المسألة الستون والمائة

ما المعدوم؟ وكيف البحث عنه؟
وما فائدة الاختلاف فيه؟
وما الذي أطال المتكلمون الكلام في اسمه ومعناه؟
وهل لقولهم محصول؟ فإني ما رأيت مسألة لا تمكن من نفسها غيرها.

الجواب

قال أبو علي مسكويه، رحمه الله:

إن المعدوم الذي يشير إليه المتكلمون خاصةً هو موجودٌ بوجه من الوجوه؛ ولذلك صحَّت الإشارة إليه والكلام عليه، ومثال ذلك أن زيدًا إذا تُوُهِّمَ معدومًا فإن صورته قائمةٌ في وهْم المتكلم على عدمه، وتلك الصورة له في الوهم هي وجودٌ ما له، وكذلك حال كل ما يتوهَّمونه معدومًا من جسم أو عرَضٍ أو حالٍ، لا معدومة بل ملحوظة، والدليل على ذلك أنَّا لا نتوهَّم شيئًا معدومًا إلا ونتصور له حالًا قد وُجِدَ فيها أو يوجد فيها، وصورته تلك قائمةٌ في وهْمنا، وهي وجود ما.

فأما المعدوم المطلَق الذي لا يستند إلى شخصٍ ما ولا إلى عرَض فيه وحالٍ له؛ فإنه لا يُضْبَط بوهم، ولا يُتكلَّم عليه، ولا تصحُّ مسألة أحدٍ عنه؛ لأنه لا شيء على الإطلاق.

وإنما تصح المسألة عن شيء ثَمَّ، تعرِض له أحوالٌ إما حاضرةٌ فيه أو منتظَرةٌ له؛ ولذلك زعم أكثر المتكلمين أن المعدوم هو شيء، وزعم بعضهم أنه لا شيء، أعني أنهم لا يُسمُّونه بشيء.

وإنما عرَض لهم هذا الخلاف؛ لأن منهم من لَحَظَه من حيث الوهم، ومنهم من لحظه من حيث الحس، فمن لحظه في وهمه أثبته شيئًا، ومن لحظه مِنْ حسه لم يُثبته شيئًا.

والدليل على أن المعدوم الذي يشيرون إليه هو ما ذكرناه، وعلى الحال التي وصفناها، أن القوم إذا تَعَاوَرُوا مسألة المعدوم سألوا عن الجوهر: هل هو في العدم؟ وعن السواد: هل هو سواد في العدم؟ وكذلك جميع أمثلتهم إنما هي من أمور محسوسةٍ إذا صارت غير محسوسةٍ كيف تكون أحوالها؟ ثم يكون جوابهم عن ذلك بما يَتصوَّر منه للنفْس ويقوم في الوهم، فيقولون في السواد الذي حقيقته أنه أثرٌ في البصر من مؤثِّر يعرض منه القبض: إنه في العدم أيضًا كذلك، كأنهم يتوهَّمون أنه يفعل بالبصر وهو معدومٌ ما يفعله وهو موجود.

وإنما عرض لهم هذا الوهم؛ لأن القوة التي ترتقي إليها الحواس تقبل شبيهًا بالآثار التي تقبلها، أي تحصل لها الصورة مجردةً من المادة، وهذا هو العلم الحسي.

لو أمكنهم إثبات صورةٍ عقليةٍ ونفيها لتكلموا على الموجود العقلي والمعدوم العقلي، ولو أمكنهم ذلك لجاز أن يسألوا أيضًا عن العدم المطلق: هل يُشار إليه أم لا يُشار إليه؟ ولكن هذه الأمور غابت عنهم، وإنما سألت عن مذاهبهم وعما يسألون عنه، وقد خرج الجواب ولاح لك بمشيئة الله.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤