المسألة الخامسة والمائة

لِمَ إذا كان الواعظ صادقًا نجع كلامه، ونفع وعظه، وسهُل الاقتداء به، وخفَّت الطاعة له والأخذ بما قاله؟

ولِمَ إذا كان بخلاف ذلك لَمْ يؤثِّر كلامه وإن راق، ولا ينفع وعظه وإن بلغ؟

وما في انسلاخه من حقيقة ما يقول مع حقيقة القول وصحة الدلالة وسطوع الحجة؟

وكيف صار فعله مُشيدًا لقوله، وخلافه موهِنًا لدلالته؟ أليست الحكمة قائمةً في نفسها مستقلةً بصحتها؟ ولهذا قيل: الموعظة إذا خرجت من القلب وقعت في القلب، وإذا خرجت من اللسان لم تجاوز الآذان.

الجواب

قال أبو علي مسكويه، رحمه الله:

لأن الواعظ إنما يأمر بما عنده أنه الأصوب، فإذا خالف نفسه أوهم غيره أنه كذَب وغش، وإنما نهى عن الدنيا لتُتْرَك له وتُوفَّر عليه، وظنَّ مَنْ عجز عن رتبته، وسقط عن بلوغ درجته في النظر أنه إنما يقتدر على الوعظ بحُسْن اقتداره على التلبيس، وإظهار المُمَوَّه في صورة الحق، ولو اعتقد ما يظهر بلسانه لعمل بحَسبه، فهذا وأشباهه يعرض في قلب المستمع لوعظ مَن لا يعمل بوعظه.

هذا، وربما كان أكثر من تراه من الواعظين هو بالحقيقة غير معتقدٍ لِمَا يُظهره، وإنما غايته أن يشغل الناس عما في أيديهم، أو لتتم له رئاسة باجتماع الناس إليه أو لأرب له من الدنيا، فأيُّ موقعٍ لكلام مثل هذا إذا عرف الموعوظ غايته وأشرف على نيته ومذهبه.

والأمر بالضد فيمن عمل واجتهد، وأخلص سرَّه، ووافق عملُه عِلْمَه وقولُه نيتَه؛ فإنه يصير إمامًا يُقتدى به، ويُوثَق بكلامه، ويكثُر أتباعه، والناظرون فيما ينظر فيه، والمصدِّقون بحكمه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤