المسألة الرابعة عشرة: مسألة خُلقية

لِمَ خُصَّ اللئيم بالحِلم وخُصَّ الجواد بالحِدَّة؟

وهل يجتمع الحلم والجود؟ وهل تقترن الحدة واللؤم؟ وما حكمهما في الأغلب؛ فإن الثابت على وجهٍ غير المتقلب إلى وجه؟

الجواب

قال أبو علي مسكويه، رحمه الله:

أظنُّك أردتَ باللئيم البخيل؟ وبينهما فروق، وقد تكلمتُ على مرادك لأن باقي الكلام يدل عليه.

فلعمري إن ذلك في الأكثر كذلك، وإن كان قد ينعكس الأمر فيوجد حليم جواد وبخيلٌ حديد، إلا أن الأَولى أن يكون الجواد حديدًا، وذلك أن البخيل هو الذي يمنع الحق من مستحقيه على ما ينبغي وفي الوقت الذي ينبغي وكما ينبغي، فإذا منع البخيلُ الحقَّ على الوجوه التي ذكرت صار ظالمًا، وإذا أحس بهذه الرذيلة من نفسه وجب أن يصبر على المتظلمين وهم الذامون؛ لأنه من البيِّن أن البخيل إذا ذمه الذام فإنما يُذكِّره مواقع ظلمه وإخراج الحق الذي عليه على غير الوجوه التي تنبغي.

وإذا كان الذام صادقًا والبخيل يعرف صدقه بما يجده من نفسه، فيجب أن يَحْلُم لا محالة لموافقته الصدق، ولأن النفس بالطبع تسكن عند الصدق وتستخذي له؛ فالأشبه بالنظام الطبيعي أن يكون البخيل حليمًا لِما ذكرناه.

وربما عرض ضد ذلك، وهو إذا كان البخيل جاهلًا بالحقوق التي تجب عليه على الشرائط التي ذكرناها، فإذا جهل ذلك لم يعرف صِدْق من يصدُقه عنه ولا ظلمه وإنصافه، فيعرف قُبْح أفعاله، فتعرِض له رذيلتان: إحداهما منع الحق، والأخرى الجهل بموضع الحق، فربما عرض للجاهل الحدة والنزق والعدول عن الحلم لِما ذكرناه وأخبرنا السبب فيه.

•••

فأما قولك: لِمَ خُصَّ الجواد بالحدة؟ فمسألةٌ غير مقبولة؛ لأن الجواد ليس يختص بالحدة؛ وذلك أن حقيقة الجود هو بذل ما ينبغي في الوقت الذي ينبغي على ما ينبغي، ومن كانت له هذه الفضيلة لم يُنسَب إلى الحدة؛ لأن الحديد لا يميز هذه المواضع، فهو يتجاوز حد الجواد، وإذا تجاوزه سُمِّي مسرفًا ومبذرًا، ولم يستحق اسم المدح بالجود.

ولكن لما كانت لغة العرب وعادتها مشهورة في وضع الجود موضع السَّرف والتبذير — حتى إذا كان الإنسان في غايةٍ منهما كان عندهم أشد استحقاقًا لاسم الجود — خفي عليهم موضع الفضيلة ومكان المدح، وصارت الحدة المقترنة بالمبذر والمسرف على حسب موضوعهم محمودةً؛ لأنها لا تمكِّن من الرويَّة، فيبادر صاحبها إلى وضع الشيء في غير موضعه فيُسمَّى مسرفًا عند الحكماء.

وقد تبيَّن في كُتُب الأخلاق أن الجود الذي هو فضيلةٌ وسط بين طرفين مذمومين: أحدهما تقصير، والآخر غلوٌ، فأما جانب التقصير من الجود فهو الذي يُسمَّى البخل وهو مذمومٌ، وأما الجانب الذي يلي الغلو فهو الذي يُسمَّى السَّرف.

والواجب على من أحب استقصاء ذلك أن يقرأه من كُتُب الأخلاق فإنها تستغرق شرحه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤