الجندي الثائر

بدأت الثورة العسكرية كما أسلفنا في عهد إسماعيل، وكان أول مظهر لها ذلك الحادث الذي اعتدى فيه فريق من الضباط على نوبار أمام وزارة المالية، وكان ما دفع الضباط إلى ذلك الحادث في الواقع أو ما جعل التحريض أيًّا كان مصدره، يُحدث أثره فيهم، ما لحقهم من الضيق بسبب الاستغناء عن عدد كبير منهم، ومن تأخُّر مرتباتهم عنهم، بينما كان لا يلحق بالشراكسة في الجيش شيء من هذا …

ويذكر بلنت في كتابه «التاريخ السري» حركة لنفر من الضباط المصريين في شهر مايو سنة ١٨٨٠، وكان من بينهم أحمد عرابي. وخلاصة هذه الحركة — كما يصفها بلنت — أن هؤلاء الضباط قدموا شكوى إلى وزارة الجهادية من تأخر مرتباتهم، ونظرت الوزارة في الأمر، وكان قنصلا إنجلترا وفرنسا قد تدخلا فيه وأُلِّفت لجنة لتحقيق المسألة، وقد أقرَّت هذه اللجنة مطالب الضباط، ولكن رياضًا ووزيره رأيا في ذلك العمل القانوني حركة جريئة، وخروجًا على النظام.

ويقول بلنت: إن قنصل فرنسا البارون دي رنج أبدى كثيرًا من العطف على هؤلاء الضباط، وأصبح محبوبًا لديهم، وكان بين هذا القنصل وبين رياض كثير من الحزازات …

وكان لعرابي — كما يذكر بلنت — نشاط ملحوظ في هذه الحركة، ولكنه كان معتدلًا حتى لقد اكتسب باعتداله ثناء القناصل عليه.

ويتهم بلنت الخديو بأنه وجد في هذه الحركة فرصة للدسّ والكيد لوزيره رياض، فاتصل بالضباط وكان رسوله إليهم علي فهمي رئيس الآلاي الأول لحرس الخديو، وكان علي فهمي صديقًا لعرابي وإن لم يكن له ضلع في هذه الحركة ولا وجهة معينة في السياسة …

ويذهب بلنت إلى القول بأن توفيقًا أخبر الضباط على لسان علي فهمي بأن رياضًا ووزير الجهادية يبيتان لهم الكيد، وأنهم إن لم يعملوا على إقصائهما عن منصبيهما حاق بهم السوء، ولن يبخل الخديو بمعاونتهم لأنه يعطف على مطالبهم …

ولو صحَّ هذا الذي يرويه بلنت لكشف لنا عن جانب من ضعف توفيق، ذلك الذي يستعين بالضباط على وزيره؛ لأن يده كانت مغلولة عنه بسلطة الأجانب.

ولكن هذا الذي يذكره بلنت لم يرد ذكره فيما كتبه عرابي في مذكراته، ولا في ذلك الموجز الذي كتبه لبلنت فأثبته في آخر كتابه، وما كان عرابي ليسهو عن أمر كهذا لا يخفى ما له من أهمية.

وكذلك لم أقع على ذكر هذا الذي ينسب إلى الخديو فيما تناولته من الكتب التي عنيت بتفاصيل الحركة العسكرية، ولعل بلنت ينفرد بهذه الرواية.

على أن مسلك الخديو لو صحت الواقعة أمر لا يُستغرب، فقد استعان إسماعيل نفسه بالضباط على نوبار وزميليه من قبل، إذ عجز عن مناوأتهم مناوءة علنية خوفًا من الأجانب …

استُغْنِيَ عن عدد كبير من الجند الوطنيين في أوائل عهد توفيق حتى نزل عدد الجيش المصري عما اتفق عليه في بداية هذا العهد، وولي وزارة الجهادية في حكومة رياض عثمان رفقي الشركسي، وكأنما جعل هذا الوزير أساس سياسته الكيد للمصريين ما وسعه الكيد، فلقد راح يذيقهم من كيده ونكاله بقدر ما راح يفيض على الشراكسة من عطفه وإحسانه، ولم يكن ذلك عجيبًا من جانبه، ففي دمه ما في دم بني جنسه من بغض قديم للمصريين الذين كانوا في رأيهم فلَّاحين لا يصلحون إلا ليكونوا عبيدًا …

وكان طبيعيًّا أن يجعل هذا الوزير الشركسي أكثر الترقيات في الجيش للشراكسة، وأخذ عثمان رفقي يعدّ مشروع قانون يمنع به ترقية الجند من نحت السلاح لكي يبقى الشراكسة في الجيش هم العنصر الذي يسود.

أما عن كبار الضباط فقد بدأ يعزلهم أو يقصيهم عن مواضعهم، كما حدث في أمر أحمد عبد الغفار قائمقام السواري، إذ عزله رفقي وعيَّن مكانه أحد الشراكسة وهو شاكر طمازة، وكما حدث في نقل عبد العال حلمي إلى عمل في ديوان الوزارة ووضع شركسي مكانه طاعنٍ في السن لا كفاءة له؛ وهو خورشيد نعمان.

وأما عن الجند فقد كانت الحكومة تسخرهم في أعمال لا تمتُّ بصلة إلى الجندية كحفر الترع والزراعة في أرض الخديو وغير ذلك، ومما هو جدير بالذكر هنا أن عرابيًّا عارض معارضة شديدة في أن يعمل جنوده في حفر الرياح التوفيقي، وهذا بلا شك موقف من مواقف شجاعته، تلك الشجاعة التي يأبى خصومه أبدًا إلا أن يروها تهورًا، والتي نراها في أكثر الأحوال على خير ما تكون شجاعة أولي الحمية والإخلاص من الرجال، وأي مأرب كان لعرابي في مثل هذا الموقف وفيم تكون معارضته في أن يسخر جنده في مثل تلك الأعمال إذا لم يكن مبعثها الإنصاف والغيرة؟ وما يكون إنصافه وغيرته في موقف كهذا إلا بسالة وإقدامًا.

وكان رجال الجيش بوجه عام يحسون قلة عناية الوزارة بالأمور العسكرية، بل كانوا يلمسون إهمالها هذه الأمور في الوقت الذي أولت فيه شيئًا من عنايتها غيرها من المسائل …

ولو أن الوزارة عالجت هذه الحال بما يقتضيه العدل والإنصاف لما قدّر للحركتين: الوطنية، والعسكرية أن تمتزجا فيكون منهما تلك الثورة التي اقترنت باسم عرابي … لكن كان دون علاجها عقبات، فهناك تعصُّب رفقي وغطرسته، وجهل رياض بالشئون الحربية وترفُّعه عن هؤلاء الفلاحين من الجند، لأنه كان يترفع عن الفلاحين جميعًا، ثم هناك دسائس الشراكسة في الجيش وكيدهم للمصريين، ذلك الكيد الذي لم يكن يفتر …

علم عرابي بما أراده عثمان رفقي بكل من أحمد عبد الغفار وعبد العال حلمي قبل أن ينشر، إذ كان مدعوًّا إلى وليمة بدار أحد الباشوات، وقد أنبأه هناك أحد أصدقائه بما اعتزمه رفقي فقال عرابي غاضبًا: «إن هذه لقمة كبيرة لا يقوى عثمان رفقي على هضمها.» كما جاء في مذكراته، ويقول عرابي في تلك المذكرات: «وبعد تناول الطعام جاءني ضابط وأخبرني بأن كثيرًا من الضباط ينتظرونني بمنزلي فتوجهت إليهم في الحال فوجدت من ضمنهم الأميرالاي عبد العال بك حلمي حكمدار الآلاي السوداني الكائن مركزه في طره، والبكباشي خضر أفندي من الآلاي المذكور أيضًا، وعلي بك فهمي أميرلاي الحرس الخديوي بقشلاق عابدين والبكباشي محمد أفندي عبيد من الآلاي المذكور، والبكباشي ألفي أفندي يوسف من الآلاي الرابع البيادة حكمداريتي، والقائمقام أحمد بك عبد الغفار من الآلاي السواري وغيرهم. وكانوا جميعًا في هياج عظيم؛ إذ بلغهم صدور أوامر ناظر الجهادية قبل إرسالها إليهم، فلما رأوني أفضوا إليّ بما سمعته من نجيب بك وإسماعيل باشا كامل من قبل، فقلت لهم: قد سمعت هذا من غيركم فماذا تريدون؟ قالوا: وليس الأمر كذلك فقط، بل إنه قد كثر اجتماع العنصر الشركسي في منزل خسرو باشا الفريق، وهم يتذاكرون في تاريخ دولة المماليك في كل ليلة بحضور عثمان باشا رفقي ويلعنون خيري بك لتسليمه وإذعانه للسلطان سليم، ويقولون إنه قد حان الوقت لرد بضاعتهم إليهم، وإنهم لا يغلبون من قلة، وظنوا أنهم يملكون مصر ويستبدون بها كما فعل أولئك المماليك من قبل، ثم عقب الضباط بأنهم قد تحققوا صدق تلك الأنباء ممن يوثق بخبره، فقلت: وماذا تريدون إذن؟ فقالوا: إنما جئناك لنرى رأيك؟ فقلت: رأيي أن تطيبوا نفوسكم وتهدِّئوا روعكم وتعتمدوا على رؤسائكم وتفوضوا إليهم النظر في مصالحكم، وهم يتخذون من بينهم رئيسًا لهم يثقون به كل الثقة ويسمعون قوله ويطيعون أمره، ويحفظونه بمعاضدتكم إذا أرادت الحكومة به شرًّا، فقالوا كلهم: إنا فوَّضنا إليك هذا الأمر، فليس فينا من هو أحق به وأقدر عليه منك. فقلت: كلا، بل انظروا غيري وأنا أسمع له وأطيع وأنصح له جهدي، فقالوا: إنا لا نبغي غيرك ولا نثق إلا بك، فأبنت لهم أن الأمر عصيب ولا يسع الحكومة إلا قتل من يتصدى له، فقالوا: نحن نفديك ونفدي الوطن العزيز بأرواحنا. فقلت لهم: أقسموا لي إذن على ذلك فأقسموا. وفي الحال كتبت عريضة إلى رئيس النظار مصطفى رياض باشا مقتضاها الشكوى من تعصب عثمان رفقي باشا لجنسه وإجحافه بحقوق الوطنيين، وطلبت فيها أولًا: عزل ناظر الجهادية المذكور وتعيين غيره من أبناء الوطن عملًا بالقوانين التي بأيدينا، ثانيًا: تشكيل مجلس نواب من نبهاء الأمة تنفيذًا للأمر الخديوي الصادر عقب ارتقائه مسند الخديوية، ثالثًا: إبلاغ الجيش العامل إلى ١٨٠٠٠ تطبيقًا للفرمان السلطاني، رابعًا: تعديل القوانين العسكرية بحيث تكون كافلة للعدل والمساواة بين جميع الموظّفين بصرف النظر عن اختلاف الأجناس والمذاهب.

ثم تلوتُ العريضة المذكورة على مسامع الحاضرين فوافقوا عليها، وأمضيتها بختمي وختم علي بك فهمي وعبد العال بك حلمي، وبعد ذلك صار ترتيب ما يلزم لحفظ الخديو والعائلة الخديوية والوزراء إذا حدث أي حادث من الضباط الشراكسة مع ترتيب ما يلزم لحفظ البنوك وبيوت التجار الأجانب والوطنيين من مطامع الرِّعاع، وكذلك ما يلزم لحفظنا من بطش الحكومة إذا أرادت الإيقاع بنا، وانتهى الاجتماع على ذلك.»

ويتضح من اجتماع الضباط بمنزل عرابي على هذه الصورة وفيهم من لم ينلهم في أنفسهم شيء من الأذى أنَّ السخط على رفقي كان من كل قلب، وأن المسألة في حقيقتها كانت شعورًا قوميًّا تجاه تعصب هؤلاء الشراكسة وعلى رأسهم كبيرهم الذي يمكِّن لهم على حساب المصريين أو الفلاحين كما كانوا يسمُّونهم، وفي هذا أبلغ رد على الذين تشاء لهم أهواؤهم أو يدفعهم جهلهم إلى تشويه ما كان يدفع عرابيًّا إلى التمرُّد من نبيل الشعور، وذلك بقولهم: إنه كانت تحركه دوافع شخصية.

ويجدر أن نبين هنا لماذا انضمَّ إليهم رجل مثل علي فهمي وقد كان في حرس الخديو، والواقع أنه فعل ذلك نتيجة لسياسة رفقي كذلك، فقد وشى به رفقي عند الخديو حتى غيَّره عليه، وأحس فهمي أن مكانته عند توفيق لم تعد كما كانت، فانطوت نفسه على الضغن، وصمَّم على أن ينتقم من رفقي متى سنحت الفرصة، وما لبث أن أحس مثل ما كان يحسه عرابي من كراهية هؤلاء الشراكسة جميعًا، والتعصب للقومية المصرية، وهو بلا ريب نتيجة لتأثره بشخص عرابي بعد مصاحبته وتفطنه إلى ميوله وأفكاره.

يذكر عرابي في مذكراته هذه أنه قد جاء في الشكوى تشكيل مجلس نواب وزيادة عدد الجيش، ويذكر ذلك أيضًا في التاريخ الموجز الذي كتبه عن نفسه وأثبته بلنت في آخر كتابه، ولكني لم أقع في مصدر آخر على أن العريضة احتوت المطالبة بتشكيل مجلس نيابي وزيادة عدد الجيش، ولقد علق بلنت على ذلك قائلًا: «أظن أن عرابيًّا قد وقع هنا في خطأ فخلط بين ما احتوته العريضة وبين هذين المطلبين اللذين جاءا فيما بعد يوم ٩ سبتمبر، ولكن عرابيًّا أصر على أن المطالب الثلاثة جاءت أول ما جاءت في فبراير، وأنها كتبت يومذاك.» وقد عرض بلنت ما كتبه عرابي عن تاريخ حياته على الشيخ محمد عبده سنة ١٩٠٣ في منزله بعين شمس، فأقرّ أكثره ولكنه وضع ملاحظاته على بعضه، ومنه محتويات تلك الشكوى. ويؤكد الشيخ محمد عبده أنه لم يكن في تلك الشكوى أية إشارة إلى تشكيل مجلس نواب أو إلى زيادة عدد الجيش.

ويقول كرومر في كتابه «مصر الحديثة»: «لقد جاء في العريضة أن وزير الحرب عثمان باشا رفقي عامل الضباط المصريين في الجيش معاملة غير عادلة فيما يتصل بالترقية، وقد سلك في ذلك مسلكًا كما لو كان هؤلاء أعداءه، أو كما لو أن الله قد أرسله ليصبَّ غضبه على المصريين. وقد طرد الضباط من فرقهم بغير تحقيق قانوني، وعلى ذلك فقد طلب الشاكون مطلبين: أولهما أنه يجب إقصاء وزير الحرب لأنه غير كفؤ لهذا المنصب العالي، وثانيهما أنه يجب أن يجري تحقيق يتناول مبلغ كفاءة الذين ظفروا بالرقي.»

هذا ما ذكره كرومر عن محتويات الشكوى، ولو أنه كانت بها إشارة إلى ذينك المطلبين اللذين أشار إليهما عرابي ما أغفلهما كرومر لما يكون لمثلهما من خطر في ذلك التاريخ الذي يكتبه …

ويقول الأستاذ عبد الرحمن الرافعي في كتابه «الثورة العرابية»: «ويلوح لنا أن ورود هذه المطالب كلها في عريضة الضباط أمر مبالغ فيه ومشكوك في صحته، فالمستر بلنت — وقد قص له عرابي واقعة قصر النيل — يقول: إن العريضة كانت مقصورة على عزل عثمان باشا رفقي من منصبه، والشيخ محمد عبده ينفي رواية عرابي ويقول إن العريضة تتضمن الشكوى من الحيف الذي وقع بالضباط من عثمان رفقي وطلب عزله، وإنه لم يرد بها أية إشارة إلى الدستور أو إلى زيادة الجيش إلى ١٨٠٠٠ جندي. وقال علي باشا فهمي في استجوابه إن العريضة مقصورة على طلب عزل عثمان رفقي. وذكر البارون دي رنج قنصل فرنسا العام في مصر في رسالته عن واقعة قصر النيل أن العريضة مقصورة على إعادة قائمقام الفرسان.» ويرى الأستاذ الرافعي أن عرابيًّا «حين كتب مذكراته بعد وقوع حوادثها بسنين خلط بين مطالب الضباط في واقعة قصر النيل ومطالبهم بعد انتصارهم فيها».

وأنا أميل إلى ما ذهب إليه الرافعي، وأحس أن عرابيًّا لم يعن بالدقة في بعض تفاصيل هذا الحادث ومنها ما احتوته العريضة، فقد ذكر في ذلك التاريخ الموجز الذي كتبه لبلنت بناءً على طلبه أنه علم في بيت نجم الدين باشا أن عثمان رفقي كان ينوي عزله وعزل عبد العال، وهذا يخالف ما جاء في مذكراته، وكذلك جاء في ذلك الموجز أن عبد العال اقترح عليه حينما وافاه ومن معه في منزله الذهابَ إلى بيت عثمان رفقي والقبض عليه أو قتله، وأنه رد على عبد العال قائلًا: «كلا، بل نشتكي إلى رئيس الوزراء، فإن لم يقبل فإلى الخديو.»، وهذا أيضًا يخالف ما جاء في المذكرات، ومنه يحسّ المرء أن عرابيًّا كان يكتب من ذاكرته أحيانًا، ولذلك كان يختلط عليه الأمر في بعض المسائل.

ومهما يكن من أمر محتويات العريضة، فالذي تكاد تتفق عليه الروايات أن الضباط طالبوا بعزل عثمان رفقي من منصبه، وليس هذا بالأمر الهين، بل إنه لجرأة عظيمة في عهد كذلك العهد …

يذكر عرابي في مذكراته أنه بَيَّنَ للضابطَيْن خطورة الحركة، ولكنهما أصرّا عليها فطلب إليهما أن يقسما أمامه أن يخلصا له النية، ولنا أن نتساءل هنا: لم اختير عرابي قائدًا لهذه الحركة دون غيره، وقد كان فهمي في حرس السراي وله صلات برجال الحاشية، ولم يكن عبد العال دون عرابي مرتبة وخبرة؟ لم عقد الضباط اجتماعهم في داره وأرسلوا يطلبونه وقد نمى إليهم مما يدبر رفقي ما نمى؟

إن اختيار رجل من الرجال دون غيره لقيادة حركة من الحركات أمر ينطوي لا ريب على معنى، فما ولدت الزعامة في الغالب إلا على هذه الصورة، ففي ذلك الرجل توجد صفات يتميَّز بها من سواه فتجتمع عليه القلوب والأهواء في لحظة لا يكون للتنافس الشخصي فيها مجال، وهذا في رأيي من أفضل مقاييس الزعامة، وبخاصة إذا كان من يُختار معروفًا من قبل لمن يختارونه، فلا يكون إقبالهم عليه إعجابًا وقتيًّا لا يلبث أن يتبيّن خطأهم فيه.

ولن يشذ عرابي عن هذه القاعدة، فإنما اختاره الضباط لما عرفوا فيه من صفات الجرأة والحماسة والإخلاص، ولما عهدوا ما عليه من الصدق وحسن الطوية، هذا إلى أنه كان يفوقهم من ناحية لا غنى عنها لزعيم من الزعماء ألا وهي فصاحة اللسان، فلقد كان هذا الرجل الذي جعل الجهل في مقدمة عيوبه أفصح الضباط لسانًا، ولقد كانت الخطابة إحدى مواهبه حتى ليعد من أخطب رجال ذلك العهد، لا في الجيش فحسب، بل بين المواطنين جميعًا …

وامتاز أحمد عرابي بشيء آخر لعله خير ما امتاز به، وذلك أنه كان أكثر المصريين في الجيش سخطًا على الشراكسة وأشدهم نفورًا منهم، وأعظمهم اعتزازًا وشعورًا بقوميته، وهذا لعمري ما سوف يظلُّ التاريخ يذكره عن هذا الرجل الذي جهله أكثر بني قومه زمنًا طويلًا، وما ستظل الأجيال تزداد منه وثوقًا حتى يغدو هذا المصري الفلاح من أحبّ زعماء مصر إلى قلوب أهل مصر …

وما كان اضطغان عرابي على الشراكسة لدافع شخصي، فهو مصري قبل كل اعتبار، وما يلحقه من أذى أو احتقار على أيدي هؤلاء إنما يناله رجلًا ويناله مصريًّا في وقت واحد، ولم يقف سوء معاملاتهم عنده حتى يقال إنه غضب لما لحقه، وإنما كانت سياسة الشراكسة تعصبًا لجنسهم على حساب المصريين، فكان هذا الضابط المصري أكثر أقرانه من المصريين نخوة وأعزّهم نفسًا، وفضلًا عن هذا كله فقد حظي عرابي نفسه في أوائل عهد توفيق بالرقي إلى مرتبة أميرالاي، وكان ذلك كفيلًا أن يزيل ما عسى أن يكون قد بقي في نفسه مما لحقه من أذى في عهد إسماعيل.

أعد الضباط عريضة بمطالبهم، ووقع عليها عرابي وزميلاه، وذهب ثلاثتهم فرفعوها إلى رياض باشا في منتصف يناير سنة ١٨٨١، وإنهم ليعلمون ما كان ينطوي عليه هذا العمل من جرأة في ذلك الوقت، وكان عرابي هو الذي يتكلم باسم زميليه وباسم الضباط جميعًا، كما كان سعد يتكلم حينما ذهب مع زميلين له كذلك في مستهل الثورة الثانية إلى مقر المعتمد البريطاني يرفع مطالب مصر عقب الهدنة التي ختمت بها الحرب العالمية الأولى …

وكان رياض يكره تقديم العرائض مهما كان من عدالة ما تحتوي من المطالب، وكان يلقي في السجن أو يحكم بالنفي على من يخطون مثل هذه الخطوة، كما حدث للسيد حسن موسى العقاد؛ فقد نفي إلى السودان لأنه انتقد إلغاء قانون المقابلة في الصورة التي جاءت بها لجنة التصفية، وكما حدث لكثيرين غيره ممن أخرجوا من مصر بسبب آرائهم الحرة.

وقابل رياض الضباط مغيظًا محنقًا، وخاطبهم في كبرياء وغلظة كما يقول عرابي، فقال لهم فيما قال: «إن أمر هذه العريضة مهلك، وهو أشد خطرًا من عريضة أحمد فني الذي أرسل إلى السودان.»

وكان هذا الفتى قد نُفِيَ كذلك لأنه طلب المساواة في المعاملة بغيره من موظفي الديوان محتجًّا على ما كان يجري من صور المحسوبية، وقد قضى في منفاه نحبه.

يقول عرابي: «فأجبته بأننا لم نطلب إلا حقًّا وعدلًا، وليس في طلب الحق من خطر؛ وإنا لنعتبرك أبًا للمصريين، فما هذا التلويح والتخويف؟ فقال: ليس في البلاد من هو أهل لأن يكون عضوًا في مجلس النواب، فقلت له: إنك مصري وباقي النظَّار مصريون والخديو أيضًا مصري، أتظن أن مصر ولدتكم ثم عقمت؟ كلا فإن فيها العلماء والحكماء والنبهاء، وعلى فرض أن ليس فيها من يليق لأن يكون عضوًا في مجلس النواب، أفلا يمكن إنشاء مجلس يستمد من معارفكم ويكون كمدرسة ابتدائية تخرِّج لنا بعد خمسة أعوام رجالًا يخدمون الوطن بصائب فكرهم، ويعضِّدون الحكومة في مشروعاتهم الوطنية؟ فانبهر وكأنما كبر لديه ما سمعه منا، ثم قال: سننظر بدقة في طلباتكم هذه، فانصرفنا على ذلك.»

ويتضمن كلام عرابي هذا أنه طالب بمجلس للنواب، ولكنّ بلنت يورد الحادث في كتابه على صورة أخرى قائلًا إنه يورده كما علمه من عرابي، قال عرابي في رواية بلنت ما ترجمته: «ذهبنا بعريضتنا إلى وزارة الداخلية، وطلبنا أن نقابل رياضًا فأدخلنا حجرة خارجية ودخلنا ننتظر حتى قرأ الوزير العريضة في حجرة داخلية، ثم ما لبث أن جاء إلينا يقول: إن عريضتكم مهلكة، ماذا تطلبون؟ أتطلبون تغيير الوزارة؟ وماذا تضعون مكانها، ومن تقترحون ليدير شئون الحكومة؟ وأجبته قائلًا: يا سعادة الباشا، هل مصر امرأة ولدت ثمانية أبناء ثم عقمت، وقد أردته بهذا والوزراء السبعة تحت إمرته.»

واشتد غضب رياض لمطالبة الثائرين بعزل عثمان رفقي؛ فقد رأى في هذا الطلب نوعًا من التمرُّد الجريء؛ إذ ما دخل الجيش في سياسة الحكومة حتى يطالب بعزل وزير من الوزراء، وكانت الحكومة لا ريب محقة في هذا الغضب، ولكنها لم تسلك إزاء هذه الحركة ما كانت تقتضيه السياسة الرشيدة، فكان عليها أن تنظر في مطالب الجيش فتجيب منها ما يزيل أسباب الشكوى، ثم تقنعهم بعد ذلك بأن ليس من حقهم المطالبة بعزل رفقي.

سكت رياض أسبوعين وهو يحاول إقناع الضباط بسحب العريضة ولكنهم يصرون عليها، وغضب الخديو أشدَّ الغضب وأشار عليه بعض المحيطين به باتِّباع العنف نحو الضباط، ثم نمى إلى رياض أن سكوته قد يفسَّر بأنه ممالأة للجيش وعدم موالاة للخديو، ويقول بلنت في كتابه: إن الخديو من ناحيته أراد أن ينتهز هذا الحادث للانتقام من رياض فيوقع العداوة والشحناء بينه وبين رجال الجيش، وكان من رأي رياض ألا يجعل من المسألة قضية تتجه إليها أذهان الناس، كما أن رفقيًا كان يخشى أن تُظهر المحاكمة سوء سياسته.

ولما فطن رياض إلى ما قد يفسر به سكوته وافق على محاكمة الضباط، ووقَّع الخديو على أمر بمحاكمتهم، ودعى وزير الجهادية الضباط الثلاثة إلى ديوان الجهادية بقصر النيل بحجة الاستعداد لحفلات زفاف إحدى الأميرات، فأخذتهم من الدعوة ريبة؛ إذ لم تجر العادة بمثل هذا، وأخذوا للأمر ما يجب من حيطة، فاتفقوا مع فرقهم أن تذهب إليهم إذا تأخرت عودتهم عن ساعتين، ثم ذهبوا إلى حيث طلب إليهم أن يحضروا …

وكان الضباط في الواقع على علم بما دبّر لهم، فلم يكن من العسير عليهم في مثل ذلك الموقف أن يدركوا ما عسى أن تبيِّته لهم الحكومة من كيد، ولقد قيل إن قنصل فرنسا كان على اتصال بهم فأخبرهم بما عقدت الحكومة النيَّة عليه.

وما كاد ثلاثتهم يدخلون وزارة الجهادية، وكان ذلك أول فبراير سنة ١٨٨١ حتى أَلْفَوْا أنفسهم بين صفوف مسلحة من الشراكسة فقبض عليهم وانتزعت منهم سيوفهم وأودعوا السجن وهم يسمعون عبارات السب والشماتة يقذفهم بها هؤلاء الشراكسة الأجلاف، وكانت كلمة «فلاح» أكثر ما أطلق به ألسنتهم هؤلاء السفهاء من الشراكسة، وقد ساء وقعها في نفوس الضباط الثلاثة، وفي نفس كل من علم بها من المصريين. وكان دخولهم السجن توطئة لمحاكمتهم؛ فقد انعقد لهم مجلس عسكري يحاكمهم برئاسة رفقي نفسه.

وعين رفقي ثلاثة غيرهم على آلاياتهم؛ فأحل محمود طاهر محل عرابي، وخورشيد نعمان محل عبد العال حلمي، وخورشيد بسمي محل علي فهمي، وعمل رفقي على تنفيذ هذا الأمر ساعة صدوره …

•••

شاع الخبر في الجند الوطنيين فثارت ثائرتهم، وكان أكثرهم جرأة وإقدامًا ووفاءً الضابط الباسل محمد عبيد بطل التَّلّ الكبير فيما بعد، وكان في آلاي علي فهمي بقشلاق الحرس بعابدين، فنادى جنده نداءه العسكري فاحتشدوا، فأمرهم بالسير إلى قصر النيل، فاعترضه خورشيد بسمي ذلك الذي حل محل فهمي؛ فلم يستمع محمد عبيد إليه، بل لقد اعتقله في إحدى حجرات القشلاق، وشهد الخديو تأهُّبَ الجند للمسير؛ فأرسل إليهم الفريق راشد باشا حسني سير ياوره ليصدهم عن سبيلهم فيما استمعوا له، وأرسل توفيق يستدعي عبيدًا وبعض إخوانه فرفضوا أن يذهبوا إليه …

وأحكم عبيد الهجوم على قصر النيل، ولاذ رفقي بالهرب من إحدى النوافذ في صورة مخزية، وهرب أعضاء محكمته، واعتدى الجند على أفلاطون باشا وستون باشا وبعض من صادفهم من الضباط الأجانب، وما زال عبيد يبحث عن الضباط الثلاثة هو وجنوده، وراحوا يحطمون الأبواب والنوافذ حتى عثروا عليهم؛ ففك عبيد قيودهم وأطلق سراحهم …

وتحرك آلاي طرة قاصدًا قصر النيل، واستمرَّ رجاله في سيرهم على الرغم من أنهم علموا أن الضباط الثلاثة قد أُخْلِيَ سبيلهم، وعلى الرغم من أن الخديو أرسل لقائدهم خضر أفندي خضر ينهاه عن الحضور، وتوجَّه خضر إلى عابدين وقد علم أن عرابيًّا وصاحبيه قد ساروا إلى هناك.

ولم يتخلف إلا آلاي العباسية وهو آلاي عرابي نفسه، وقد ندموا بعد ذلك على قعودهم، وأقبل بعضهم على بعض يتلاومون، ثم جاءوا عشاءً إلى عابدين؛ فألقوا معاذيرهم بين يدي عرابي، وأكدوا له الولاء.

ويحسن أن نورد هنا ما وصف به عرابي موقفه هو وزميليه بعد أن دخلوا السجن قال: «ولما أقفل علينا باب الغرفة تأوَّه رفيقي علي بك فهمي وقال: لا نجاة لنا من الموت وأولادنا صغار، ثم اشتدّ جزعه حتى كاد يرمي بنفسه في النيل من نافذة الغرفة؛ فشجعته متمثلًا بقول الإمام الشافعي (رضي الله عنه):

ولرب نازلة يضيق بها الفتى
ذرعًا وعند الله منها المخرجُ
ضاقت فلما استحكمت حلقاتها
فرجت وكان يظنها لا تُفرجُ

وتمثَّل عرابي بأبيات أخرى نسبها إلى السيدة زينب رضي الله عنها إلى أن قال: «فلا والله ما كانت إلا هنيهة حتى جاءت أورطتان من آلاي الحرس الخديوي وأحدق رجالهما بديوان الجهادية وأسرع بعض الضباط والعساكر فأخرجونا من السجن، ففرَّ ناظر الجهادية ورجال المجلس وغيرهم من المجتمعين، وقصدوا جميعًا إلى سراي عابدين …»

وإنما نورد هنا ما ذكره عرابي لأنه من جهة يصوِّر لنا جانبًا من شخصيته وناحية من ثقافته، ويرينا نزعة اتِّكاله على الله، تلك النزعة التي سوف لا تنخلع عنه حتى بعد أن تنخلع عنه عزيمته عند انصراف أنصاره عنه عقب مأساة التَّلِّ الكبير، ثم لأن كلامه من جهة أخرى متفق مع ما يقول الرواة، فلا ضير أن نورد القصة على لسانه.

•••

ذهب الضباط الثلاثة ومن ورائهم من أخرجوهم من الأسر إلى الخديو يُسمعونه شكواهم، وكان بعض أعوان الخديو يشيرون عليه بأخذهم بالشدة ومعاملتهم معاملة الثائرين ولو أدى الأمر إلى إطلاق النار عليهم، وقال البعض إنه من العبث أن تلجأ الحكومة إلى البطش وليس لديها وسائله، فالفرق جميعًا تؤيد عرابيًّا ومن معه. والرأي أن يسلك الخديو معهم جانب اللِّين فيطفئ بذلك نار الفتنة، وكان ممن أشاروا بهذا الرأي محمود سامي البارودي الذي سوف يغدو من زعماء العرابيين …

وتغلبت الحكمة على الطيش، ووضع اللين في موضع البطش، فأوفد الخديو إلى الضباط الثلاثة ومن ظاهرهم من الجند تحت نوافذ قصره يخبرهم بإجابته مطلبهم الأول فقد عزل رفقي، وطلب إليهم أن يختاروا من يحل محله حتى لا يعودوا إلى الشكوى؛ فوقع اختيارهم على البارودي، ووعدهم الخديو أن ينظر في بقية مطالبهم، وأن يعمل على إنصافهم بعد أن أعادهم إلى مناصبهم والتمس الضباط الإذن على الخديو، فلما مثلوا بين يديه أعربوا له عن امتنانهم وصادق ولائهم لشخصه وعظيم إخلاصهم لعرشه، ثم انصرفوا وانصرف الجند فرحين مستبشرين.

ولقد كان على الخديو أن يتدبر في الأمر منذ بدايته وينظر ما إذا كان لديه قوة يقمع بها الحركة إن كان لابد من وضع العنف موضع العدل، فإنْ عدِم القوة كان أمامه أن يلجأ إلى اللين غير مكره ولا مغلوب على أمره، ولكنه تصرف على نحو ما رأينا فأفضى به تصرفه إلى نتائج خطرة وسوف تؤثر أثرها في مجرى الحوادث، فظفر الجند بمطالبهم في عنف. وعجزُ الحكومة عن مقاومتهم وسلوكها ذلك المسلك الشائن قد وضع الخديو وحكومته في موضع الضعف، وأحل عرابيًّا وحزبه محل التوثب والتطلُّع، وجعلهم مناط الأمل والرجاء، هذا إلى ما تركه هذا الحادث من سخيمة في نفس الخديو يصعب بعدها كلُّ تفاهم، ويسهل أن يلبس فيها كل حق بالباطل، وما بثَّه من حذر وريبة في نفوس الجند بحيث يرون في كل حركة من حركات الحكومة شبح الغدر ويلبسان كل عمل من أعمالها ثوب الرياء …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤