المسألة الثامنة والعشرون والمائة

لِمَ صار اليقين إذا حدث وطرأ لا يثبُت ولا يستقر، والشك إذا عَرَض أرسى وربض؟

يَدُلُّك على هذا أن الموقن بالشيء متى شكَّكْته نزا فؤاده وقَلِقَ به، والشاكُّ متى وقفتَ به وأرشدته وأهديت الحكمة إليه لا يزداد إلا جُمُوحًا ولا ترى منه إلا عتوًّا ونفورًا.

الجواب

قال أبو علي مسكويه، رحمه الله:

أظنُّ السائل عن اليقين لم يعرف حقيقته، وظنَّ أن لفظة اليقين تدل على المعرفة المرسَلة أو على الإقناع اليسير، وليس الأمر كذلك؛ فإن مرتبة اليقين أعلى مرتبةٍ تكون في العلم، وليس يجوز أن يطرأ عليه شك بعد أن صار يقينًا، ومثال ذلك أن من علِم أن خمسةً في خمسة خمسةٌ وعشرون ليس يجوز أن يشُك فيه في وقت، وكذلك من علِم أن زوايا المثلث مساوية لقائمتين ليس يجوز أن يشُك فيه.

وهذه سبيل العلوم المتيقنة بالبراهين وبالأوائل التي بها تُعْلم البراهين.

فأما ما دون اليقين فمراتبه كثيرة على ما بُيِّنَ في كتاب «المنطق».

والشكوك تعترض كل مرتبة بحسب منزلتها من الإقناع.

وإذا كان الأمر كذلك فليس يَرِد على قلب المتيقِّن أبدًا شك يَنْزُو منه فؤاده، بل هو قَارٌّ وادِع لا تُحرِّك منه الشكوك بتة.

فأما ما ذكرتَه من أن الشاك إذا أُرْشِدَ وأُهديت له الحكمة لا يزداد إلا جُمُوحًا، فإن ذلك يعترض لأحد شيئين: إما لأن المرشد لم يتأتَّ للشاك ولم يدرِّجه إلى الحكمة فحمَّله ما لا يضطلع به، وإما لأن الحكيم ربما نهى عن أشياء يميل إليها الطبع بالهوى، وقد علمتَ بما بيَّناه فيما تقدَّم أن قُوَى الهوى أغلب وأقوى فينا من قُوَى العقل، فيصير حاله حال من يجذبه حبلان أحدهما ضعيف والآخر قوي، فهو لا محالة يستجيب للأقوى إلى أن تقوى عزيمته على الأيام، فيضعُف القوي، ويقوى الضعيف كما أشار به الحكماء، وشرَّعه الأنبياء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤