المسألة الثانية والمائة

لِمَ اشتد عشق الإنسان لهذا العالم حتى لَصِقَ به وآثره وكَدَحَ فيه مع ما يرى من صُرُوفه وحوادثه ونكباته وغِيَره وزواله بأهله؟

ومن أين استفاد الإنسان هذا العَرَض؟

الجواب

قال أبو علي مسكويه، رحمه الله:

وكيف لا يشتد عِشقه للعالم وهو طبيعي وجزءٌ له؟ إنما مبدؤه منه، ومنشؤه فيه، وتولُّده عنه، ألا تراه يبتدئ وهو نطفةٌ فينشأ نُشُوء النبات؟ أعني أنه يستمد غذاءه بعُروق موصولةٍ برحم أمه فيستقي المادة التي تُقِيمه كما تستقي عروق الشجر، فإذا تم وصار خلقًا آخر، وأنشأه الله تعالى حيوانًا أخرجه من هناك، فحينئذٍ يغتذي بفمه ويتنفس فيصير في مرتبة الحيوان غير الناطق، ولا يزال كذلك إلى أن يقبل صورة النطق أولًا فيصير إنسانًا، ثم يتدرج في إنسانيته حتى ينتهي إلى غاية ما يؤهَّل له من المراتب فيها، وليس ينتهي إلى الرتبة الأخيرة التي هي غاية الإنسانية إلا الأفراد من الناس والواحد بعد الواحد في الأزمنة الطوال والفترات الكثيرة، وعامة الخلق وجمهور الناس واقفون في منزلة قريبة من البهيمية، وغاية نطقهم وتمييزهم أن يرتِّبوا تلك البهيمية ترتيبًا ما فيه نظامٌ عقلي، وأما أن يفارقوها ويصيروا إلى الحد الذي طالبتَ به فلا، وإنما يصير إلى هناك الحكيم التام الحكمة الذي يستوفي جميع أجزائها علمًا وعملًا، أو نبيٌّ له تلك المنزلة بالإلهام والتوفيق، ثم لا بد من المادة البشرية التي يأخذها من هذا العالم، وإن كان بلا عشقٍ ولا لُصُوق شديدٍ ولا إيثارٍ.

وهذا المعنى واسع البحر، طويل الميدان، قد أكثر فيه الناس، وفيما أومأتُ إليه وصرَّحتُ به كفايةٌ، والسلام.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤