المسألة الثانية عشرة والمائة

لِمَ إذا كان الإنسان بعيدًا عن وطنه ومسقط رأسه وملهى عينه ومضطجع جنبه ومطرب نفسه ومعدن أُنْسه يكون أخمد شوقًا، وأقل قلقًا، وأطفأ نائرةً، وأسلى نفْسًا، وألهى فؤادًا، حتى إذا دنت الديار من الديار، وقوِيَ الطمع في الجوار نَفِد الصبر، وذهب القرار، وحتى قال الشاعر:

وأعظم ما يكون الشوق يومًا
إذا دنت الديار من الديار

وهل هذا معنًى يعُمُّ أو يخُصُّ؟ وما علَّته؟ وهل له علة؟

الجواب

قال أبو علي مسكويه، رحمه الله:

هذا المعنى موجودٌ في الأشياء الطبيعية أيضًا مستمرٌّ فيها؛ وذاك أنك لو أرسلتَ حجرًا من موضع عالٍ إلى مركزه لكان يبتدئ بحركته، وكلما قرُب من مركزه احتدَّت الحركة وصارت أسرع إلى أن تصير عند قُرْبه من الأرض على أحدِّ ما تكون وأسرعه، وكلما كان الموضع الذي يُرسَل منه الحجر أعلى كان هذا المعنى فيه أبين وأظهر، وكذلك حكْم النار والعناصر الباقية إذا أُرسِلَت من غير أمكنتها الخاصة بها فإنها كلما قرُبت من مراكزها اشتدت حركتها ونزاعها.

ومثل هذه المواضع لا يُسأل عنها بِلِمَ؛ لأنها أوائل طبيعيةٌ وغايتنا فيها أن نعرفها ونعلم أنها كذلك، وكذلك حال النفس في أنها إذا كانت بعيدةً من مأْلَفِها كان نزاعها أيسر، فكلما دنت منه اشتد نزاعها وحركتها التي تُسمَّى شوقًا.

وإنما قلتُ: إن هذه المواضع لا يُبحَث عنها بِلِمَ؛ لأن لِمَ إنما يُبحث بها عن طلب علةٍ ومبدأ، وهذه مبادئ في أنفُسها وليس لها علةٌ أكثر من أن الأمور أنفسها كذلك، أي مبادئها هي أنفسها، ولم تكن كذلك لعلة أخرى، مثال ذلك: لو أن قائلًا قال: لِمَ صارت العين تُبصِر بهذه الطبقات من العين؟ ولِمَ صارت ترى الشيء بحسب الزاوية التي بينها وبين المبصَر: إن كانت كبيرةً فكبيرة وإن كانت صغيرةً فصغيرة؟ أو سأل: لِمَ صارت الأذن تُحِسُّ باقتراع الهواء على هذا الشكل؟ لَمْ يلزم الجواب عنه لأن الأشياء الواضحة التي هي أوائل إنِّيَّاتها هي لِمِّيَّاتها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤