المسألة الثامنة عشرة: مسألة طبيعية

لِمَ صار الأعمى يجد فائته من البصر في شيء آخر؟ كمن نجده من العميان من يكون ندي الحلق، طيِّب الصوت، غزير العلم، سريع الحفظ، كثير الباه، طويل التمتع، قليل الهم.

الجواب

قال أبو علي مسكويه، رحمه الله:

إن للنفس خمسة مشاعر تستقي منها العلوم إلى ذاتها وكأنها في المثل منافذ وأبواب لها إلى الأمور الخارجة عنها.

أو مثل أصحاب أخبار يَرُدُّون إليها أخبار خمس نواحٍ، وهي متقسمة القوة إلى هذه الأشياء الخمسة.

ومثالها أيضًا في ذلك مثال عين ماء ينقسم ما ينبع منها إلى خمسة أنهار في خمسة أوجه مختلفة.

أو مثال شجرة لها خمس شُعَب وقوتها منقسمةٌ إليها.

وقد عُلِم أن هذه العين متى سُدَّ مجرى ماء أحد أنهارها توفَّر على أحد الأنهار الأربعة الباقية أو انقسم فيها بالسواد، أو على الأقل والأكثر منها، وليس يغُور ذلك القسط من ماء النهر المسدود ولا يغيض ولا يضيع.

وكذلك الشجرة، إذا قُطِعت شُعبةٌ من شُعَبها صار الغذاء، الذي كان ينصرف إليها من أصول الشجرة وعروقها، متوفِّرًا على شُعَبها الأربع الباقية، حتى تبين في ساقها وورقها وأغصانها وفي زهرها وحبِّها وثمرها، وقد عرف الفلاحون ذلك، وأصحاب الكروم؛ فإنهم يَقْضِبُون من الشجر الشُّعَب والأغصان التي تستمد الغذاء الكثير من الأصول ليتوفر على الباقي فيصير ثمرًا ينتفعون به، وكذلك صنيعهم في الأشجار التي لا تثمر إذا أحبوا أن تغلظ ساق واحدةٍ منها، وتستوي في الانتصاب، ويُسرِع نموها كأشجار السَّرْو والعَرْعَر والدُّلْب وأشباهها مما يُحتاج إلى خشبه بالقطع والنحت والنجر؛ فإنهم يتأملون أيُّ الأغصان أولى بأن ينبُت مستويًا غير مضطرب وأيها أحق بالأصل الذي يمُدُّه بالغذاء، فيُبقونه، ويحذفون الباقي فينشأ ذلك الغصن في أسرع زمان وأقصر مدة لانصراف جميع الغذاء إليه.

وإذا كان هذا ظاهرًا من فعل الطبيعة، فكذلك حال الأعمى في أن إحدى قوى نفسه التي كانت تنصرف إلى مراعاة حسٍّ من حواسه لما قُطعت عن مجراها توفرت النفس بها إما على جهةٍ واحدةٍ أو جهات موزعة، فتبينت الزيادة، وظهرت إما في الذهن والذكاء أو الفكر أو الحفظ أو غيرها من قوى النفس.

وهذا يبين لك أيضًا باعتبار الحيوانات الأُخر؛ فإن منها ما هو في أصل الخلقة وبالطبع مضرورٌ في أحد حواسه أو فاقدٌ له جملةً، وهو في الباقيات منها أذكى من غيره جدًّا، كالحال في الخِلْد؛ فإنه لما فقد آلة البصر كان أذكى شيءٍ سمعًا، وكالحال في النحل فإنه لما ضعُف بصره كان أدهى من المبصرات شمًّا، وأنت تعرف ضعف بصر النحل والنمل والجراد، والزنابير وما أشبهها من الحيوانات التي لا تَطْرِف، ولم تُخلَق لها جفون، وعلى أبصارها غشاءٌ صلبٌ حجري يدفع عنها الآفات، بما يعرض لها في البيوت التي لها جامات الزجاج؛ فإن أحدها يظن أن الجام كوةٌ نافذةٌ إلى الهواء، فلا يزال يصدمه إرادةً للخروج إلى أن يهلك.

فأما صِدْق شمه فهو ظاهرٌ بما يقصده من المشمومات عن المسافة البعيدة جدًّا.

•••

فأما تمتُّع الأعمى بالباه، وقلة الهم؛ فإن سببه أيضًا فقْد النفس إحدى آلاتها التي كانت تقتطعه عن هذه الأشياء بمراعاتها، فإذا انصرفت إلى الفكر في شيء آخر قوي فعلها فيه.

ولما كانت الاهتمامات بالمبصرات كثيرةً، ودواعي النفس إلى اقتنائها شديدة كالملبوسات وأصنافها، والمفروشات وأنواعها، والمتنزهات وألوانها، وبالجملة جميع المدركات بالبصر، ثم فقدته، انقطعت عن أكثر الأشياء التي هي هموم الإنسان، وأسبابه في الفكر، واستخرج الحِيَل في تحصيلها وقت الطمع فيها، وأسفه على فوتها إذا فاتته، فتقل هموم الأعمى لأجل ذلك.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤