المسألة الخمسون والمائة

قال أحمد بن عبد الوهاب في مُعَاياة الجاحظ: «لِمَ صار الحيوان يتولَّد في النبات ولا يتولَّد النبات في الحيوان؟ أي قد تتولَّد الدودة في الشجرة ولا تنبُت شجرة في حيوان.»

فلِمَ لَمْ يُجِبْ؟

الجواب

قال أبو علي مسكويه، رحمه الله:

إن الحيوان يحتاج في وجوده إلى وجود النبات، والنبات لا يحتاج في وجوده إلى وجود الحيوان، والسبب في ذلك أن الحيوان أكثر تركيبًا من النبات؛ لأنه مُركَّب منه ومن جواهر أُخَر، أعني النفس الحيوانية؛ ولذلك يكون الحيوان في أول تكوُّنه نباتًا ثم تحصل من بعدُ حركة الحيوان.

وحصول أثر النفس في الإنسان إنما يكون بعد أن تَسْتَتِمَّ في الرحم صورة النبات، ويكون استمداده الغذاء به هناك بعُروق متصلةٍ برحم أمه شبيهةٍ بعروق النبات، حتى إذا استكمل أيضًا صورة الحيوان وحصلت له النفس الحيوانية تقطعت تلك العروق، وهو الطَّلْق الذي يلحق الأم ويُحرِّك الولد للخروج، فإذا خرج وتنفَّس في الهواء فتح فمه واغتذى به، ولا يزال تكمُل فيه صورة الحيوان إلى أن يقبل أثر النفس الناطقة ثم يكمُل بها ويصير إنسانًا بقدرة الله تعالى ولُطْف حِكمته جلَّ اسمه.

فالنبات كما ذكرنا أبسط وأقدم وجودًا من الحيوان، أعني أنه لا يحتاج في وجوده إلى وجود الحيوان، فهو يكتفي بمادته من الأرض والهواء والماء والحرارة التي تأتيه من الشمس حتى يتم ويحصُل وجوده.

فأما الحيوان فلا يكتفي بتلك الأشياء حتى تنضاف إليها مادةٌ أخرى تغذوه؛ إذ كان لا يكتفي بالبسائط من الماء والأرض والهواء، ويحتاج إلى النبات حتى يغذوه ويُكمِّل وجوده ويحفظ عليه قوامه.

فإذا كان وجوده وقِوَامه بالنبات جاز أن يتولد فيه، ولما كان وجود النبات يتم بغيره ولا يحتاج إليه لم يتولد فيه، ولو تولد النبات في الحيوان — مع أنه لا يغذوه ولا يحتاج إليه، والطبيعة لا تفعل شيئًا باطلًا ولا لغوًا — لأفسد الحيوان وفَسَدَ هو في ذاته:

أما إفساده الحيوان فلحاجته إلى ما يُصرِّف فيه عروقه التي يمتص بها مادته التي تحفظ عليه ذاته وتعوِّضه مما يتحلل منه، ومتى ضرب عروقه في بدن الحيوان تفرَّق اتصاله، وفي تفرُّق اتصال بدن الحي هلاكه.

وأما هلاكه في نفسه وفساده فلأنه لا يجد الماء البسيط، والأرض البسيطة، والهواء الذي منه قِوَامه ومادته؛ فإن الحيوان لا توجد فيه هذه البسائط بالفعل.

وهذا كافٍ في هذه المسألة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤