المسألة الثالثة والثلاثون والمائة

سأل سائل: هل خلق الله تعالى العالم لعلةٍ أو لغير علة؟
فإن كان لعلة فما هي؟
وإن كان لغير علة فما الحجة؟
وهذه مسألة فيها شُعَبٌ كثيرٌ، ولها أهدابٌ طويلة، وليس الكلام فيها بالهيِّن السهل.

الجواب

قال أبو علي مسكويه، رحمه الله:

ليس يجوز أن يُقال: إن الله خلق العالم لعلة؛ لِمَا تقدَّم من قولنا إن العلة سابقةٌ للمعلول بالطبع.

فإن كانت العلة أيضًا معلولةً لزم أن تكون لها علةٌ تتقدمها، وهذا مارٌّ بغير نهاية، وما لا نهاية له لا يصح وجوده.

فإذن لا بد من أن يُقال أحد شيئين: إما أن العلة لا علة لها، وإما أن العالم لا علة له غير ذات الباري، تعالى ذكره.

فإن قيل: إن للعالم علة غير ذات الباري تعالى فإن تلك العلة لا علة لها، فيجب من ذلك أن تكون العلة أزليةً لأنها واجبة الوجود، وإذا كانت كذلك لزم فيها جميع ما سُلِّمَ في ذات الباري تعالى، ولو كان كذلك لكان أولًا لم يزل، وقد قلنا في الباري تعالى ذلك بالبراهين التي تأدت إلى القول به، وليس يجوز أن يكون شيئان لهما هذا الوصف، أعني أن كل واحد منهما أولٌ لم يزل، وذلك أنه لا بد أن يتفقا في شيء به صار كل واحد منهما أول وأن يختلفا في شيء به صار كل واحد منهما غيرًا لصاحبه، وذلك الشيء الذي اشتركا فيه، والذي تباينا به، لا بد أن يكون فصلًا مُقَوِّمًا أو مُقَسِّمًا، فيصير لهما جنسٌ ونوعٌ؛ لأن هذه حقيقة الجنس والنوع؛ فالجنس متقدِّم على النوع بالطبع، والنوع الذي يلزمه فصل مقوِّمٌ ليس بأول؛ لأنه مركَّبٌ من ذات وفصلٍ مقوِّمٍ، والمركَّب متأخرٌ عن بسيطه الذي تركَّب منه.

فهذه أحوالٌ يناقِض بعضها بعضًا ولا يصح معها أن يُدَّعَى في شيئين أن كل واحد منها أول لم يزل.

وشرح هذا المعنى وإن طال فهو عائد إلى هذا النَّبْذ الذي يكتفي به ذو القريحة الجيدة والذكاء التام.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤