المسألة الثانية والعشرون والمائة

رأيتُ سائلًا سأل فقال:

ما بال أصحاب التوحيد لا يُخبِرون عن الباري إلا بنفي الصفات؟

فقيل له: بيِّنْ قولك وابْسُطْ فيه إرادتك.

قال: إن الناس في ذِكْر صفات الله تعالى على طريقتين: فطائفةٌ تقول: لا صفات له كالسمع والعلم والبصر والحياة والقدرة، لكنه مع نفي هذه الصفات موصوفٌ بأنه سميعٌ بصيرٌ حيٌّ قادرٌ عالِم.

وطائفة قالت: هذه أسماءٌ لموصوف بصفات هي العلم والقدرة والحياة، ولا بد من إطلاقها وتحقيقها.

ثم إن هاتين الطائفتين تطابقت على أنه عالِمٌ لا كالعالِمين، وقادر لا كالقادرين، وسميع لا كالسامعين، ومتكلم لا كالمتكلمين.

ثم عادت القائلة بالصفات على أن له علمًا لا كالعلوم، واتكأت على النفي في جميع ذلك.

وكانت الطائفتان في ظاهر الرأي مثبتةً نافيةً معطية آخذة، إلا أن يُبَيَّن ما يزيد على هذا.

هذا آخر المسألة، والجواب عنها حرفان، مع الإيجاز إن ساعد فهمٌ، وتبسيطٌ مع البيان إنْ احتيج إليه في موضعه إن شاء.

الجواب

قال أبو علي مسكويه، رحمه الله:

أما قولك: الجواب عنها حرفان مع الإيجاز فهو قريب مما قلتَ، وذاك أن كل صفةٍ وموصوفٍ يقع عليه وهمٌ، وينطلق به لسانٌ فهو جُودٌ من الله تعالى، وإبداعٌ له، ومَنٌّ منه امتنَّ به على خلْقه، وليس يجوز أن يُوصَف الله تعالى بما هو مُبْدَعٌ ومخلوقٌ له.

فهذا مع الإيجاز كافٍ، ولا بد من أدنى بَسْطٍ وبيانٍ فنقول:

إن البرهان قد قام على أن البارئ الأول الواحد هو — عز اسمه — متقدِّم الوجود على كل معقول ومحسوس، وأنه أولٌ بالحقيقة، أي ليس له شيءٌ يتقدمه على سبيل علةٍ ولا سببٍ ولا غيرهما. وما ليس له علةٌ تتقدمه فوجوده أبدًا، وما وجوده أبدًا فهو واجب الوجود، وما كان كذلك فهو لم يزل، وما لم يزل فليس له علة، فليس بمتركِّب ولا متكثِّرٍ؛ لأنه لو كان مركَّبًا أو كان متركِّبًا لكان قد تقدَّمه شيء؛ أعني بسائِطَه أو آحاده، وقد قلنا إنه أولٌ لم يتقدمه شيء فإذن ليس بمركَّب ولا متكثِّرٍ.

والأوصاف التي يُثبتها له من يُثبتها ليس تخلو من أن تكون قديمةً معه أو مُحْدَثةً بعده.

ولو كانت قديمةً معه موجودةً بوجوده لكان هناك كثرةٌ، ولو كانت كثرةٌ لكانت لا محالة متركِّبة من آحاد، ولو كانت الآحاد متقدِّمةً، أو الوَحْدَة — سيما التي تركبت منها الآحاد — والكثرة متقدِّمةً لم يكن أولًا، وقد قلنا إنه أول.

ولو كانت أوصافه بعده لكان خاليًا منها فيما لم يزل وخلصت له الوحدة، وإنما حدث له ما حدث عن سببٍ وعلة — تعالى الله وجلَّ عما يقولون المُبْطِلون — وقد قلنا إنه لا سبب له ولا علة.

•••

وأما إطلاقنا ما نطلقه عليه من الجود والقدرة وسائر الصفات، فلأن العقل إذا قَسَمَ الشيء إلى الإيجاب والسلب، أو إلى الحسَن والقبيح، أو إلى الوجود والعدم، وجب أن ينظر في كل طرفين فينسُب الأفضل منهما إليه، إن كنا لا محالة مشيرين إليه بوصفٍ مثلًا، كأنا سمعنا بالقدرة والعجز وهما طرفان، فوجدنا أحدهما مدحًا والآخر ذمًّا، فوجب أن نَنْسُبَ إليه ما هو مدحٌ عندنا، وكذلك نفعل في الجود وضده، والعلم وخلافه.

ومع ذلك فينبغي ألا نقيس على هذا القدْر أيضًا إلا إذا كان معنا رخصةٌ في شريعة أو إطلاقٌ في كتابٍ مُنزَّلٍ، لئلا نبتدع له من عندنا ما لم تَجْرِ به سُنَّةٌ أو فريضةٌ ونحذر كل الحذر من الإقدام على هذه الأمور.

ولأنَّا ضمِنَّا ترك الإطالة في جميع أجوبة هذه المسائل فلنقتصر على هذا النَبْذ.

ومن أراد الإطالة والتوسع فيه فليقرأه من موضعه الخاص به من كتابنا الذي سمَّيناه «الفوز» أو من كُتُب غيرنا المصنَّفة في هذا المعنى إن شاء الله.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤