المسألة الرابعة والعشرون والمائة

لِمَ صار العَروضيُّ رديء الشعر قليل الماء، والمطبوع على خلافه؟ ألم تُبْنَ العَروض على الطبع؟

أليست هي ميزان الطبع؟ فما بالها تخون؟ قد رأينا بعض من يتذوق وله طبع يخطئ ويخرج من وزْنٍ إلى وزْن وما رأينا عَروضيًّا له ذلك، فلِمَ كان هذا — مع هذا الفضل — أنقص ممن هو أفضل منه؟

الجواب

قال أبو علي مسكويه، رحمه الله:

إن المطبوع من المولَّدين يلزم الوزن الواحد ولا يخرج عنه ما دام طبعه يُطيع ذلك، ولكن ربما سمعنا للشعراء الجاهليِّين المتقدمين أوزانًا لا تقبلها طباعنا ولا تحسُن في ذوقنا، وهي عندهم مقبولةٌ موزونةٌ يستمرون عليها كما يستمرون في غيرها، كقول المُرَقِّش:

لابنة عجلان بالطَّفِّ رسوم
لم يَتَعَفَّيْنَ والعهد قديمْ

وهي قصيدة مختارة في المفضَّليَّات، ولها أخوات لا أحب تطويل الجواب بإيرادها، كانت مقبولة الوزن في طباع أولئك القوم، وهي نافرةٌ عن طباعنا، نظنها مكسورةً.

وكذلك قد يستعملون من الزخارف في الأوزان التي تستطيبها ما يكون عند المطبوعين منا مكسورًا وهي صحيحة، والسبب في جميع ذلك أن القوم كانوا يَجْبُرون بنغماتٍ يستعملونها مواضع من الشعر يستوي بها الوزن، ولأننا نحن لا نعرف تلك النغمات إذا أنشدنا الشعر على السلامة لم يحسُن في طباعنا، والدليل على ذلك أنَّا إذا عرفنا في بعض الشعر تلك النغمة حَسُنَ عندنا وطاب في ذوقنا، كقول الشاعر:

إن بالشِّعْب الذي دون سَلْعٍ
لقتيلًا دمه ما يُطَلُّ

فإن هذا الوزن إذا أُنشِدَ مفكَّك الأجزاء بالنغمة التي تخصه طاب في الذوق، وإذا أُنشِدَ كما يُنْشَد سائر الشعر لم يَطِبْ في كل ذوق.

وهذه سبيل الزحاف الذي يقع في الشعر مما يطيب في ذوق العرب وينكسر في ذوقنا، ولولا أن الموسيقى مركوزةٌ في الطباع، ووزْن النغم ومقابلة بعضه بعضًا مجبولةٌ عليه النَّفْس لَمَا تساعدت النفوس كلها على قبول حركاتٍ أُخَر بعينها، وتلك الحركات المقبولة هي النِّسَب التي يطلبها الموسيقيُّ ويبني عليها رأيه وأصله.

والعروضيُّ إنما يتَّبع هذه الحركات والسكنات التي في كل بيتٍ فيحصِّلها بالعدد وبالأجزاء المتقابلة المتوازنة؛ فإن نقَصَ جزء من الأجزاء ساكنٌ أو متحركٌ فإنما يَجْبُره المنشد بالنغمة حتى يتلافاه، فمتى ذهب عنه ذلك لم يستقم في ذوقه، ولم يساعد عليه طبعه.

فأما مَنْ نقص ذوقه في العَروض فإنما ذلك للغلط الذي يقع له في بعض الزَّحافات التي يجيزها العَروض، وله مذهب عند العرب، فيقع لصاحب الذوق الذي لا يعرف تلك النغمة التي تقوم بذلك الزحاف أنه جائز في كل موضع فيغلط مِنْ ها هنا، ويتهم أيضًا طبعه حتى يظن أن المنكسر من الشعر أيضًا هو في معنى المزاحَف، وأنه كما لم يمتنع المزحوف من الجواز كذلك لا يمتنع هذا الآخر الذي يجري عنده مجراه، وهذا غلط قد عُرِفَ وجهه ومذهب صاحبه فيه.

وأما واضع العَروض فقد كان ذا علم بالوزن وصاحب ذوقٍ وطبعٍ، فاستخرج صناعةً من الطباع الجيِّدة تستمرُّ لمن ليست له طبيعةٌ جيدةٌ في الذوق ليتمم بالصناعة تلك النقيصة.

وكذلك الحال في صناعة النحو والخطابة وما يجري مجراهما من الصنائع العلمية.

وليس يجري صاحب الصناعة، وإن كان ماهرًا في صناعته، مجرى الطبع الجيد الفائق.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤