المسألة السابعة والأربعون والمائة

سألني سائل فقال:

هل يجوز أن تَرِدَ الشريعة من قِبَل الله تعالى بما يأباه العقل ويخالفه ويكرهه ولا يجيزه كذبح الحيوانات وكإيجاب الدية على العاقلة؟

وقد جهَّزتُ المسألة إليك ووجَّهت أملي في الجواب عنها نحوك، وأنت المدَّخَر لغريب العلم ومكنون الحكمة؛ فإن تفضلت بالجواب وإلا عرضتُ عليك ما قلتُ للسائل، ورويتُ ما دار بيني وبين المُجادِل؛ فإن كان سديدًا عرَّفْتَنِيه، وإن كان ضعيفًا نصحتني فيه؛ فالعلم بعيد الساحل، عميق الغور، شديد الموج، ولولا فضل الله العظيم على هذا الخلق الضعيف لَمَا وقف على شيء، ولا نظر في شيء، لكنه لطيفٌ بعباده، رءوفٌ يبتدئ بالنعمة قبل المسألة، وبالخير قبل التعرُّض.

الجواب

قال أبو علي مسكويه، رحمه الله:

ليس يجوز أن تَرِدَ الشريعة من قِبَل الله تعالى بما يأباه العقل ويخالفه، ولكن الشاك في هذه المواضع لا يعرف شرائط العقل وما يأباه، فهو أبدًا يخلطه بالعادات، ويظن أن تَأبِّي الطباع من شيء هو مخالفة العقل، وقد سمعتُ كثيرًا من الناس يتشككون بهذه الشكوك، وحضرتُ خصوماتهم وجدالهم فلم يتعدَّوْا ما ذكرتُه.

وينبغي أن نوطئ للجواب توطئةً من كلامٍ نُبيِّن فيه الفرق بين ما يأباه العقل وبين ما يأباه الطبع ويتكرهه الإنسان بالعادة، فنقول:

إن العقل إذا أبى شيئًا فهو أبدي الإباء له، لا يجوز أن يتغير في وقت، ولا يصير بغير تلك الحال، وهكذا جميع ما يستحسنه العقل أو يستقبحه، وبالجملة فإن جميع قضايا العقل هي أبديةٌ واجبةٌ على حال واحدةٍ أزليةٍ لا يجوز أن يتغير عن حاله، وهذا أمرٌ مُسلَّمٌ غير مدفوعٍ ولا مشكوكٍ فيه.

فأما أمر الطبع والعادة فقد يتغيَّر بتغيُّر الأحوال والأسباب والزمان والعادات.

وأعني بقولي الطبع طبْع الحيوان والإنسان، لا الطبيعة المطلقة الأولى.

وذاك أن اسم الطبيعة مشتركٌ، فقد بيَّنا ما أردنا بالطبع، وإذا كان ذلك بيِّنًا من الأمثلة والأحوال المُقَرِّ بها فإنَّا نعود فنقول:

إن ذبْح الحيوان ليس من الأشياء التي يأباها العقل وينكرها، بل هو من القبيل الآخر، أعني من الأشياء التي تأباها بعض الطباع بالعادة.

ولو كان مما يأباه العقل لكان أبديًّا لا يرضاه في وقت ولا يأمر به ولا يأنس له، ونحن نشاهد من يأبى قتل الحيوان؛ لأن عادته لم تَجْرِ به، ومتى جرت به عادته هان عليه وسهُل فعله وجرى مجرى سائر الأفعال عند أصحابه، وأنت ترى القصَّاب والجزَّار بل مُشَاهِدي الحروب يهون عليهم ما يصعُب على غيرهم، وأيضًا فإن الحيوان الذي يألم بمرض لا يُعرَف علاجه إذا أشفق عليه العاقل وكرِه مقاساته لِمَا لا علاج له يأمر بذبحه ليكون خلاصه في الموت الوحِيِّ، أفترى العقل الذي أمر بذبحه يستحسِن ما كان مستقبَحًا له أم تغيَّر فِعله الأبدي بطارئ طرأ وحادث حدث؟ مع اعترافنا بأن العقل ليس من شأنه ذلك؛ لأنه جوهرٌ أبديٌّ، وجوهره هو حُكْمه؛ ولذلك هو أبدي الحكم؛ فإننا لا نظن بأن حُكْم العقل على العدد والهندسة وسائر البراهين الطبيعية تغيَّر عما كان عليه منذ عشرة آلاف سنة، أو يتغير إلى مثل هذا الزمان، أو أكثر أو أقل، بل نثق بأنه أبدًا كان ويكون على وتيرةٍ واحدة.

فأما الأمور التي تُستقبَح مرةً وتُستحسَن أخرى، وتُتَأَبَّى تارةً وتُتَقَبَّل ثانيةً؛ فإنما لها أسباب أُخَر غير العقل المجرَّد؛ فإن السياسات أبدًا يعترض فيها ذلك، وأمراض الأبدان والأمور غير الأبدية كلها أبدًا مُعرَّضةٌ للتغير، ويتغير الحكم بتغيرها، بل لا يجوز أن تبقى لازمةً بحال واحدةٍ؛ لأنها أبدًا في السَّيَلان والدُّثُور لِلزوم الحركة إياها، والحركة نفسها هي تغيُّر الأشياء المتحركة إذ كلها متغيرة، وكذلك الزمان وما تعلَّق به هو يتغير بتغيُّره.

وما يعرض للإنسان من كراهية ذبح الحيوان إنما هو لمشاركته إياه في الحيوانية، ويخطر بباله عند مكروهٍ ينال البهيمة أن مثل ذلك المكروه سيناله لمشاركته إياه في الحيوانية، فيحدث له من النفور عند هذا الخاطر ما يحدث لكل حيوانٍ إذا تصوَّر مكروهًا، حتى إذا أنِسَ بذلك الفعل زال عنه ذلك النفور وصار الذبح والتَّقْصِيب يجري عنه مجرى برْي القلم ونَحْت الخشب، وكذلك حال من شاهد الحروب وأنِسَ بها عند العراء المستوحش منها.

وها هنا حالٌ أخرى أبْيَن مما ذكرتُه، وهي أن العقل قد حسَّن عند الإنسان إذا حصل في مكروه غليظٍ من الأعداء، كمن يرى في أهله وولده ما لا يطيق مشاهدته أن يبذل نفسه للقتل ويختار الموت الجميل على الحياة القبيحة، وهذه الرخصة من العقل مستمرةٌ في كل حال يقبح بالإنسان أن يعيش فيها، أعني أن يختار الموت عليها.

فالجواب إذن عن أمثال هذه المسائل أن يُقال:

إن العقل لا يستحسِن ولا يستقبِح شيئًا منها إلا بقرائن وشرائط، فأما هذا الفعل بعينه وحده فلا يتأبَّاه ولا يتقبَّله، أعني لا يحكم فيه بحكم أبدي أولي كأحكامه التي عرفناها وأحطنا بها.

وهكذا الحال في الأشياء التي تُعرَف بالخير والشر؛ فإن كثيرًا من الجُهَّال يعتقد أنَّ الأشياء كلها منقسمةٌ إلى هذين، وليس الأمر كذلك؛ فإن اليسار والتمكُّن من الدنيا ليس بخير ولا شر حتى يُنظَر في ماذا يستعمله صاحبه: فإن استعمل يساره وماله في الأشياء التي هي خيرٌ فإن يساره خيرٌ، وإن استعمله في الشر فهو شر.

وكذلك كل شيء كان صالحًا للشيء ولضده فليس يُطلق عليه أنه واحد منهما، بل الأولى أن يُقال: إنه يصلح لهما جميعًا كالآلات التي يُصْلَح بها ويُفْسَد؛ فإن الآلات لا تُوصَف بأنها مُصلحة ولا مُفسدة، ولا تُسمَّى أيضًا بالصلاح والفساد إلا بعد أن تُستعمل.

فهكذا يجب أن يُقال في الأمور التي تُستحسَن أو تُستقبَح في أحوال، وبحسب عادات إنها ليست حسنة عند العقل ولا قبيحة على الإطلاق حتى يتبين واضعها ومستعمِلها وزمانها وأحوالها؛ فإن القصاص إذا وقع عليه هذا الاسم حَسُنَ لِمَا فيه من حياة الناس، وإذا وقع عليه اسم القتل بغير هذا الاعتبار صار قبيحًا لِمَا فيه من تلف الحيوان.

وقد خرجتُ في هذه المسألة عن عادتي في هذا الكتاب من الاختصار والإيماء إلى النُّكَت لكثرة ما أسمعه من جُهَّال «المانوية» ومن اغترَّ بأمثلتهم وجَنَحَ إلى أقاويلهم مُصدِّقًا بالخديعة، التي خلصوا بها إلى قلوب الأغمار من الناس حتى عدلوا بهم عن الشرائع الصحيحة، ولو أن واحدًا منهم سُئِل عن القبيح والحسن مطلقًا أو مقيدًا لَمَا عرفه إلا على سبيل الاختلاط.

على أنه لا يمتنع كل عاقل منهم إذا رأى حيوانًا يضطرب ويطول ذَمَاؤه في قروح خارجه به، أو قُولَنْجٍ قد يُئِس من بُرْئه، أو مَهْوَاة تردَّى فيها فتكسَّر منها، أن يشير بذبحه وإن لم يتولَّ ذلك بنفسه.

ولعل ضروبًا من المكاره تلحق الحيوان إذا طال عمره ليست بدون ما ذكرناه خلاصه منها بالموت الوَحِيِّ لو فُطِنَ له، وإنما لا يتولى الذبح بنفسه ويشير على غيره به لأجل العادة والاستشعار الذي لزمه.

ولو أن هذا العاقل منهم بُلِيَ بسلطان يعذِّبه عذابًا يريد به أن يأتي على نفسه في زمان طويلٍ ليذيقه العذاب لبادر إلى الحكم بما يأباه قبْلُ وتناول سُمَّ ساعةٍ أو سأل أن يُرَاح من الحياة، وكذلك لو فُعِلَ بولده أو عِتْرَته ما يكرهه لاختار الموت على رؤيته، فكيف يكون المكروه مختارًا محبوبًا، والمستقبح مُستحسَنًا من جهة العقل لولا ما ذكرناه؟

فقد ظهر الجواب عن هذه المسألة، وتبيَّن أن كل ما كان قبيحًا في وقت دون وقت لا يجوز أن يُنْسَب إلى العقل المجرَّد وإلى أحكامه الأولية الأزلية، بل لا يُقال فيه إنه قبيح ولا حسنٌ على الإطلاق، وإنما يُنسب إلى الطباع والعادات، ثم يُقال قبيحٌ بحسب كَيْت وكَيْت، وحسنٌ لكذا وكذا مقيدًا غير مطلق، ولا منسوب إلى العقل المجرَّد.

فأما الدِّيَة التي على العاقلة، فقد تكلَّم الناس في وجه السياسة بها، ووجه حُسْنها بيِّنٌ، لا سيما والمسألة المتقدمة قد أوضحتها وبينت وجه الصواب في أمثالها من الشُّبَه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤