إلى المنفى

كان أول شيء فعله عرابي بعد عودته إلى سجنه أن صلى لله وأطال سجوده؛ شكرًا له سبحانه، ولما خرج من الصلاة وجد محامييه في الحجرة فوجه إليهما بعد الله شكره، وأعادا عليه تهنئتهما، وخرجا بعد حديث جرى بينهما وبينه، وتركاه ليكتب لصديقه مستر بلنت الذي أبلى في سبيل إنقاذه ما أبلى.

وذكر برودلي أنه عَلِمَ عِلْمَ اليقين أن الوطنيين من أهل القاهرة قد باتوا ليلتهم في فرح عظيم وإن لم تخرج مظاهر الفرح من بين جدران المنازل؛ خوفًا من الحكومة والخديو، فوزعت الصدقات والملابس وأُطعم الفقراء، وأقيمت الصلوات، وكان فرح الناس منبعثًا من أعماق نفوسهم، أو على الأصح مستقرًّا في أعماقهم.

وزاره برودلي صباح اليوم التالي وأخبره أنه لم يبق لديه مما يشغل باله إلا قلقه على إخوانه المسجونين، ورغبته أن يبين لأهل أوربا حقيقة اعترافه الشكلي بعصيانه أمر الخديو …

وطاب عرابي نفسًا بما ذكره له برودلي من أنه يأخذ على عاتقه قضية إخوانه، وأنه لن يألو جهدًا في العمل على إنقاذهم …

وكتب عرابي إلى جريدة التيمس كتابًا تاريخيًّا طويلًا قال فيه — بعد أن أثنى أعظم الثناء على محامييه: إنه اتبع ما أشارا به عليه وذكر «أن الوزراء الإنجليز قد أعلنوا قبل ذلك أكثر من مرة أني ثائر ولست أتوقع أن يغيروا رأيهم فجأة» وأشار إلى براءته من تهمتي المذبحة والحريق، وقال: «إنه يغادر مصر مرتاح الضمير وملء نفسه الثقة في المستقبل؛ لأنه يعتقد أن إنجلترا لن تستطيع أن تعوق الإصلاحات التي حارب في سبيلها، وعما قريب ستلغى الرقابة الإنجليزية الفرنسية، وتتخلص مصر من قبضة الموظفين الأجانب الذين يشغلون كل منصب دون المصريين، وستطهر محاكمنا الوطنية من العيوب، وستوحد القوانين ويكون لها سلطة، وسيكون للأمة مجلس نواب ذو رأي مسموع وله حق التدخل في شؤون الشعب المصري، وسيطرد المرابون من القرى، وعندما يرى الشعب الإنجليزي تحقيق هذا كله يستطيع أن يتبين أن عصياني كان له مسوغ عظيم.

إني ابن فلاح مصري وقد بذلك جهد طاقتي في سبيل الحصول على هذه الإصلاحات لوطني العزيز الذي أنتمي إليه والذي أحبه أشد الحب، ولكن سوء حظي حال بيني وبين ما أردت … وإذا لم تقف إنجلترا في وجه هذه الإصلاحات وسلمت مصر للمصريين كما تقتضيها ذمتها وشرفها فيومئذ يتبين للعالم كله حقيقة مساعي عرابي العاصي وحقيقة أغراضه».

وأثنى عرابي أعظم الثناء على مستر بلنت «الذي لم يدخر جهدًا ولا مالًا ليعينني في ساعة محنتي وحاجتي، في حين تخلى عني جميع أصدقائي المصريين الذين كانوا يلازمونني في أيام اليسر».

واختتم رسالته بقوله: «إني أغادر مصر مقتنعًا كل الاقتناع أنه كلما مرت الأيام اتضح للعالم عدالة قضيتنا شيئًا فشيئًا، وسوف لا تندم إنجلترا على ما أظهرت من إنسانية وتسامح إزاء رجل حاربها وحاربته».

وبعد أربعة أيام من صدور الحكم على عرابي قدم إلى المحكمة العسكرية كل من محمود سامي وعلي فهمي، وعبد العال حلمي وطلبة عصمت، وكان مصيرهم مثل مصيره، وكذلك كان مصير محمود فهمي باشا ويعقوب سامي بعد هؤلاء بثلاثة أيام …

واتفق أخيرًا على أن تكون سرنديب منفى عرابي، فذهب إليه برودلي وبيمان يبلغانه بذلك في ٨ ديسمبر فارتاح عرابي لذلك المكان، قائلًا: «إني أخرج من مصر بستان الدنيا؛ لأذهب إلى سرنديب جنة آدم»، وأخذ يحدث بلنت عما يذكره التاريخ القديم عن قصة هبوط آدم وكيف أنه حل بهذه الجزيرة فصارت تعرف بجنة آدم كما ذهبت حواء إلى الحجاز فصار يعرف بجنة حواء … واستبشر عرابي وشاع في نفسه السرور …

ويذكر برودلي أن اللورد شارلز برسفورد كان يجمع المعلومات عن أسباب الحرب أثناء إقامته بالقاهرة فأحب أن يعرف ما يقول عرابي، وحمل نابيير إلى عرابي هذه الرغبة فكتب له تاريخًا موجزًا للأيام السابقة لضرب الإسكندرية، ثم وصف كيف قررت الحرب وكيف بدأت.

وكان عرابي شديد التطلع إلى معرفة ما تكتبه عنه الصحف الأوربية، وقد آلمه تغير الصحف العربية، وتنكرها له ولحركته، وترجم له التراجمة أقوال بعض الصحف الأجنبية كجريدة التيمس وستاندار والديلي نيوز، فسري عنه كثيرًا، وكان ذلك من أسباب كتابته لجريدة التيمس.

وكتبت جريدة «تروث» الإنجليزية١ تمتدح عرابي وتثني على الحركة القومية في مصر، فسر عرابي لهذا سرورًا عظيمًا وأعجبه اسمها وترجمته بالعربية «الحق» وقال: إنه يريد أن يعبر عن الحق في جريدة «الحق»، فكتب إلى محررها المستر لابوشير رسالة افتتحها بقوله: «أرجو أن تسمح لي بأن أقدم إليك أصدق شكري على ما أعلنته دائمًا من الحق فيما يتصل بي وبإخواني في أيام محنتهم، وإني مقتنع كل الاقتناع ببراءة مقاصدك وأنك أردت دائمًا أن تظفر بما يتفق مع الحق من عدالة، وليس من شك في أن أولي العدل من الرجال الذين يجودون بالعون لمن لحقهم سوء الحظ، في ساعة حزنهم.

وبعد، فإنه لما كان لا يعنيني شيء أكثر مما يعنيني رخاء وطني وتقدمه وسعادة أهله، وذلك على الرغم من أني أغادره الآن إلى الأبد، فإني أحب أن أذكر لك بعض الأمور الجوهرية التي لو روعيت جلبت الخير الكثير لوطني وأفادت أهله فائدة عظيمة، وأحسب أنه لن يبلغك هذه الأمور في غير هوى مثل رجل مجرب فقد كل ما يملك في سبيل حب وطنه».

ومضى عرابي يذكر ما يرجوه من أوجه الإصلاح معقبًا على كل وجه بما يفسره، فأشار إلى ضرورة وجود مجلس نواب تام السلطة على أساس انتخاب حر، كما هو الحال في الأمم المتمدنة، يُسأل أمامه الوزراء وينعقد لمدة محدودة لا تنقص عن خمس سنوات، وإلى ضرورة المساواة بين المصريين في المعاملة وفي الضرائب، وإلغاء السخرة، بحيث يكافأ الناس على ما يؤدون من أعمال؛ لأن حياة الفقير تتوقف على عمله اليومي، وإلغاء الربا في القرى، ووضع قانون عادل يطبق في المحاكم ولا يعتدي عليه أحد، وأن تكون وظائف الدولة للوطنيين جميعًا على أساس الكفاءة والاستعداد، ولا بأس من أن يستخدم بعض الأجانب مع مراعاة الحالة الاقتصادية.

واختتم رسالته بقوله: «وإذا وافقت إنجلترا على اقتراحاتي هذه فلست أبالي بالنفي أو بأي شيء آخر يخبئه لي القدر».٢

وما زال يسعى برودلي حتى رفعت الحواجز الخشبية الغليظة التي كانت تفصل بين الردهات والحجرات، واستطاع المسجونون السبعة أن يلتقوا في ١٣ ديسمبر، فكان لقاء اهتزت له نفوسهم، عناق وضغط على الأيدي ودموع في المآقي، وأصبحت حجرة عرابي ملتقاهم كل يوم؛ حيث كانوا يجتمعون أمامه وينظرون إليه جميعًا كما كانوا يفعلون من قبل نظرتهم إلى كبيرهم وزعيمهم، وكانوا لا يبرمون أمرًا إلا برأيه ولا يتناقشون في شيء إلا في مجلسه …

وامتلأت الحجرات بالزائرين والزائرات من الأقارب القاهريين والقرويين، وكان أقارب المسجونين جميعًا يذهبون إلى حجرة عرابي فيلثمون يده ويحظون بالجلوس ساعة بين يده وأعينهم لا تتحول عن وجهه …

وأحضر الخدم ما يلزم من متاع في المنفى، من سرر وكلل وستائر وبسط وآنية وغير ذلك، حتى امتلأت به الحجرات …

وطلب إليهم صديقهم المستر برودلي أن يعد كل منهم قائمة بأسماء من يريد أن يرافقوه إلى المنفى ليحمل تلك القوائم إلى وزير الداخلية، وكان حينذاك إسماعيل باشا أيوب الذي حل محل رياض …

وذهب برودلي فقابل الوزير، وبلغه الوزير أن الحكومة تفكر في أن ترسل بعض المنفيين إلى هنج كنج، فغضب برودلي؛ لأن في ذلك إخلالًا بالشروط المتفق عليها، وبعد جدال طويل عدل الوزير عن رأيه، ولكنه أبدى اعتراضًا على القوائم وأصر على وجوب إنقاصها، ولم يجد برودلي بدًّا من أن يعود بها إلى المسجونين لينقصوها، وقد وقع ذلك من نفوسهم وقعًا سيئًا، ولكنهم نزلوا على حكم الضرورة …

وفي ١٤ ديسمبر صدر أمر الخديو بمصادرة أملاك الزعماء السبعة وأموالهم، وحرمانهم حق امتلاك أي عقار في الدولة المصرية بطريق الإرث أو الهبة أو البيع أو بأي طريقة ما، مع صرف معاش سنوي لكل منهم بما يكفي معيشتهم …

وما إن صدر هذا القرار حتى سلكت الحكومة مسلكًا حقيرًا؛ إذ أسرعت بإرسال جند اقتحموا منازل الزعماء في غلظة ولم يراعوا حرمة شيء، وكانوا يقلبون الأمتعة رأسًا على عقب، ولا يسمحون بدخول أحد أو خروجه إلا بعد تفتيشه، ولقد بلغت الغلظة والوقاحة أن كانوا يقتحمون على السيدات خدورهن، وكانت السيدات في تلك الأيام لا يرين الرجال إلا والنقاب على وجوههن، وللقارئ أن يتصور مبلغ ما نالهن من ألم وفزع …

ولقد شكا الزعماء إلى برودلي مما حل بزوجاتهم، وبيوتهم، وذهب برودلي فقابل إسماعيل أيوب فتظاهر بأنه لا يعلم شيئًا عن هذا، وأحاله إلى رئيس الشرطة أو الحكمدار، وهو حينذاك عثمان باشا غالب …

ويقول برودلي: إن غالبًا باشا ظل ساعة يتحدث في غير ما جاء من أجله، ثم أشار إلى قمطر في حجرته، وقال: إنه ملئ بصور عرابي الفوتوغرافية، وإنه حطم في محال بعض المصورين زجاجات لصورة عرابي وصادر آلافًا مطبوعة منها، وقال: إنه لا يعرف وقد فشل عرابي ماذا يريد الناس منه بعد ذلك؟

وبعد إلحاح برودلي وعد غالب ألا يدخل الجند بيوت الزعماء، وألا يفتشوا الداخلين والخارجين على هذه الصورة المهينة، ولكنه لم ينفذ ما وعد به …

ويذكر برودلي أن زوجة نابيير أرسلت إلى زوجها كتابًا من منزل علي فهمي تبلغه بأن الجند اقتحموه، وروعوا السيدات واقتحموا الحجرات، وطلبت من زوجها أن يأتي إليها؛ لأنها تخشى أن يمنعها الحرس من الخروج.

وذهب برودلي ونابيير إلى هناك، وتصادف أن كان الخديو في طريقه من عابدين إلى قصر الإسماعيلية وكان مارًّا بمنزل علي فهمي، فما راعه إلا سيدة حاسرة الرأس تعترض عربته فتوقفها وتصيح به: «يا توفيق حاربت الرجال، أم يكفك هذا حتى تحارب النساء؟! إنك تراني الآن بغير نقاب وفي وضع ينال من شرفي، ولكن عار ذلك يلحقك كما يلحقني» وتقدم بعض من شهدوا المنظر، فقادوا هذه السيدة في رفق إلى منزلها وهي زوجة علي باشا فهمي، ولم يعد الخديو يسلك بعد هذا الطريق … وشكت السيدة ألمها إلى برودلي وصاحبه من وراء ستار بكلمات تتخللها إجهاشات مؤلمة …

ولم تكف الحكومة عن هذا الطغيان إلا بعد أن تدخل دوفرين في الأمر، فلم يجد برودلي مناصًا من الشكوى إليه …

وحدث أن أبدت الحكومة تعنتًا في أمر جديد؛ وذلك أن السفينة لا تتسع للزعماء جميعًا ومن معهم، وعلى ذلك فلن يسافروا معًا، وكتب اثنان منهم رسالة وقعا عليها ليرسلاها إلى الحكومة وقد دعيا فيها للخديو بالتوفيق، وما إن رآها عرابي حتى صاح بيعقوب سامي غاضبًا أشد الغضب: «هل وقعت على هذه الرسالة؟ إني أؤثر أن أمزق إربًا قبل أن أفعل شيئًا كهذا، لقد قلت وما زلت أقول: إن توفيقًا لم يكن يصلح ليحكمنا فكيف أكذب اليوم وأدعو له؟ إننا على أية حال لم نبلغ هذا القدر من السقوط».

وفي ٢٤ ديسمبر، نشرت «الوقائع المصرية» أمرًا خديويًّا آخر بتجريد الزعماء السبعة من جميع الرتب والألقاب وعلامات الشرف التي كانوا حائزين لها، ومحو أسمائهم من سجلات ضباط الجيش المصري إلى الأبد.

وفي ٢٥ ديسمبر، وهو يوم عيد الميلاد، زار برودلي عرابي وأصحابه في سجنهم، وهنأه عرابي وزملاؤه بالعيد، ولم يجد عرابي لديه ما يقدمه له هدية وذكرى غير مسبحته وبساطه، وتقبلهما برودلي شاكرًا وتبادل وعرابي وأصحابه الصور، وقد أعربوا له جميعًا عن خالص مودتهم وعظيم شكرهم له ولزميله وللمستر بلنت.

وأبت الحكومة إلا أن تمضي في تعسفها وتتمادى فيه قبل سفر الزعماء؛ إذ تلت عليهم قرار تجريدهم من رتبهم وألقابهم على مرأى ومسمع من الجند والناس …

أحضرت عربتان إلى باب الدائرة السنية، وأمر المسجونون فجأة، بعد الساعة الثانية بقليل، أن ينزلوا في غير إبطاء، ولم يبلغهم أحد عما يراد بهم، ولكن هذا العمل لا يختلف عن معاملة المجرمين العاديين …

ونزل الزعماء وهم يخشون أن يكون في الأمر غدر جديد فأمروا بالدخول في العربتين، وسارتا بهم في حراسة بعض الضباط إلى قصر النيل، حيث اصطف بعض الجند على هيئة مربع، واجتمع في إحدى الشرفات عدد من عساكر الإنجليز وضباطهم يشاهدون ويصفقون، ووضع الزعماء وسط المربع، وأخذ أحد الضباط يتلو عليهم قرار الخديو، ولما فرغ من تلاوته صاح الجند: «يعيش سمو الخديو»، وسئل الزعماء عن سيوفهم، وشاراتهم أين هي؟ وهو سؤال سمج،؛ لأنهم بملابسهم المدنية وليس معهم شيء، ثم أعيدوا إلى العربتين فسارتا بهم إلى مقرهم في السجن ونفوسهم مليئة بالسخط على هذه الأفعال الحقيرة …

وكان قد اجتمع عدد من الناس خارج قصر النيل، فنظروا إلى عرابي وصحبه في حسرة وألم، ولم يستطع إلا واحد أن يهتف: «حماكم الله» ثم اندس في الجموع، وكان يشهد الحادث خادم مصري كان قد استأجره المستر برودلي منذ أن جاء إلى مصر ويدعى حسن، وكان شديد الميل لعرابي وقد زاد تأثره وهو يقص على برودلي ما رأى، وعقَّب على غياب السيوف والشارات التي كانت تكسر وتنتزع لو أنها وجدت، بقوله: «الله أكبر! حتى الخديو لم يستطع أن ينال من عرابي».

وذهب برودلي ونابيير إلى السجن، وأخذا يهدآن خواطر الزعماء بالكلمات الطيبة، ويقول برودلي: إنه تنفس الصعداء؛ إذ علم أن السفينة ماريوتس٣ دخلت قناة السويس فعلًا؛ لتكون على أهبة السفر من السويس إلى سيلان في مساء اليوم التالي …

وبقيت مسألة هامة، فليس مع عرابي ولا أحد من أصحابه مال، وقد بذل برودلي مساعيه حتى صرف لكل منهم ثلاثون جنيهًا مقدمًا مما قرر صرفه لهم بسرنديب …

وقد كتب بيمان بعد ذلك بنحو سنة معقبًا على ذلك في إحدى الصحف٤ فكان مما قاله: «إن عرابي الذي كان يستطيع أن يجمع لنفسه مليونًا من الجنيهات لم يجد ما يشتري به ملابس له عند سفره، وقد أرسل له بعض أصدقائه حقيبة مليئة بالملابس والقطار على أهبة السفر، وكانت أسرته تعيش وهو في السجن على صدقات يدفعها بعض محبيه سرًّا وكنت أنا الذي أحملها إليها بيدي … ولست أكتب هذا بدافع عبادة البطولة، وإنما لأبين لماذا اختار الشعب المصري رجلًا نشأ من طبقة الفلاحين وتمسك به؛ لأنه يعرف ما يشكو منه، وكيف يدافع عن حقوقه المكتسبة، وآثر ذلك على أن يظل خاضعًا للسلطان الموروث».
وفي ٢٦ ديسمبر، تأهب عرابي وأصحابه للسفر، وأرسلت إليه بعض فضليات السيدات على يد برودلي كثيرًا من الهدايا٥ في حذر؛ خوفًا من توفيق، فأرسلت إحداهن حقيبتين إنجليزيتين كبيرتين وأخرى مصحفًا فخمًا وثالثة سجادة للصلاة، ورابعة حقيبة مليئة بالملابس وخامسة سلة جميلة …

ولندع لبرودلي وصف هذا الرحيل، يقول: «كان المفروض أن يبرح القطار الخاص قصر النيل إلى السويس في الساعة العاشرة على وجه التحديد … وفي الساعة الأخيرة بلغنا أن الرحلة ستؤجل إلى موعد آخر بسبب رداءة الجو في السويس، ولكنا أخذنا الحيطة فتركنا حسن عند السجن لينظر ماذا يحدث؛ خشية أن نفاجأ مفاجأة آخرى …

وأقبل حسن قبيل الساعة العاشرة منقطع الأنفاس من شدة الجري فأبلغنا أن الزعماء غادروا لتوهم الدائرة السنية وكان نابيير في شغل بالبحث عن متاعه؛ لأنه كان يتأهب لمرافقتهم حتى السويس، فركبت عربة وأسرعت إلى قصر النيل …

وكان منظر القصر واضحًا في نور القمر الساطع الذي كاد يمحو نور المشاعل التي حملها بعض الحراس المصريين وكان أمام عربات القطار بعض شهود الرحيل وكان بينهم السير شارلز ولسن والمستر ماكنزي ولاس وعثمان باشا غالب …

وكان القطار عظيم الطول يكاد يمتد من أول الفناء إلى آخره، وكان في مقدمته السيدات ومعهن أطفالهن وفي مؤخرته الخدم والمتاع الثقيل وفرقة من الجند الإنجليز تحت إشراف الميجور فريزر، وبعض الجند والضباط المصريين الذين كلفوا أن يرافقوا المنفيين حتى السويس، وخصصت في وسط القطار عربة من عربات الدرجة الأولى لعرابي وأصحابه، وكانوا قد أخذوا أماكنهم في القطار عندما بلغ قصر النيل … وبدا عليهم من البشاشة أكثر مما كان يبدو على وجوه فريق مثلهم من الإنجليز لو كانوا في مثل موقفهم، وأسرعت إلى النوافذ لأسمعهم بعض كلمات التوديع، وأعاد عرابي علي كلمات ثنائه وشكره الطيبات …

وكان الأمر بالرحيل على وشك أن يصدر، ولكن بيمان أعلن أن رجال الشرطة عند منزل عرابي منعوا زوجة ابنه وأختها من مغادرته … وما الحيلة؟ لقد حانت ساعة الرحيل، ولم يكن ناظر محطة القاهرة يسمح بأي تأخير للقطار وكان الحي الذي يقع فيه بيت عرابي بعيدًا وعندئذ قال السير شارلز ولسن لعثمان غالب باشا في لهجة حاسمة: إن القطار لن يبرح مكانه إلا إذا حضرت السيدتان، وأرسل غالب باشا عربته ليجيء بهما … وأعقب ذلك فترة صمت محير … وقد جاء بعض الخدم يحيونني، وبحث المستر نابيير عن مكان له ولحقائب عرابي وتقدم بعض الضباط الإنجليز فصافحوا عرابي وجلس إلى جانبه الميجور فريزر، الأمر الذي ارتاح له عرابي ارتياحًا ظاهرًا ووصلت أخيرًا سيدتان تلبسان ملابس بيضاء وسرعان ما توارتا في إحدى العربات بين فريق السيدات، ولم يكد يغلق الباب عليهما حتى صدرت إشارة برحيل القطار، وغاب عرابي وأصحابه وراء جدار قصر النيل …

هكذا أخرج عرابي ليلًا إلى حيث لا يرجو له خصومه عودة، لم يره من الشعب المصري أحد، ولا ودعه من محبيه أحد، وتنفس توفيق وحزبه الصعداء مرة ثانية.

•••

ولئن حيل بين عرابي وبين بني قومه وأخرج على هذه الصورة المدبرة، فها نحن أولاء نودعه على صفحات التاريخ بما هو أهل له من الإجلال والاحترام …

أُخرج عرابي من مصر مغلوبًّا على أمره وأسدل الستار على حركته، ومهما يكن من حقد خصومه عليه ومن محاولاتهم المتصلة النشيطة لتشويه حركته منذ أن ذاع صيته بحادث عابدين، فإن شيئًا واحد هو حسبه من المجد والفخر سوف يبقى على الرغم من كيدهم وسوف تزيده الأيام وضوحًا ورسوخًا، ألا وهو أن عرابي كان الزعيم القومي الأول في مصر، فهو أول فلاح من أعماق القرى هتف بحرية مصر واستخلص لها الدستور وآنف أن يخضع لحكم الفرد، وفرق بين ما هو حركة إسلامية عامة وبين ما أصبح بحق في مصر حركة قومية مصرية قوامها أن يكون أبناء مصر من الفلاحين هم السادة وهم مصدر كل سلطة؛ لأنهم عماد الثروة ودافعو الضرائب، ولأنهم قبل ذلك أهل البلاد وأصحابها الحقيقيين … وهذه هي الديموقراطية بأحدث معانيها كما يفهمها الناس اليوم …

كانت حركة عرابي حركة قومية على الرغم من باطل المبطلين، وقد جحد بها كثيرون من خصومه واستيقنتها أنفسهم ولم يستطع حتى كرومر نفسه كما ذكرنا من قبل أن ينكر قومية هذه الحركة وقد جاء في موضع آخر من كتابه قوله: «إن حركة عرابي أكثر من أن تكون مجرد فتنة عسكرية، لقد كان فيها إلى حد ما طبيعة الحركة القومية الحقيقية، ولم تكن هذه الحركة موجهة كلها أو في جوهرها ضد الأوربيين والتدخل الأوربي في الشؤون المصرية ولو أن النفور من الأوربيين والتجني عليهم كانا يسيطران على عقول قواد هذه الحركة، إنما كانت هذه الحركة إلى مدى عظيم موجهة من المصريين ضد الحكم التركي».٦

ولقد بيَّنَّا في أكثر من موضع في هذا الكتاب كيف التفت الأمة حول عرابي وقد تجلى هذا المظهر بوجه خاص فيما جادت به طوائفها جميعًا أثناء القتال، كما تجلى في المجلس العام الذي مثلت فيه طوائف الأمة جميعًا حتى الأمراء فكان هذا المجلس بحق مؤتمرًا وطنيًّا عامًّا يتكلم باسم الأمة …

وممن كتبوا عن عرابي فأنصفوه وأنصفوا حركته السير ماكنزي ولاس الذي رافق اللورد دوفرين إلى مصر، قال: «لم يظهر من عهد محمد علي أو من قبل ذلك بزمن بعيد رجل في مصر كان له على البلاد من السيطرة مثل ما كان لعرابي، فإنه لم يقتصر أمره على أن الشرطة والجيش كانا رهن إشارته بحيث يستطيع أن يأخذ بالإرهاب كيف يشاء، بل كان يتمتع كذلك بعطف كل الطبقات في مصر تقريبًا، ولم يحصل عرابي على نفوذه أو يحافظ عليه بالإرهاب؛ لأنه عند بدء حركته لم يكن لديه أية قوة يضر بها أحدًا، ولم يعلم عنه أنه في أثناء قوته ذبح شخصًا أو شنقه أو رماه بالرصاص، ولو أنه خاض معركة انتخابية خالية من وسائل الغش، وكان خصمه فيها توفيق، لفاز عليه بأغلبية هائلة من أصوات الناخبين الأحرار».٧
وقال في موضع آخر: «إذا كنا لم نرد أن نقيم نظامًا دائمًا في مصر فلماذا ذهبنا إلى هناك؟ وإذا كنا لم نرم إلى إقامة حكومة صالحة حقًّا فلماذا قضينا على الحزب القومي الذي كان لديه فرصة لإقامة نظام من أي نوع، كان خيرًا ممن يصنع الخديو الذي أعدناه إلى سلطته».٨

وكذلك ممن أنصفوا عرابي اللورد شارلز برسفورد الذي اشترك في ضرب الإسكندرية؛ فقد كتب في جريدة التيمس بتاريخ ٨ يناير سنة ١٨٨٣: «حقًّا إن من الممكن أن تسمى حركة عرابي حركة قومية؛ فقد نعتها بعض الإنجليز بهذا في شهر مايو سنة ١٨٨٢ وعندما تحرجت الأمور تحرجًا خطيرًا، وكان منهم بعض الضباط البحريين من ذوي المكانة والذين حضروا في الأسطول الذي جاء إلى الإسكندرية … ونحن إذا نظرنا إلى المسألة من وجهة النظر المصرية لا يخالجنا أدنى شك في أن عرابي كان يحظى بعطف الشعب المصري … ويستطيع عرابي وأصحابه أن يقولوا: إنهم كانوا يحاربون في سبيل الإصلاح، وإن الدليل الذي يؤيد عدالة قضيتهم هو أن إنجلترا آخذة في تنفيذ إصلاحاتهم بالذات، ويستطيعون كذلك أن يبرهنوا بحقيقة أخرى، هي أنهم لم يأخذوا من الشعب قرشًا واحدًا إلا ما رأوا أنه ضروري لخير الشعب، الأمر الذي يعد نادرًا في الشرق» …

أما برودلي فيقول عن عرابي: «إني لا أكتفي بأن أقول: إن الأمة كلها كانت في جانب عرابي، بل إني أقرر في غير خوف من نقض آرائي أن عرابي وأصحابه قد أظهروا في أداء رسالتهم أمانة تامة واعتدالًا وروحًا إنسانية تشرفهم على مدى العصور» … وقال في موضع آخر: «ليس يخامرني أقل شك في أن عرابي وأصحابه كان لديهم القدرة على أن ينهضوا بحكم أمتهم حكمًا شعبيًّا وأن ينفذوا في جدارة كل التغييرات والإصلاحات التي خلفوها لنا بصفتنا ورثتهم وخلفاءهم، لم يكن عرابي من ذوي الأحلام أو من ذوي التحمس، وإنما كان — إذا قيس بالمقياس المصري — رجلًا متعلمًا ذا مقدرة ملمًّا بشؤون وطنه، وما تحتاج إليه بلاده، وُهِبَ كثيرًا من النشاط وقدرًا عظيمًا من أمانة الغرض» …

وكان الأمراء والعلماء والأعيان — وهم صفوة الأمة — يحترمون عرابي ويرفعون قدره … كتب إليه الأمير إبراهيم باشا وهو بكفر الدوار فكان مما خاطبه به قوله: «إلى صاحب السعادة حامي حقوق مصر أحمد عرابي باشا».٩

وأثنى الأمير في كتابه على همته ونخوته وعبر له عن مودته ومحبته …

وقال الشيخ محمد عبده فيما كتبه للمستر برودلي بعد أن ذكر ما كان بينه وبين عرابي من خلاف في الرأي قبل يوم عابدين: «إن الاجتماعات العامة المتنوعة التي عُقدت بعد ذلك مباشرة للحصول على دستور برئاسة سلطان باشا حوَّلت في الحال مقام عرابي من قائد جيش إلى قائد مصر، وحينئذ أصبحت وسلطان باشا والبلاد المصرية قاطبة من أتباع أحمد عرابي».١٠
وقال برودلي عن الشيخ محمد عبده: «إنه أمدنا بقدر كبير من المعلومات عن الأيام الأولى للحركة القومية، ووصف وصفًا حيًّا كيف أصبح عرابي بطل مصر الذائع الصيت، وكيف أن آلافًا من الآباء المصريين أطلقوا على أبنائهم اسمه وكيف ذهب اسم توفيق من الأرض».١١

وكانت أميرات الأسرة الخديوية — ما عدا زوجة توفيق وأمه — يعطفن على عرابي ويتحمسن لقضيته، ومن بينهن الأميرة أنجه هانم أرملة المرحوم سعيد باشا التي أهدت إلى عرابي خيمة زوجها، وقد كتبت هذه الأميرة إلى المستر برودلي بعد الحكم على عرابي تثني عليه أعظم الثناء وتشكره على صنيعه، وقدمت إليه وإلى زميله هدايا غالية …

وذكر برودلي حديثًا طويلًا جرى بينه وبين أميرة لم يذكر اسمها وكان يشير إليها بقوله الأميرة ثم يضع خطًّا مكان اسمها، ومما قالته هذه الأميرة: «كانت تعطف كل واحدة منا على عرابي سرًّا؛ لأننا عرفنا أنه يعمل لخير مصر، وقد ظننا في وقت ما أن توفيقًا يؤيده، ولكنا لما رأيناه ينوي أن يخون مصر كرهناه أشد الكره، وقد بذل كل ما في وسعه ليشقينا منذ ذلك الوقت، ولقد حدثته الأميرة أنجه — التي نُجلها كل الإجلال — ولكن في غير جدوى، وذهب توفيق عقب ذلك إلى الإسكندرية وانضم إلى الإنجليز، ومنذ ذلك الوقت اتجهنا صوب عرابي للدفاع عن الوطن … وكانت حماستنا له لا تعرف حدًّا، وكنا نكتب له جميعًا الرسائل والبرقيات نهنئه ونشد أزره … وقد كتبت له الأميرة — خطابًا عظيم الحمق — تعرض عليه أن تتزوجه؛ لأنها تراه منقذ مصر».١٢
وذكر بلنت في كتابه «أنه رجع إلى يومياته بتاريخ ٣١ يناير سنة ١٨٨٧، فوجد فيها أنه زار الأميرة نازلي التي يعد حديثها ممتعًا في أي جماعة من جماعات الدنيا، والتي كانت تعطف على عرابي أشد العطف، ومما ذكرته الأميرة قولها: «كان عرابي أول وزير مصري حمل الأجانب على طاعته، وقد رفع المسلمون رؤوسهم في عهده على الأقل، ولم يجرؤ اليونانيون ولا الإيطاليون على الاعتداء على القانون، وقد أخبرت توفيقًا بذلك أكثر من مرة، والآن ليس هنا من يحفظ النظام، فإن المصريين وحدهم هم الذين يقعون تحت سلطان الشرطة ويفعل الأوربيون ما يشاؤون».١٣
وقد أورد برودلي رأيًا لشخص لا يمكن المرء أن ينتظر منه كلمة طيبة عن عرابي، وذلك الشخص هو توفيق نفسه! قال برودلي: «أتيح لي أن أرى توفيقًا مرتين، وذلك عندما سمح أن يلقاني في قصره بعابدين … وبعد أن قدم لي سيجارة بدأ الحديث فأكد لي أن أوربا أخطأت فهم آرائه فيما يتصل بالتحقيقات الأخيرة، فهو لم يرد قط موت المسجونين ولا اعتنق هذه الفكرة، وكان تغيير الحكم عليهم تجربة سارة للتسامح أملتها عليه إرادته … وحاولت أن أتكلم قليلًا عن عرابي فقال الخديو: إنه يرى حتى في هذا الوقت أن عرابي من خيار الرجال، وإنه لم يصدق لحظة قط أن عرابي أراد أن يقتله، ولو أنه كان ينوي شيئًا من هذا لاستطاع أن ينفذه في فرص عديدة أتيحت له عندما كان وإياه في القاهرة».١٤

هذا جانب مما يقوله المنصفون عن عرابي وحركته من ناحية حياته العامة، أما من الناحية الشخصية فكان من أبرز صفاته — كما رأينا من سيرته — الورع وخشية الله والوفاء والإباء الذي قل أن كان له فيهما نظير بين أقرانه، والإيثار الذي جعله يقدم مصلحة مصر وقضية مصر على مصلحته الشخصية، وقد رأينا كيف خرج من الحرب صفر اليدين كما قال المستر بيمان، كما رأينا أنه لم يكن يخطو خطوة واحدة بدافع الطمع الشخصي، وقد تجلى ذلك في حرصه الشديد — الذي هو من صفات الزعامة الصادقة — على قضية مصر وهو في محنته واهتمامه بأن يرد على كل مطعن يوجه إليها دون أن يُعنى قليلًا أو كثيرًا بما يقال عن شخصه …

•••

أقلعتْ بعرابي وأصحابه السفينة مريوتس من السويس في الساعة الواحدة بعد ظهر يوم ٢٧ ديسمبر، وهي سفينة إنجليزية حمولتها نحو ١٤٠٠ طن، وقد استأجرتها الحكومة المصرية لنقل هؤلاء المنفيين …

ولم يقتصر الأمر على هؤلاء السبعة المنفيين؛ فقد صدرت في مصر بعد ذلك أحكام أخرى على عدد كبير جدًّا من المصريين، فصدر الحكم على الروبي باشا والسيد حسن موسى العقاد بالنفي ٢٠ سنة في مصوع، وعلى أحمد عبد الغفار بالنفي ٨ سنوات خارج مصر، وعلى الشيخ محمد عبده بثلاث سنوات قضاها في بيروت …

وحُكم على نحو ٣٥ غير هؤلاء بالنفي مددًا تتراوح بين سنة وخمس سنوات، وقضي على طائفة من كبار الأعيان بتجريدهم من الرتب والامتيازات، وأن يقيم كل منهم في بلدة معينة تحت رقابة الحكومة المحلية مع دفع تأمين مالي كبير، وكذلك قُضي على عدد من كبار الباشوات بأحكام كهذه وإن خلت من التأمين المالي …

أما العلماء؛ فقد قضي بتجريد عدد كبير منهم من رتبهم وشارات شرفهم وامتيازاتهم، ومن هؤلاء الشيخ حسن العدوي وابنه الشيخ أحمد العدوي والشيخ محمد أبو العلا الخلفاوي والشيخ أحمد عبد الغني …

وقضي على عدد كبير من الموظفين والعمد والأعيان بمثل هذا الحكم، كما فُصل أكثر من ٢٥٠ ضابطًا من ضباط الجيش وجردوا من رتبهم وامتيازاتهم، وحُرموا من مراتب الاستيداع ومعاش التقاعد …

ومن أكبر مآسي هذه الأحكام ما حكم به على يوسف أفندي أبو دية؛ فقد كان هذا الضابط ياورًا لعبد العال قائد دمياط وأرسله في أمر إلى عرابي بكفر الدوار، وتصادف أثناء مروره بطنطا أن شهد فيها تلك الفتنة التي أشرنا إليها بين الأجانب والمصريين، فذهب إلى المدير إبراهيم باشا أدهم فألفاه متمارضًا فعبر له عن أسفه وكان في كلامه شيء من اللؤم، ولما أخبر عرابي بذلك بادر عرابي بإصدار أمره بالقبض على أدهم باشا والتحقيق معه …

ومن المؤلم حقًّا أن يقبض بعد هزيمة عرابي على هذا الضابط الأمين ثم يُتهم بإثارة الفتنة في طنطا ويحكم عليه بالموت، وينفذ عليه الحكم فيشنق وهو بريء … ومما يزيد في معنى هذه المأساة أن الخديو أصدر عفوًا عنه ولكن البرقية المرسلة بهذا العفو لم تصل إلى المختصين إلا بعد أن شنق الشهيد … وحسبنا هذا الحادث وحده للدلالة على ما كان يسود هذه الفترة التي أعقبت الثورة من إرهاب وبطش ومظالم كثيرة …

•••

وفي ٩ يناير سنة ١٨٨٣ رست السفينة مريوتس بميناء كولومبو بسرنديب ونزل الزعماء السبعة؛ ليعيشوا بالجزيرة ما بقي من أعمارهم كما كان مقررًا في حكم النفي.

وإن المرء ليمتلئ ألمًا وحنقًا على هذا الحكم الجائر الذي يقضي بحرمان هؤلاء الأمجاد الميامين من وطنهم الذي أحبوه في غير ذنب إلا هذا الحب …

ولو أن عرابي قدم إلى محكمة عادلة تريد إحقاق الحق لما كان هناك شك في براءته من جميع ما نسب إليه من تهم؛ فقد رأينا كيف عجزت لجنة التحقيق مع اضطغانها عليه من أن تدينه في تهمتي تدبير فتنة الإسكندرية وإحراقها.

أما العصيان فلم يكن له أي أساس أو شبه أساس كما بيَّنا، وإنما قضت الظروف أن يقر عرابي إقرارًا صوريًّا جانبًا منه وهو عصيان أمر الخديو وذلك بالاستمرار في الحرب بعد أن طلب وقفها …

وما سمعنا أنه في تاريخ المحاكمات في الدنيا كلها تقدم الحاكمون يساومون المتهم على أن يقبل كيت وكيت ثمنًا لإعفائه من الموت!

كذلك ما سمعنا أن متهمًا يتفق معه على ما يحكم به عليه قبل مثلوه أمام القضاء، ولو أن عرابي ضمن أن يكون قضاته ممن يطمئن إلى عدالتهم ما قبل هذا الوضع وهو متأكد من البراءة …

ومن أبلغ الظلم في هذه المهزلة الهازلة أن يمن على امرئ بريء بأن ينفى بدل أن يموت، كأن من التفضل عليه أن يظلم هذا الظلم الفادح بحرمانه بقية حياته من العيش في وطنه ومن ممتلكاته التي أحلها الله له ومن أهله وعشيرته، وقد كان بنو مصر جميعًا أهله وعشيرته …

ولكن هكذا شاءت سياسة إنجلترا، فإن حمْلتها جاءت إلى مصر لأسباب بسطناها تتلخص في تحقيق حلمها القديم، ولكنها ادعت أنها جاءت للقضاء على العصاة، ولو برئ هؤلاء العصاة فكيف كانت تبرر إنجلترا مجيئها إلى هذه البلاد؟ ذلك ما جعل دوفرين يقترح ما اقترح، وذلك ما قامت عليه مهزلة المحاكمة وما نتج عنه هذا النفي أو هذا الظلم العظيم …

١  Truth.
٢  How we defended Orabi p. 388.
٣  مريوط.
٤  Fort Nightly Revieus, November 1983.
٥  لم يذكر برودلي أسماءهن واكتفى بقوله: بعض العظيمات. ولعلهن من الأميرات.
٦  M.E. Cromer p. 251.
٧  Egypt and Egyptian Question p. 379.
٨  نفس المصدر ص٣٧٧.
٩  How we defended Orabi p. 381.
١٠  تاريخ الأستاذ الإمام ص٢٢٧.
١١  How we defended Orabi p. 200.
١٢  نفس المصدر صفحة ٣٩٤.
١٣  S.H. B, p. 394.
١٤  How we defended Orabi p. 381.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤