المسألة الحادية والثلاثون والمائة

قال بعض المتكلمين: قد علمنا يقينًا أنه لا يجوز أن يتفق أن يمس أهل محلةٍ لحاهم في ساعة واحدةٍ وفصلٍ واحدٍ وحال واحدة، وإنْ جاز هذا فهل يجوز أنْ يتفق في أهل بلدة؟

وإن جاز فهل يجوز في جميع مَنْ في العالم؟

وإنْ كان لا يجوز أن يتفق هذا فما علته؟ فإن المتكلم سكت عند الأولى حين ذَكَرَ اليقين والضرورة، ولعمري إن الغشاء حق ولكن العلة باقية.

وسيمر بيان ذلك على حقيقته في «الشوامل» إن شاء الله.

الجواب

قال أبو علي مسكويه، رحمه الله:

إن الكلام على الواجب والممتنع والممكن قد استقصاه أصحاب المنطق، وبلغ صاحب المنطق فيه الغاية، والذي يليق بهذا الموضع هو أن يُقال:

إن الواجب من الأمور هو الذي يصدُق فيه الإيجاب ويكذب فيه السلب أبدًا.

والممتنع ما يكذب فيه الإيجاب ويصدُق فيه السلب أبدًا.

والممكن ما يصدق فيه الإيجاب أحيانًا ويكذب فيه أحيانًا، ويكذب فيه السلب أحيانًا ويصدق أحيانًا.

فإذا كانت طبائع هذه الأمور مختلفة فمسألتك هذه من طبيعة الممكن.

فإن جُوِّز فيه أن يكون جميع الناس يفعلونه في حال واحدةٍ صُيِّرَ من طبيعة الواجب، وهذا مُحال.

وأيضًا فإن أرسططاليس قد تبيَّن أن المقدمات الشخصية في المادة الممكنة والزمان المستقبل لا تصدق معًا، ولا تكذب معًا، ولا تقتسم الصدق والكذب، مثال ذلك: زيد يستحم غدًا، ليس يستحم غدًا زيد؛ فإن هاتين المقدمتين ليس يجوز أن تصدُقا معًا لئلا يكون شيءٌ واحدٌ بعينه موجودًا وغير موجود.

ولا يجوز أن تكذبا معا لئلا يكون شيءٌ واحدٌ موجودًا وغير موجود.

ولا يمكننا أن نقول إنهما تقتسمان الصدق والكذب لئلا يُرْفَع بذلك الممكن.

وهذا قولٌ محيِّرٌ فلذلك ألطف أرسططاليس فيه النظر فقال:

إن الشيء الممكن إنما يصدُق عليه الإيجاب أو السلب على غير تحصيل، والشيء الواجب والممتنع يصدُق عليهما الإيجاب والسلب على تحصيل، أعني أنه إنما يقتسم الصدق والكذب المقدمات الممكنة بأن توجد على طبيعتها الإمكانية، فأما الضرورية فإنها تقتسم الصدق والكذب على أنها ضروريةٌ، وهذا كلام بيِّنٌ واضحٌ لمن ارتاض بالمنطق أدنى رياضة، ومن أحبَّ أن يستقصيه فليعُد إليه في مواضعه يجده شافيًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤