرنسا في وضع لا يبعد فيه أن ينشب الخلاف بينها وبين إنجلترا ثم توزيع جزء من قواتها في مصر وقد وزع جزء منها في تونس منذ أحتلتها فرنسا سنة ١٨٨١.

لهذا انقسم الرأي العام في فرنسا قسمين: فريق يرى التدخل في شؤون مصر، وفريق يدعو إلى عدم إثارة ما يمس التحالف بين إنجلترا وفرنسا … على أن كلا الفريقين اتفقا على وجوب اتخاذ الوسائل الفعلية للدفاع عن قناة السويس بقطع النظر عن دخول مصر.

وكان رئيس الوزارة المسيو فرسنيه يرى أن أسلم حل هو أن تتولى تركيا التدخل وفقًا لقرار المؤتمر، وبذلك لا تنفرد إنجلترا باحتلال مصر ولا يكون هناك مجال للخلاف بينها وبين فرنسا ولكن أنى له أن يظفر بهذا الحل؟

وفي الثاني والعشرين من يوليو أرسل جرانفل إلى السفير الإنجليزي في باريس يقول له: «قدم هذه المقترحات إلى الحكومة الفرنسية:
  • أولًا: ما لم يرد من الباب العالي موافقة من نوع يمكن أن نعول عليه في الحال، ففي هذه الحال ترسل تعليمات إلى المندوبين الإنجليزي والفرنسي ليقولا لبقية السفراء أن إنجلترا وفرنسا لم تعودا تعتمدان على التدخل التركي، ولما كانتا تريان ضرورة العمل السريع لمنع أي خسارة جديدة في الأرواح ولمنع استمرار الفوضى، فإنهما تعتزمان — إذا لم يكن لدى المؤتمر خطة أخرى — أن تبحثا مع دولة ثالثة الوسائل المؤدية إلى حل.
  • ثانيًا: أن يطلب إلى إيطاليا أن تكون هي الدولة الثالثة.
  • ثالثًا: أن نتشاور في الحال في تقسيم العمل.
  • رابعًا: أن تكون قناة السويس ضمن المشروع العام لهذا العمل الائتلافي».١٧
وفي الرابع والعشرين رد القائم بأعمال السفارة الفرنسية في لندن على هذه المقترحات «بأن الحكومة الفرنسية قد صممت على أن تفصل مسألة حماية قناة السويس عن المسألة التي عرفت بالتدخل في مصر … وأنها ستبتعد عن أي عمل في داخل مصر إلا إذا كان لرد عدوان مباشر، وإذا كان الجيش الإنجليزي يرى من الملائم أن يضطلع بهذا العمل فليس له أن يعتمد على مشاركة فرنسا، وفي الوقت نفسه فإن مسيو فرسنيه يرغب أن يكون مفهومًا أن الحكومة الفرنسية لا تعارض في إقدام إنجلترا على هذا إذا عزمت على الإقدام.١٨
وبعد ذلك بيوم أرسل السفير الإنجليزي بباريس إلى جرانفل يقول: إنه قابل فرسنيه فقال: إن رد الحكومة الفرنسية «هو أنها في الوقت الحالي لا ترى الذهاب إلى ما هو أبعد من التعاون المحدود على حماية قناة السويس، ذلك الذي تم الاتفاق عليه» وأضاف السفير الإنجليزي أن فرسنيه لم يبدِ اعتراضًا على اعتزام الحكومة الإنجليزية دعوة إيطاليا.١٩

وكان غرض إنجلترا من دعوة إيطاليا في الواقع أن تتمادى في ادعائها أنها لا تريد الانفراد بالعمل، وأنها لما لم تجد عونًا من فرنسا التمسته عند إيطاليا، وأنها تبذل ما في وسعها في سبيل التعاون الدولي الذي زعمه جلادستون في تصريحه بمجلس العموم؛ لكيلا يكون لأوربا بعد ذلك حجة على إنجلترا …

واشتدت المعارضة في وجه فرسنيه في المجلس التشريعي الفرنسي على أثر اتصال بينه وبين السفير الألماني في باريس ذكر فيه ذلك السفير أن ألمانيا ترى أن خير وسيلة لحل المسألة المصرية هو التدخل التركي …

ورأى الفرنسيون أن بسمارك يريد بذلك أن يسند وزارة فرسنيه، وعدوا ذلك تدخلًا في شؤونهم الداخلية فغضبوا على وزارتهم أيما غضب.

وفي الوقت نفسه أرسلت إنجلترا إلى فرنسا تقول، في اليوم السابع والعشرين من يوليو: «إن حكومة جلالة الملكة وإن كانت تقبل اشتراك تركيا فيما يتعلق بالتدخل في مصر إلا أنها ستمضي فيما شرعت فيه من الوسائل».٢٠

لذلك حينما استمرت المناقشة في المجلس التشريعي الفرنسي في التاسع والعشرين من الشهر، خذلت الوزارة بأغلبية ٤١٦ عضوًا حيال ٧٥، فاضطرت إلى الاستقالة وخلفتها وزارة سوف تنفض يدها عما قريب من المسألة المصرية.

ففي اليوم التالي ردت الحكومة الإيطالية على اقتراح اشتراكها في التدخل برفضها هذا التدخل من جانبها تاركة إنجلترا تتحمل تبعة التدخل وحدها.

ومما يحمل على العجب أن إيطاليا كانت قد ثارت ثائرتها أول الأمر لرغبة إنجلترا في الانفراد بالعمل وحملت الصحف الإيطالية على سياسة إنجلترا حملة شديدة وحملتها تبعة ما وقع في مصر من ارتباك ونددت بمطامعها الاستعمارية، وكانت إيطاليا الطامعة في شمال إفريقيا حانقة على فرنسا التي استولت على تونس وزاد حنقها على إنجلترا التي همت بالتهام مصر، وكان من أسباب دعوة إنجلترا إياها لمشاركتها في مصر هذا الحنق، ووجه العجب أن تنفض يدها بعد ذلك من المسألة بهذه السهولة.

•••

وأشارت روسيا على مندوبها بعدم حضور المؤتمر في نهاية يوليو؛ وذلك «لأنها اشتركت فيه على أن تكون قراراته ذات قيمة لا على أن يكون مسجلًا لحقائق واقعة فحسب».٢١

وبذلك أخلت جميع الدول سبيل إنجلترا للعمل بمفردها، وهي إن لم تظفر بتفويض من المؤتمر بتدخلها لن يضيرها ذلك ما دامت قد أطلقت يدها، وما كانت إنجلترا تعبأ يومًا بالشكل دون الجوهر.

ولم تعد إنجلترا تحفل بتركيا، وإنما استمرت في خطتها التي راحت توهمها بها أنها جادة في دعوتها إياها للعمل على حل المسألة، حتى تظفر منها بإعلان قرار العصيان الذي ترمي عرابي به فتصميه، وتنال به منه أكثر مما تنال بجنودها وأسلحتها …

ولندع المؤتمر عند هذا الوضع من مهزلته لنعود إلى خطوط الدفاع عند كفر الدوار، ولنا بعد ذلك عودة لنبلغ بمهزلة المؤتمر نهايتها ولنتتبع سياسة إنجلترا حتى نهاية الشوط …

كان أول عمل من جانب المصريين هو سد ترعة المحمودية كما سلف الإشارة إليه لمنع المياه العذبة عن الإسكندرية، ولقد انزعج الإنجليز من هذا العمل وأخذتهم منه حيرة …

وفي اليوم السادس عشر من يوليو أبرق كارتريت إلى حكومته أنه يخشى من هجوم ليلي على الإسكندرية، وأن الأدميرال أرسل سفينتين إلى أبي قير؛ مخافة أن يقطع عرابي الشاطئ ويدع ماء البحر ينساب، وقد سلفت إشارة منا إلى ذلك …

بقي الحال على ذلك بقية شهر يوليو وإنجلترا تعد العدة لحملتها الكبرى وتبذل نشاطها السياسي في المؤتمر وفي العواصم الأوربية حتى أطلقت يدها في نهاية الشهر كما بَيَّنَّا …

ففي اليوم الخامس من أغسطس بدأ الإنجليز هجومهم ببعض ما لديهم من الجند قبل أن يأتيهم المدد، فزحفوا من الرمل في نحو ألفي مقاتل من المشاة يقودهم الجنرال أليسون، فلما صاروا على بُعد ألف وخمسمائة متر من الخطوط المصرية، تصدى لهم المصريون في أورطتين في مثل عددهم تحت قيادة البكباشين أحمد البيار ومصطفى حسان وأوقفوا زحفهم … ثم جاء خورشيد باشا طاهر على رأس ثلاث بلوكات من الفرسان، وحمل المصريون على الإنجليز حملة قوية، وبعد ثلاث ساعات ونصف ساعة اضطر الإنجليز إلى التقهقر وفروا إلى الرمل مهزومين.٢٢
ويقول عرابي في مذكراته المخطوطة تعقيبًا على هذه المعركة التي سماها واقعة أبي قير: «ولم يستشهد أحد من عساكرنا الأبطال، وكان ابتداء المحاربة الساعة الأولى من النهار وانتهاؤها في تمام الساعة الرابعة، فمدة القتال ثلاث ساعات ونصف ساعة، أبلت في خلالها رجالنا بلاءً حسنًا، بيد أنه لم تعرف خسائر العدو لرفعه إياها من الميدان أولًا فأول».٢٣

عاد الإنجليز إلى الهجوم في اليوم التالي وقد أعدوا له عدة قوية هذه المرة، فتقدمت ميمنتهم بطريق السكة الحديد من القباري، وميسرتهم على ضفة الترعة المحمودية من الرمل، وتحرك القلب من طريق الجسر الذي يعبر المحمودية، وكان يقودهم أليسون.

وثبت لهم المصريون ثباتًا خليقًا بالإعجاب حقًّا، ودافعوا في هذه المعركة دفاعًا مجيدًا، وقد شهدها من المصريين طُلبة عصمت الذي ولي القيادة بعد أحمد عبد الغفار، وكان على رأس الفرسان والبكباشية محروس ومحمد فودة وسليمان تعيلب ورزق الله حجازي والقائمقام أحمد عفت …

وأبلى البكباشي محروس بلاءً حسنًا في صد ميسرة الإنجليز ولم يمنعه جرحه الشديد من أن يشد عليهم برجاله، وكذلك أظهر البكباشي محمد فودة بسالة وجلدًا عظيمين في الهجوم على قلب الإنجليز وميسرتهم، وجاءه المدد مرات بقيادة أحمد عفت وتعيلب وحجازي، ثم جاء طلبة باشا ومعه فرقة الفرسان بقيادة أحمد عبد الغفار، وبعد ست ساعات من القتال الشديد، ارتد الإنجليز منهزمين ولحق بهم المصريون حتى حجبهم الظلام عنهم …

وقد عقب عرابي على هذه المعركة بقوله: «فلما قربوا مسافة ٨٠٠ متر اشتبكوا في القتال مع أورطة محروس أفندي البكباشي وأورطة المستحفظين حكمدارية محمد أفندي فودة الذي أظهر من الشجاعة ما يقصر اليراع عن وصفه، ولما اشتد القتال بن الطرفين، تقدم الرجل الشجاع أحمد بك عفت حكمدار المقدمة ومعه أورطة سليمان أفندي تعيلب وأورطة رزق الله حجازي البكباشي، وأصلوا العدو نارًا حامية، ثم قام في الحال طلبة باشا عصمت قومندان فرقة كفر الدوار ومعه الآلاي برنجي سواري حكمدارية أحمد بك عبد الغفار، وحرك الأورطة جهة المقدمة فتقارب الجيشان واختلط الفريقان وتقاتلوا بالسلاح الآلي وجهًا لوجه، ولما أظلم الليل وضعفت قوة العدو قفل راجعًا وعساكرنا في أثره تأخذ عليه الطريق وتضيق عليه السبل وتضربه حتى حال الظلام بين الفريقين … وعند تفقد عساكرنا وجد من المستشهدين ٢٩ من الأنفار والصف ضباط والملازم الشجاع أحمد أفندي علي، والجرحى البكباشي محروس أفندي الذي توفي بسبب جراحه واثنان من الملازمين و٦٥ من الصف ضباط والأنفار …

•••

ولقد أبدى كل من الضباط والعساكر من الشهامة والثبات في هذه الموقعة ما يستحقون من أجله الثناء الجميل في الدنيا وعظيم الأجر في الآخرة … وخسائر العدو كانت عظيمة وقد ترك عساكر الإنجليز بميدان القتال ١٧ جثة منها الملازم ديز وصار دفنه في جسر المحمودية، وقد شوهد الكثير من عساكر الإنجليز يحملون قتلاهم وجرحاهم، وفي اليوم الثاني كانت ساحة القتال مشوهة بالدماء وآثار جر الموتى ظاهرة في نقط عديدة».

ولما استيقن الإنجليز أنهم عاجزون عن زحزحة المصريين عن خطوطهم القوية انكفأوا راجعين إلى الإسكندرية لينتظروا هناك ما يأتيهم من المدد …

أما عرابي وأصحابه فما زالت تسعى إليهم الوفود في خيمته عند كنج عثمان، حاملة للجيش ما جادت به البلاد من مال وثمار وماشية للدفاع عن الوطن وكرامته …

وأما الخديو؛ فقد بادر بتهنئة الإنجليز على ما أصابوا من انتصار في المعركتين! كأنما يستحيل على توفيق أن يتصور الإنجليز إلا غالبين ولو كانت هزيمتهم أمرًا محققًا.

وفي الوقت نفسه أصدر توفيق بلاغًا في اليوم السابع من أغسطس يحذر فيه المصريين من مشايعة عرابي، ورماه فيه بالعصيان والثورة وتوعد كل من يشايعه بعقاب شديد من لدنه.٢٤

•••

واستمر مجيء المدد إلى الإنجليز، فأصبح لديهم في الإسكندرية حوالى اليوم العاشر من أغسطس نحو أربعة عشر ألفًا من المشاة، وثلاث فرق من الفرسان، ونحو ألف من رجال المدفعية، ونيف وخمسمائة من المهندسين، وعدد آخر من المختصين بأعمال الجسور وأسلاك البرق والخطوط الحديدية …

وفي اليوم الثالث عشر من أغسطس وصل إلى الإسكندرية السير جارنت ولسلي القائد العام للحملة الإنجليزية …

لنعد بعد ذلك إلى مهزلة المؤتمر أو إلى مراوغة السياسة الإنجليزية وانتصارها تحت سمع المؤتمر وبصره وسلوكها — وأنوف أعضائه في الرغام — سبيلًا غير التي أرادوها من أول الأمر …

انطلقت تركيا من جمودها آخر الأمر كما بينَّا وانضمت إلى المؤتمر وقبلت إرسال جند عثمانية إلى مصر، أي أنها قبلت أن تعمل بما كانت تلح به إنجلترا عليها من قبل، ولكن إنجلترا لن تسمح لها اليوم بشيء من هذا …

في اليوم السادس والعشرين من يوليو أفضى سعيد باشا وزير الخارجية وعضو المؤتمر إلى الأعضاء بأن الجنود العثمانية على أهبة السفر إلى مصر، وفي الوقت نفسه أفصح للمؤتمر عن أمل حكومته في «أن التدخل الحربي بجنود أجنبية في مصر لم تعد له ثمة ضرورة».

ولو أن المؤتمر كان يريد الإنصاف لكان فيما تقدم به سعيد باشا أقرب وضع إلى الحل المنشود الذي وضع المؤتمر قراره في اليوم السادس من يوليو …

ولكن الدول كما بينا تراجعت في صورة مضحكة مخجلة عن قرارها للأسباب التي بيناها وجنحت إلى ترك إنجلترا تعمل على مسؤوليتها مكتفية بأنها لم تعطها تفويضًا بهذا، وهل كانت إنجلترا تطمع في أكثر من أن تعمل على مسؤوليتها؟

وليتدبر القارئ في رد إنجلترا على كلام سعيد باشا ولينظر مبلغ ما فيه من مناقضة لسياستها يعد من أكبر دواعي الخجل لو أن السياسة الإنجليزية كانت تعرف الخجل يومًا ما، قالت إنجلترا في برقية إلى دوفرين في التاسع والعشرين من يوليو: «إن حكومة جلالة الملكة تقبل وصول قوات عثمانية إلى مصر، وتقبل التعاون معها على شرط أن تكون الصفة التي تأتي بها محددة تحديدًا مقنعًا، وأن تكون خالية من كل ما يجعلها تؤول تأويلين بسبب تصريحات السلطان السابقة».٢٥
وكانت ترمي إنجلترا بهذه العبارة: «خالية من كل ما يجعلها تؤول تأويلين» أن يصدر السلطان قرارًا ضد عرابي ورجاله، وذلك أن الصدر الأعظم كان قد أخبر دوفرين قبيل ذلك «أنه ليس من الحكمة إصدار هذا القرار قبل بلوغ الجنود العثمانية مصر» وقد رد عليه دوفرين بقوله: «إذا كان السلطان يرغب في التعاون مع حكومة جلالة الملكة، فإن من الضروري أن يحدد في وضوح ما يعتزم اتباعه نحو عرابي وعصابة الثوار».٢٦

وفي نفس هذه البرقية قالت إنجلترا: «ترغب حكومة جلالة الملكة أن تخبر سعيد باشا والمؤتمر بأنها لا يمكنها سحب جنودها من مصر ولا التراخي في إعداد العدة».

وقالت كذلك: «إن قعود السلطان عن العمل ذلك القعود الذي طال أمره حيال وضع كهذا الذي تمثله الحال في مصر قد ألقى على عاتق إنجلترا عبثًا تضطلع به الآن في سبيل الصالح العالم وفي سبيل صالحها كذلك، وإن حكومة جلالة الملكة ترغب في أن يكون معلومًا لدى المؤتمر أنه حالما ينتهي العمل الحربي المراد فإنها ستستعين الدول في وضع نظام قويم لحكم مصر في المستقبل».

إذن فإما أن يعلن السلطان ذلك القرار الخطير الذي تريده إنجلترا فتقبل تعاونه معها في بلاده، وإما أن يحجم عن ذلك فتمضي إنجلترا إلى غايتها، وهكذا تستدرج إنجلترا السلطان خطوة فخطوة، ولسوف يضطر إلى قبول هذا الشرط ليظفر بتفضل إنجلترا عليه بقبول معونته إياها في بلد هو صاحبها الشرعي، ولكن هل تجود إنجلترا عليه بهذا الفضل حتى بعد قبوله ما تشترط؟ ذلك ما نرى الجواب عليه فيما يلي:

في اليوم الثاني من أغسطس تعهد سعيد باشا أن يعرض على المؤتمر صيغة قرار يعلن فيه السلطان أن عرابي من العصاة٢٧ وهكذا تخطو تركيا على رغمها خطوة أخرى في صالح السياسة الإنجليزية؛ وذلك كي يسمح لها بالتدخل في بلاد هي صاحبتها! ألا ما أشد وما أقسى ما يجلبه الضعف من مذلة، وهذا في الوقت نفسه هو عبد الحميد الذي لا يتنفس الناس في بلاده إلا بإذنه!

وردت إنجلترا على ذلك بأنها فضلًا عن إعلان قرار العصيان الذي تعده ضمانًا لأغراض السلطان، ترى من الأمور الضرورية أن يعقد مؤتمر حربي بين الدولتين للنظر في التعاون كيف يكون بينهما.

وأبلغ دوفرين حكومة الباب العالي في الخامس من أغسطس: «أنه ما لم يعد السلطان قرارًا ذا صفة مرضية وما لم توافق الحكومة التركية على الدخول في مؤتمر حربي مع حكومة جلالة الملكة، لن يسمح للجنود العثمانية بالنزول في مصر».٢٨

ومن ذلك نرى أن إنجلترا حين رأت السلطان يقبل إعلان العصيان المنشود ذلك القرار الذي تصل به إلى ضالتها، ابتدعت المؤتمر الحربي لتؤجل تدخل تركيا حتى تفرغ هي من دخول مصر فلا يكون ثمة داع إلى جنود عثمانية … ولا يمكن أن يكون في الصلات الدبلوماسية أكثر من هذا استهتارًا من أمة قوية بأمة ضعيفة، كما لا يمكن أن يبلغ الضعف بأمة أكثر مما بلغ بتركيا التي يشبه موقفها هذا الاستجداء الذليل …

وأبلغ دليل على ذلك هذه البرقية التي أرسلها جرانفل إلى دوفرين في الرابع من أغسطس أي قبل الاتصال بالباب العالي ينبئه فيها أنه أرسل تعليمات إلى سيمور، قال: «أرسلت تعليمات إلى الأدميرال سيمور أنه إذا قدمت أي سفينة تحمل جنودًا تركية إلى بورسعيد أو إلى الإسكندرية أو إلى جهة أخرى فعليه أن يبلغ قائدها في أكثر الصيغ مودة ورفقًا أنه ينتظر تعليمات من حكومته بشأن مؤتمر حربي بين تركيا وإنجلترا الغرض منه معاونة الأولى لنا في القضاء على العصاة، ولكنه لم يتلق أنباء بأن هذا المؤتمر قد عقد وبناء على ذلك فإن إرسال جنود تركية لا بد أن يكون عملًا سابقًا لأوانه أو بني على سوء فهم، وأن الأوامر التي لديه هي أن يطلب إلى القائد أن يواصل السير إلى كريت أو أي جهة أخرى وأن يخاطب الحكومة التركية لإرسال تعليمات أخرى؛ نظرًا لأن الأدميرال سيمور لا يستطيع أن يدعوه إلى النزول في مصر … وقد سمحنا لسيمور أن يمنع نزول الجنود إذا لم ينتصحوا بنصحه».٢٩

تلقاء هذا اضطرت تركيا أن تعلن في المؤتمر في السابع من أغسطس أن الباب العالي يقبل الدعوة إلى التدخل الحربي في مصر على أساس المذكرة المشتركة بتاريخ ١٥ يوليو بما تحتوي عليه من بنود وشروط».

ومعنى ذلك أن تركيا تقيدت بالشروط التي وضعها المؤتمر في السادس من يوليو والتي وافقت عليها الحكومات في الخامس عشر منه والتي كانت تركيا تعارض فيها أشد المعارضة،٣٠ وهي إذ تتقيد بهذه الشروط تلتزم في الوقت نفسه بأساس التعاون مع إنجلترا، أي أن التدخل الآن ليس لتركيا وحدها وإنما هو بصفتها شريكة لإنجلترا ولكن إنجلترا سوف لا تمكنها حتى من هذا الوضع الذي هو دون ما رفضته من قبل بمراحلَ …

وفي التاسع من أغسطس أرسل قرار عصيان عرابي إلى دوفرين ليطلع عليه وفي العاشر منه قبلت صيغة القرار بعد إدخال بعض التعديل عليه.

وأخذت إنجلترا تتصل بتركيا بشأن المؤتمر الثنائي الذي يحدد طريقة العمل بينهما مع أنه يتعارض مع قرار المؤتمر العام الذي جاء فيه أنه إذا وافق السلطان كما ترجو الدول على هذا النداء الصادر من الدول الكبرى فإن نفاذ المواد والشروط الآنفة الذكر يكون موضع اتفاق آخر بين الدول الست وبين تركيا».

وكانت إنجلترا ترمي من وراء المؤتمر الثنائي، إلى الأخذ والرد بينها وبين تركيا حتى ينتهي الأمر كما ذكرنا وذلك ما سوف تؤيده الحوادث.

أما المؤتمر العام؛ فقد بلغت مهزلته منتهى سخفها، حين قرر في اجتماع عقده في اليوم الرابع عشر من أغسطس تأجيل انعقاد جلساته إلى أجل غير مسمى، وبذلك أسدل الستار على أسخف مهزلة في تاريخ المؤتمرات السياسية …

•••

ولنعد إلى مصر، فنجد عرابي في خطوط دفاعه تمده الأمة بما تجود به ويؤيده أبناؤها جميعًا كبراؤها وفلاحوها، وتتطلع إليه القلوب في موقفه المجيد، وقد ازداد الناس أملًا في النصر بعد ما كان بين الجيش المصري وبين الإنجليز من تلاحم أثبت فيه المصريون أنهم جادون وأنهم إذ يحاربون إنجلترا ذات الإمبراطورية الكبرى لا تنخلع أفئدتهم كما يظن أعداؤهم من فاجر الظنون.

وكان عرابي قد أرسل إلى السلطان برقية أورد نبأها دوفرين فيما أرسله إلى جرانفل في السادس والعشرين من يوليو؛ إذ قال: «علمت أن عرابي باشا أبرق مباشرة إلى السلطان يعبر عن ولائه للخلافة، ويقول: إنه وقد حُمل حملًا على الحرب يمتلك كل ما يلزم لقهر أعدائه وذلك بفضل المساعدة المقدسة وما تفيض به مصر من خير، وإنه لا يصدق ما يؤكده أعداء وطنه ودينه من أنه سيجد فرقًا عثمانية في طريقه فإن ذلك سيضعه أمام الضرورة القاسية التي تجعله يعامل إخوانه في الدين معاملة الأعداء.٣١
وفي اليوم الخامس من أغسطس أبرق جرانفل إلى دوفرين يقول: «نشرت جريدة الطائف في تأييد عرابي باشا تقول: إن الباب العالي أرسل برقية يهنئ بها الجنود المصرية على ما أبدوه من شجاعة أثناء ضرب الإسكندرية، كما ورد إلى تركيا في برقية كان قد أرسلها درويش باشا».٣٢
أما توفيق فإن يد السلطان مكفوفة عنه منذ قبوله المذكرة المشتركة الثانية في الخامس والعشرين من مايو، وقد بلغت به الجرأة أن أفضى إلى كلفن في الحادي والثلاثين من يوليو: «أنه شديد الخوف من دسائس الترك وأنه يثق من أن الترك سوف يراقبون مراقبة دقيقة».٣٣
ولقد كان السلطان يريد عزله وتعيين حليم مكانه، وتقدم بهذا الاقتراح إلى إنجلترا عقب ضرب الإسكندرية مباشرة ممتدحًا حليم قائلًا: «إنه يكون حاكمًا ممتازًا» وإن تعيينه «يحقن الدماء ويرضي كل إنسان»، ولقد رفضت الحكومة الإنجليزية هذا الاقتراح رفضًا باتًّا عاجلًا وأبلغت السلطان أنه «يضيع الوقت فحسب بعرضه مثل هذه الاقتراحات».٣٤
في التاسع عشر من أغسطس أذاع الجنرال ولسلي البلاغ الآتي: «بأمر الحضرة الخديوية، إعلان للمصريين: يعلن الجنرال قائد الجيوش الإنجليزية بأن مقاصد الدولة البريطانية في إرسالها تجريدة عسكرية إلى القطر المصري ليست إلا لتأييد سلطة الحضرة الخديوية، وعساكرنا يحاربون فقط حاملي السلاح ضد سموه، فعموم الأهالي الذين في سلام وسكينة تصير معاملاتهم بكل ود وإنسانية ولا يحصل لهم أدنى ضرر، بل يحترم دينهم ومساجدهم وعائلاتهم، والأشياء التي تلزم الجيش يصير دفع ثمنها وعليه ندعو الأهالي لتقديم ذلك، وأن الجنرال قائد الجيوش يسر جدًّا من زيارة مشايخ البلاد وخلافهم ممن يرغبون المساعدة لردع العصيان الذي هو ضد الحضرة الخديوية الحاكم والوالي الشرعي على القطر المصري المعين من لدن الذات الشاهانية».٣٥

وفي نفس اليوم أعاد الإنجليز وقد جاءهم المدد هجومهم على خطوط كفر الدوار، وزحفوا هذه المرة بقوات كبيرة نقلتها القطارات المسلحة من جهة القباري وأعانتها قوات أخرى جاءت من جهة الرمل، والتحم الجيشان ودارت معركة شديدة استمرت ثلاث ساعات حتى غربت الشمس، وكانت قيادة المصريين لطلبة عصمت وكان معه رضا باشا ومصطفى بك عبد الرحيم وعيد بك محمد وأحمد عبد الغفار والقائمقام أحمد بك عفت، والقائمقام سليمان سامي داود وحكمدار المدفعية بدوي بك، وارتد الإنجليز إلى الإسكندرية بعد أن خسروا خسائر جمة.

وأعاد الإنجليز الكرة عقب ذلك أيامًا ثلاثة متوالية، كانت تنشب فيها المعارك حامية بينهم وبين المصريين حتى الغروب، والمصريون يردونهم كل يوم إلى الإسكندرية بعد دفاع قوي مجيد.

وهكذا كانت وقائع كفر الدوار أو الميدان الغربي سجلًّا مجيدًا لحرب الثورة، وحسب هؤلاء الفلاحين فخرًا أن يخوضوا غمار المعارك لأول مرة في تاريخهم الطويل مدافعين عن مبدأ من أسمى المبادئ الإنسانية، ألا وهو مبدأ الحرية الزهراء، وحسب قائدهم أن يكون أول فلاح في مصر نادى بالحرية في قومه ثم وقف يذود عنها في ميدان من ميادين القتال، وإنه لأمر وايم الحق جليل.

ولكن توفيق رد على هذه الجهود الوطنية الرائعة بهذا البلاغ الذي جعل عنوانه: «إلى جميع أهالي وسكان القطر المصري» والذي قال فيه: «ليس خافيًا ما أقدم عليه أحمد عرابي وشيعته الضالة من الأفعال المغايرة والتشبثات الفوضوية التي أخلت بنظام القطر وأضعفت الثقة به، بل أورثته الخسائر والأضرار الجسيمة ولا سيما بانضمام الجيش المصري إليه واتحادهم معه في البغي والمجاهرة بالعصيان لحكومتنا الخديوية حتى ارتبكت الأحوال وخيمت العواقب فبادرت الدول إلى عقد المؤتمر الدولي بالآستانة للنظر في المسألة وتقرير ما به حلها، وبالبحث والمذاكرة في ذلك استقر رأيهم على اتخاذ الطرق التي يترتب عليها عودة سلطتنا الخديوية وتأديب هؤلاء الخارجين لتستتب الراحة وتزول أسباب المفاسد حرصًا على عمارية القطر واحترازًا مما عسى أن يلم به من الدمار.

ولما كانت الدولة البريطانية الإنجليزية لها فيه المنافع الكبرى ولا سيما بالنظر إلى ترعة السويس التي هي طريقها الوحيد للخطة الهندية المهمة؛ فقد أخذت على عهدتها وتحت إمرتها التداخل الفعلي لقمع هؤلاء المفسدين ومحو آثار الفتن دون أن تمس حقوق السلطة ولا الامتيازات المصرية، ولتحققنا أن نيتها سليمة في الظاهر والباطن ليس إلا الإصلاح ولا غاية لها في الاستيلاء على البلاد ولا الفتك بأهلها لعداوة دينية ولا غير ذلك مما يذيعه العصاة تنفيرًا منهم للعامة وتبغيضًا لهم في الأمة الإنجليزية على حسن مقاصدها المذكورة، ولا يزال العاصون على حالهم من المقاومة وتجسيم الحال المؤدي إلى زيادة الخراب حتى اعترفتهم السلطنة السنية عصاة مخالفين للأحكام الشرعية فاستدراكًا للأمر ومراعاة للمصلحة العامة قد رخصنا لحضرة القائد العام للجيش الإنجليزي بالتجول نحو جموع العصاة واستعمال الحيل القاهرة لتبديد شملهم وسرعة القبض على رؤسائهم لمحاكمتهم بما يستحقون من أشد العقاب …

وبما أن العساكر الإنجليزية يعدون في هذه الحالة نائبين عنا في قطع دابر المفسدين وتطهير البلاد منهم؛ ليعود الأمن والراحة ويزول الشقاء عن العباد ومن كانت هذه صفتهم فإنهم جديرون بالمعاونة والمساعدة ولا ريب من جهتهم بوجه من الوجوه، فينبغي أن لا يرهب منهم أحد ولا يظن فيهم سوءًا أو مكروهًا وألا يعاملوا بما يستوجب المنافرة، بل على كل مصري يحب وطنه ويخشى خرابه أن يعاملهم لقاء حسن نياتهم بالإكرام اللائق بهم ولا يتأخر أحد عن مساعدتهم في تقديم ما ربما يحتاجون إليه من المؤونة بأثمانها السائرة التي هم مستعدون لأدائها فورًا فمن فعل ذلك؛ فقد وفى بما يجب عليه من حقوق الوطنية الصادقة واستوجب رضاء الله، ورضانا عنه فضلًا عما يراه منهم من المكرمة، ومن أبى …

١  How We Defended Orabi p. 269.
٢  المرجع السالف ص١٢٩.
٣  S.H. Blunt, p. 389.
٤  S.H. Blunt, p. 39.
٥  ورد هذا التعريب لكلام الأستاذ في كتاب الشيخ رشيد رضا، وقد راجعناه على الأصل الإنجليزي.
٦  «عرابي باشا» ص٢١٦.
٧  فرغ المرحوم عرابي باشا من كتابة هذه المذكرات سنة ١٩١٠ أي قبل وفاته بسنة، جعل الله الجنة مثواه.
٨  S.H. Blunt p. 541.
٩  تاريخ الأستاذ الإمام ص٢٥٥.
١٠  S.H. Blunt p. 372.
١١  مصر رقم ١٠ سنة ١٨٨٢ ص١٧٣.
١٢  مصر رقم ١٧ ص١٧٥.
١٣  مصر رقم ١٧ ص٢١٦.
١٤  ص٢٠٢.
١٥  M.E. Cromer p. 234.
١٦  مصر رقم ١٨ ص١٨٧.
١٧  مصر رقم ١٧ ص١٩٤.
١٨  ص٢١١.
١٩  مصر رقم ١٧ ص٢٠٩.
٢٠  مصر رقم ١٧ ص٢٣٤.
٢١  مصر رقم ١٧ ص٢٥٩.
٢٢  الوقائع المصرية ٨، ١٠ أغسطس ١٨٨٢.
٢٣  الوقائع ٨ أغسطس سنة ١٨٨٢. وقد اعتمدنا في تاريخ المعركتين على ما جاء في مذكرات عرابي المخطوطة.
٢٤  الوقائع المصرية ٢١ سبتمبر سنة ١٨٨٢.
٢٥  مصر رقم ١٧ ص٢٤٨.
٢٦  M.E. Cromer p. 241.
٢٧  M.E. Cromer p. 241.
٢٨  مصر رقم ١٧ ص٢٩١.
٢٩  مصر رقم ١٧ ص٢٨٧.
٣٠  راجع فصل «مهزلة المحاكمة» من هذا الكتاب.
٣١  مصر رقم ١٧ ص٢٢٢.
٣٢  رقم ١٧ ص٢٩٠.
٣٣  M.E. Cromer p. 241.
٣٤  المرجع السالف ص٢٤٠.
٣٥  الوقائع المصرية ٢١ سبتمبر سنة ١٨٨٢. ومصر رقم ١٨ سنة ١٨٨٢ ص٣، ومذكرات عرابي المخطوطة ص١٢٥.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤