المسألة الثامنة والخمسون والمائة

ما الفرق بين العِرَافة والكِهانة، والتنجيم والطَّرْق، والعِيافَة والزَّجْر؟
وهل تُشارِك العرب في هذه الأشياء أُمَّةٌ أخرى أم لا؟

الجواب

قال أبو علي مسكويه، رحمه الله:

أما الفرق بين العرافة والكهانة فهو أن العراف يُخبر عن الأمور الماضية، والكاهن يخبر بالأمور المستقبلة، وذلك أن العرافة معرفة الآثار والاستدلال منها على مؤثرها، والكهانة هي قوةٌ في النفس تطالع الأمور الكائنة بتخلِّيها عن الحواس، ومرتبتها عاليةٌ على العرافة، وقد تكلَّمنا عليها في كتابنا الذي سمَّيناه «الفوز» عند ذِكْرنا الفرق بين النبي والمتنبي، وفي القوة التي يكون بها الوحي وكيفية ذلك فخذْه من هناك.

•••

وأما الفرق بين التنجيم وما يجري مجرى الفأل فظاهر؛ لأن التنجيم صناعةٌ تُتَعَرَّف بها حركات الأشخاص العالية وتأثيرها في الأشخاص السفلية، وهي صناعةٌ طبيعيةٌ، وإن كان قد حُمِلَ عليها أكثر من طاقتها، أعني أن المنجِّم ربما يُضَمِّن العلم من جزيئات الأمور ودقائقها ما لا يُوصَل إليه بهذه الصناعة، فيخبر بالكائنات على طريقة تأثير الشيء في مثله، وذلك أن الشمس إذا تحركت في دورةٍ واحدةٍ من أدوارها أثَّرت فيها ضروبًا من التأثير في هذا العالم، وكذلك كل كوكب من الكواكب له أثرٌ بحركته ودورته وشعاعه الذي يصل إلى عالمنا هذا؛ فالمنجِّم إنما يقول مثلًا: إن السنة الآتية تجتمع فيها دلائل الشمس وزُحَل فتؤثِّر في عالمنا هذا أثرًا مركَّبًا من طبيعتَيْ هاتين الحركتين، فتكون حال الهواء كيت وكيت، وكذلك حال الأسْتُقُصَّات الأربع، ولما كان الحيوان والنبات مُركَّبين من هذه الطبائع وجب أن يكون كل ما أثَّر في بسائطها يؤثر أيضًا في المركَّبات منها.

فتأثير النجوم في عالمنا تأثيرٌ طبيعيٌّ، والمنجِّم يُخبر بحَسَب ما يَحْسِب من حركاتها وشعاعاتها الواصل إلينا آثارها حُكْمًا طبيعيًّا، وإن كان يغلط أحيانًا بحسب دقة نظره، وكثرة الحركات والمناسبات التي تجتمع من جملة الأفلاك والكواكب، وقَبول ما يَقبل من أجزاء عالم الكون والفساد، وتلك الآثار مع اختلافها.

•••

فأما أصحاب الفأل وزجر الطير وطَرْق الحصى وما أشبه ذلك فإنها ظنونٌ، والصدق فيها إنما يكون على طريق الاتفاق وفي النادر، وليس تستند إلى أصل ولا يقوم عليها دليلٌ؛ لأنها ليست طبيعيةً ولا نفسانيةً ولا إلهيةً، وإنما هي اختياراتٌ بحسب الأوهام والظنون، وهي تكذب كثيرًا وتصدُق قليلًا، كما يعرض ذلك لمن أخبر أن غدًا يجيء المطر أو يركب الأمير بغير دليلٍ ولا إقناع، بل تكلَّم بذلك، وأرسل الحكم به إرسالًا، فربما صحَّ ووافق أن يطابق الحقيقة، وفي الأكثر يبطل ولا يصح.

•••

والأمم تُشارِك العرب في هذه الأشياء، إلا أن العرب تختص من العِرَافة ومن زجْر الطير بأكثر مما في الأمم الأُخر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤