المسألة الثانية والأربعون والمائة
سأل سائل عن النَّظْم والنثر، وعن مرتبة كل واحدٍ منهما، ومزية أحدهما، ونسبة هذا إلى هذا، وعن طبقات الناس فيهما؛ فقد قدَّم الأكثرون النظم على النثر ولم يحتجُّوا فيه بظاهر القول وأفادوا مع ذلك به وجانبوا خفيات الحقيقة فيه، وقدَّم الأقلُّون النثر وحاولوا الحِجَاج فيه.
الجواب
قال أبو علي مسكويه، رحمه الله:
إن النَّظم والنثر نوعان قسيمان تحت الكلام، والكلام جنسٌ لهما، وإنما تصح القسمة هكذا: الكلام ينقسم إلى المنظوم وغير المنظوم، وغير المنظوم ينقسم إلى المسجوع وغير المسجوع، ولا يزال ينقسم كذلك حتى ينتهي إلى آخر أنواعه، ومثال ذلك مما جرت به عادتك أن تقول: الكلام بما هو جنسٌ يجري مجرى قولك الحي، فكما أن الحي ينقسم إلى الناطق وغير الناطق، ثم إن غير الناطق ينقسم إلى الطائر وغير الطائر، ولا تزال تقسمه حتى تنتهي إلى آخر أنواعه، ولما كان الناطق والطائر يشتركان في الحي الذي هو جنسٌ لهما ثم ينفصل الناطق عن الطائر بفضل النطق، فكذلك النظم والنثر يشتركان في الكلام الذي هو جنسٌ لهما ثم ينفصل النظم عن النثر بفضل الوزن الذي به صار المنظوم منظومًا.
ولما كان الوزن حليةً زائدةً، وصورةً فاضلةً على النثر، صار الشِّعر أفضل من النثر من جهة الوزن.
فإن اعتبرتَ المعاني كانت المعاني مشتركةً بين النظم والنثر، وليس من هذه الجهة تميُّز أحدهما من الآخر، بل يكون كل واحدٍ منهما صدقًا مرةً، وكذبًا مرة، وصحيحًا مرة، وسقيمًا أخرى.
ومثال النظم من الكلام مثال اللحن من النظم، فكما أن اللحن يكتسي منه النظم صورةً زائدةً على ما كان له، كذلك صفة النظم الذي يكتسي منه الكلام صورةً زائدةً على ما كان له، وقد أفصح أبو تمَّامٍ عن هذا حين قال: