المسألة التاسعة والثلاثون والمائة

ما الشُّبهة التي عرضت لابن سالم البصري فيما تفرَّد به من مقالته حين زعم أن الله — تعالى — لم يزل ناظرًا إلى الدنيا رائيًا لها مدركًا لها وهي معدومة؟ فإن شَغَبه وشغب ناصريه وأصحابه قد كَثُرَ بين العلماء.

فما وجه باطله إن كان قد أُبْطِل؟

وما وجه الحق فيه إن كان قد حُقِّق.

الجواب

قال أبو علي مسكويه، رحمه الله:

أما شبهة صاحب هذه المقالة فمركَّبةٌ؛ وذلك أنه لَحَظَ إدراك الحي منا فوجده بنوعين: أحدهما عقلي، والآخر حسي، والحسي منه وهمي ومنه بصري.

فأما الحسي البصري فإنما يدرك المبصَر بآلةٍ ذات طبقات ورطوباتٍ وقصبةٍ مجوفةٍ ذاتيةٍ من بطن الدماغ، ويحتاج إلى جِرْمٍ مُسْتَشِفٍّ يكون بينه وبين المبصَر، وإلى ضوءٍ معتدلٍ ومسافةٍ معتدلةٍ، وألا يكون بينهما حاجزٌ ولا مانعٌ.

وأما الوهم فقد ذكرنا من أمره أنه يتبع الحس، فلا يجوز أن يُتوهَّم ما لا يُدرَك أو يُدرَك له نظير.

وأما الإدراك العقلي فليس يحتاج إلى شيء من الحواس، بل للعقل نفسه قوةٌ ذاتيةٌ بها يدرك الأشياء المعقولة.

والكلام على هذا الإدراك ألطف وأغمض من الكلام في الإدراك الحسي.

ولما اختلطت على صاحب المسألة هذه الإدراكات، وعَلِم أن الباري جلَّت عظمته عالِمٌ بالأمور الكائنة سمَّى هذا العلم إدراكًا، وظنه من جنس إدراكنا وعلومنا الوهمية فتركَّبت الشبهة له من الظنون الكاذبة.

وتحقيق هذه الإدراكات وتمييزها حتى يُعلَم ما يختص به الحي منا ذو العقل والحس، وكيف تكون إدراكاته للأمور الموجودة، وتنزيه الباري جلَّ اسمه عن جميعها؛ إذ كانت هذه كلها منا انفعالاتٍ، أعني العلوم والمعارف كلها، وأنه لا يجوز أن نعلم شيئًا محسوسًا ولا معقولًا بغير انفعال، وأن الله تقدَّس وتعالى ذِكْره ليس بمنفعلٍ، وإنما يعلم الأشياء بنوعٍ أعلى وأرفع مما نعلمه؛ أمرٌ صعبٌ يحتاج فيه إلى تَقْدِمَة علومٍ كثيرة.

وفيما ذكرناه كفايةٌ في إيضاح وجه شُبْهةٍ لهذا الرجل فيما ذهب إليه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤