المسألة الثامنة والمائة
ما السبب في أن الناس يقولون: هذا الهواء أطيب من ذلك الهواء، وذلك الماء أعذب من ذلك الماء، وتربة بلد كذا وكذا أصلب من تربة كذا، وطين مكان كذا أنعم من طين مكان كذا وأعفن وأسبخ؟ ثم لا يقولون في قياس هذا: بلد كذا ناره أجود وأحسن وأصفى، أو أشد حرًّا وإحراقًا وأعظم لهيبًا، بل يصرفون هذه الصفات على اختلاف المواد كأنها في الحطب اليابس أبيَن سلطانًا، وفي القطن المنفوش أسرع نفوذًا؟
الجواب
قال أبو علي مسكويه، رحمه الله:
إن الأركان الأربعة وإن اشتركت في أن بعضها يأخذ قوة بعض بالأقل والأكثر حتى يكون بعضها أخلص في صورته ونوعه من بعض؛ فإن النار من بينها خاصةً أقلُّ قبولًا لقوة غيرها وأعسر ممازجةً؛ وذلك أن صورة النار غالبةٌ على مادتها.
وبيان هذا أن الأرض تقبل من ممازجة الماء والهواء ما تستحيل به عن صورتها الخاصة بها حتى تصير منها الحمأة والملح وضروب الأشياء التي تختلف بها التُّرَب، وكذلك الماء يقبل من الأرض التي تجاوره، والهواء الذي يليه ضروب الطُّعوم والأراييح، والصفاء والكدر حتى يخرج من صورته الخاصة به خروجًا بيِّنًا، وهذه حال الهواء في قبول الآثار من الأرض والماء حتى يصير بعضه غليظًا وبعضه رطبًا ويابسًا ومعتدلًا، فتظهر في هذه الثلاثة آثار بعضها في بعض حتى تتبين للحس بيانًا ظاهرًا، وتنقُص آثار بعضها عن بعض حتى يحكم كل إنسان بخروجه عن اعتداله، وخروجه عن اعتداله سبب الاسْتِضْرَار البيِّن في الأبدان.
فأما النار فإن صورتها الخاصة بها غالبةٌ على مائيتها حتى لا تقبل من المزاج ما يظهر للحس منه نقصان أثرٍ من الإحراق الذي هو فعلها أو الضوء الذي هو خاصتها.
وعلى أن النار أيضًا قد تقبل من المزاج ومجاورة ما تليه أثرًا ما ولكنه — بالإضافة إلى الآثار التي تقبلها أخواتها — يسيرٌ جدًّا، مثال ذلك أن النار التي مادتها النِّفْط الأسود والكبريت الصِّرف، لونها بخلاف لون النار التي مادتها الزيت الصافي ودهن البنفسج الخالص؛ لأن تلك حمراء وهذه بيضاء، ولكن الفعل المطلوب من النار للجمهور غير ناقص، أعني الإحراق والضوء، وإن نقص بحسب المواد فإن تلك الحال منها مشتركةٌ في البلدان كلها لا تخُصُّ بعضها دون بعض، وإذا حصل للناس أغراضُهم من أفعال النار تبلَّغوا به إلى حاجاتهم ولم ينظروا في المواد التي تخص البلدان، لا سيما والمواد متفقةٌ فيها، وليست هكذا أخوات النار.