المسألة الثلاثون والمائة

ما معنى قول العلماء على طبقاتهم: «النادر لا حكم له»؟ هكذا تجد الفقيه والمتكلم والنحوي والفلسفي، فما سر هذا وما عِلْمه وعلته؟ ولِمَ إذا نَدَرَ خلا من الحُكْم، وإذا شذَّ عَرِيَ من التعليل؟

الجواب

قال أبو علي مسكويه، رحمه الله:

ليس الأمر على ما ظننته من أن جميع الطبقات من العلماء يستعملون هذه اللفظة، وإنما يستعملها منهم من كانت طبقته في العلوم المأخوذة من التصفح والآراء المشهورة؛ فإن هذه أوائل عند قوم في علومهم، وأعني بقولي أوائل أي إنهم يجعلونها مبادئ مسلَّمةً بمنزلة الأشياء الضرورية من مبادئ الحس والعقل، فإذا فعلوا ذلك لم يَخْلُ من أن يَرِدَ عليهم ما يخالف أصولهم فيجعلونه نادرًا وشاذًّا، مثال ذلك: أنه تصفَّح رجل منهم يومًا في السنة كيوم السبت من «كانون» أنه يجيء فيه مطر، وبقي إلى ذلك سنين حَكَمَ بأن هذا واجبٌ لا بد منه؛ فإن انتقض عليه ذلك زعم أنه شاذٌّ ونادرٌ.

وكذلك من يتبرَّك بيوم في الشهر ويتشاءم بآخر كما تفعله الفُرس بأول يوم من شهرهم المُسمَّى «هرمز» وبآخر يوم المُسمَّى «بانيران»؛ فإنه لا يزال يُحْكَم بأن هذا على الوتيرة؛ فإن انتقض قالوا هذا شاذ ونادر.

وكذلك حال من حكم بحكم مأخوذ من أوائل غير طبيعيةٍ وغير ضروريةٍ؛ فإنه غير مستمرٍّ له استمرار العلوم المبرهَنة المأخوذة الأوائل من الأمور الضرورية.

وأنت ترى ذلك عِيانًا ممن لا يعرف علل الأشياء ولا أسبابها من جمهور الناس؛ فإن أحدهم إذا رأى أمرًا حدث عند حضور أمرٍ آخر نسبه إليه من غير أن يبحث هل هو علته أم لا، وذلك أنه إذا رأى حالًا تسُرُّه عند حضور زيد زعم أن سبب ذلك الحال زيدٌ؛ فإن اتفق حضور زيد مرة أخرى واتفقت له حالٌ أخرى سارَّةٌ قَوِيَ ظنُّه وزادت بصيرته؛ فإن اتفق ثالثةً قَطَعَ الحُكْم.

وكذلك تكون الحال في أكثر أمور هذا الصِّنف من الناس، لا جَرَمَ أنه متى انتقض الأمر زعموا أنه شاذٌّ.

ولهذه الحال عَرَضٌ كثير، وذلك أنه ربما مازج أسبابًا صحيحةً، كما يُحكم في الشتاء أنه يجيء مطرٌ يوم كذا لأنه كذلك اتفق في العام الماضي، فلأن الوقت شتاءٌ ربما اتفق ذلك مرارًا كثيرة، ولكن ليس سبب المطر ذلك اليوم، بل له أسبابٌ أُخَر وإن اتفق فيه.

فأما الرجل الفلسفي فإنه إذا تشبَّه بغيره أو أخذ مقدماته من مِثل تلك المواضع عَرَض له لا محالة ما عرَض لغيره؛ ولذلك وجب أن تُنَزَّل الأمور منازلها، فما كان منها ذا برهانٍ لم يتغير ولم يُنتظَر ورود ضدٍّ عليه ولا شكٍّ فيه.

وإذا كان غير ذي برهان إلا أن له دليلًا مستمرًّا صحيحًا سُكِنَ إليه ووُثِق به.

فأما ما ينحطُّ إلى الإقناعات الضعيفة فينبغي ألا يُسْكَن إليه ولا يُوثَقَ به، وانتُظِرَ أن ينقضه شيء طارئٌ عليه، ولم يمتنع من الشكوك والاعتراضات عليه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤