المسألة الرابعة والخمسون والمائة

لِمَ إذا عرفت العامة حال المَلِك في إيثار اللذة، وانهماكه على الشهوة، واسترساله في هوى النفس استهانت به، وإن كان سفَّاكًا للدماء، قتَّالًا للنفوس، ظَلُومًا للناس، مُزِيلًا للنِّعم؟

وإذا عرفتْ منه العقل والفضل والجد هابته وجمعت أطرافها منه؟

ما شهادة الحال في هذه المسألة؛ فإن جوابها يشرح علمًا فوق قدْر المسألة؟

الجواب

قال أبو علي مسكويه، رحمه الله:

إن المُلْك هو صناعةٌ مقوِّمة للمدنية، حاملةٌ للناس على مصالحهم من شرائعهم وسياساتهم بالإيثار وبالإكراه، وحافظةٌ لمراتب الناس ومعايشهم لتجري على أفضل ما يمكن أن تجري عليه.

وإذا كانت هذه الصناعة في هذه الرُّتبة من العلو فينبغي أن يكون صاحبها مقتنيًا للفضائل كلها في نفسه؛ فإن مَنْ لم يقوِّم نفسه لم يقوِّم غيره، فإذا تهذَّب في نفسه بحصول الفضائل له أمكن أن يُهذِّب غيره.

وحصول فضائل النفس يكون أولًا: بالعفة التي هي تقويم القوة الشهوية؛ حتى لا تُنازع إلى ما لا ينبغي، وتكون حركتها إلى ما يجب، وكما يجب، وعلى الحال التي تجب.

وثانيًا: تقويم القوة الغضبية حتى تعتدل هذه القوة أيضًا في حركتها، فيستعملها كما ينبغي، وعلى من ينبغي، وفي الحال التي تنبغي، ويُعدِّلها في طلب الكرامة، واحتمال الأذى، والصبر على الهوان بوجهٍ وجهٍ، والنزاع إلى الكرامة على القدْر الذي ينبغي وعلى الشرائط التي وُصِفَتْ في كُتُب الأخلاق.

وإذا اعتدلت هاتان القوتان في الإنسان فكانت حركتهما على ما يجب معتدلةً من غير إفراطٍ ولا تقصيرٍ حصلت له العدالة التي هي ثمرة الفضائل كلها.

وبحصول هذه الفضائل تقوى النفس الناطقة، وتستمر للإنسان الصورة الكمالية التي يستحق بها أن يكون سائس مدينةٍ أو مدير بلدٍ.

ومتى لم تحصل هذه له فينبغي أن يكون مَسُوسًا بغيره، مُدَبَّرًا بمن يُقوِّمه ويُعدِّله.

فأيُّ شيءٍ أقبح من عكس هذه الحال وإجرائها على غير وجهها؟ وطباع الإنسانية تأبى الاعوجاج في الأمور فكيف الانتكاس وقلب الأشياء عن جهاتها؟!

•••

فأما قولك: وإن كان الملِك ذا بطشٍ شديدٍ وعسفٍ كثيرٍ بسفك الدماء وانتهاك الحُرَم، فهذه حالٌ تُنقصه من شروط المُلْك ولا تزيد فيه، وهو بأن يسقط من عين رعيته أقرب؛ إذ كانت شريطة المُلك أن يستعمل هذه الأشياء على ما ينبغي وعلى جميع الشرائط التي قُدِّمَت.

وهل هذا إلا مِثْل طبيبٍ يدَّعي أنه يُبْرِئ من جميع العلل ويتضمن بسلامة الأبدان على اختلاف أمزجتها وحِفْظها على اعتدالاتها، ثم إذا نُظِرَ يوجد مِسْقامًا مختلف المزاج بسوء التدبير، ولما سُئِل وتُصُفِّحَتْ حاله وُجِدَ من سوء البصيرة وفساد التدبير لنفسه بحيث لا يُنتظَر منه إصلاح مزاج بدنه، فكيف لا يعرض من مِثْل هذا الضحك والاستهزاء، وكيف لا يستهين به من ليس بطبيب ولا يدَّعي هذه الصناعة إلا أنه على سيرة جميلةٍ في بدنه وسياسةٍ صالحةٍ لنفسه؟ فإن اتفق لهذا المدَّعي أن يتغلب ويتسلط ويستدعي من الناس أن يتدبَّروا بتدبيره، فكيف لا يزداد الناس من النفور عنه والضحك منه؟

فهذا مثلٌ صحيحٌ مطابق للممثَّل به، فينبغي أن يُنظَر فيه؛ فإنه كافٍ فيما سألتَ عنه إن شاء الله.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤