المسألة الرابعة والعشرون: مسألة طبيعية وخلقية

ما سبب الجزع من الموت؟ وما الاسترسال إلى الموت؟

وإن كان المعنى الأول أكثر فإن الثاني أبْيَن وأظهر.

وأيُّ المعنيين أجلُّ: الجزع منه أم الاسترسال إليه؟ فإن الكلام في هذه الفصول كثير الرَّيْع جم الفوائد.

الجواب

قال أبو علي مسكويه، رحمه الله:

الجزع من الموت على ضروب وكذلك الاسترسال إليه، وبعضه محمودٌ وبعضه مذمومٌ؛ وذلك أن من الحياة ما هو جيدٌ محبوبٌ، ومنها ما هو رديءٌ مكروهٌ، فيجب من ذلك أن يكون ضدها الذي هو الموت بحَسَبه: منه ما هو حيال الحياة الجيدة المحبوبة فهو رديءٌ مكروهٌ، ومنه ما هو حيال الحياة الرديئة المكروهة فهو جيدٌ محبوب.

ولا بد من تبيين هذه الأقسام ليبين سبب الجزع والاسترسال وأيهما أعلى، فأقول:

إن الحياة المقترنة بالآفات العظيمة، والمهن الهائلة، والآلام الشديدة: مثل أن يُسبي الرجل وأهله وولده ويملكهم قوم أشرارٌ حتى يرى في أهله وولده ما لا طاقة له به، ويُسَام في نفسه وجسمه ما لا صبر عليه، ويقع في الأمراض الشديدة التي لا برء منها، ويُضطر إلى فعل قبيحٍ بأصدقائه وبوالديه، فهذا كله رديءٌ مكروهٌ، وليس أحدٌ يختار العيش فيه ولا يؤْثر الحياة معه، فضده إذًا جيدٌ محبوبٌ؛ لأن الموت أمام هذه المحن في مجاهدة عدو يسوم هذا السوم: موتٌ مختارٌ جيدٌ، فيجب بحسب هذا النظر أن نقول: إن تلك الحياة المكروهة يُستحَب فيها الموت الذي هي ضده؛ فالاسترسال إلى هذا الموت جيد وسببه ظاهر.

وكذلك إذا عُكِسَت الحال؛ فإن الحياة المحبوبة، والعيش المضبوط، التي معها صحة البدن، واعتدال المزاج، ووجود الكفاية من الوجوه الجميلة، والتمكن بهذه الأشياء من السعي نحو السعادة القصوى، وتحصيل الصورة المكملة للإنسان مع مساعدة الإخوان الفضلاء، وقرة العين بالأولاد النجباء، والعز بالعشيرة وأهل البيت الصالحين — كله محبوب مؤثَرٌ جيدٌ، ومقابله إذن الذي هو الموت رديءٌ مكروهٌ؛ لأن الموت ينقطع به استكمال السعادة وإتمام الفضيلة، ويُفوِّته أمرًا عظيمًا كان معرَّضًا له.

فالجزع من هذا الموت واجبٌ وسببه بيِّنٌ.

وهذا ضربٌ من النظر، وبابٌ من الاعتبار.

وضرب آخرٌ وهو أن البقاء بنفسه أمرٌ مختارٌ؛ لأنه وجودٌ متصلٌ، والوجود كريمٌ شريفٌ، وضده العدم رذلٌ خسيسٌ، والرغبة في الشيء الكريم واجبةٌ، كما أن الزهد في الشيء الخسيس واجبٌ.

وإذا كانت حياةٌ ما منقطعة لا محالة، ثم كان ذلك يُفضي إلى حياة أخرى أبديةٍ، ووجودٍ سرمديٍّ، صار هذا الموت غير مكروهٍ إلا بقدر ما يُكرَه من الدواء المر إذا أدى إلى الصحة؛ فإن العلاج المؤلم والدواء الكريه مختاران إذا أديا إلى صحةٍ طويلةٍ وسلامةٍ متصلةٍ؛ فإن لم يكونا مختارين بالذات فهما مختاران بالعرض.

فالإنسان المستبصر الذي يرى أن أُخراه أفضل من دنياه، وآجله خيرٌ له من عاجله، يسترسل إلى الموت استرساله إلى الدواء الكريه والعلاج المؤلم ليُفضي به إلى خير دائم، وإن كان هذا الاختيار بالعرض لا بالذات، وربما ظن ذلك ظنًّا فحسُن أيضًا منه الاسترسال إليه بحسب قوة ظنه وما وقع إقناعه به، كما يحسُن في الدواء إذا قوي ظنه بمعرفة واصفه له.

فأما من خلا من هذا الاعتقاد والظن القوي فهو يجزع من الموت؛ لأنه عدم ما، والعدم مهروب منه، وهذا سبب صحيح وعلة ظاهرة.

وهذا ضرب آخر من الاسترسال إلى الموت والجزع منه، وهو أن من قَوِيَ ظنه واستحكمت بصيرته في عاقبته ومعاده، ولكنه لم يُقدِّم ما يعتقد أنه يسعد به، ولم يتأهب بأهبته، ولا استعد له عدةً، فهو يكره الموت ويجزع منه ولا يسترسل إليه.

وبالضد مَنْ رأى أنه مستعد لعدته، آخذ أهبته، فهو حريص عليه، مسترسل إليه.

وأنت ترى ذلك في أصحاب الأهواء المختلفة والديانات المتضادة، كالهند في تسرُّعهم إلى إحراق نفوسهم وإقدامهم على ضروب المَثْل والقتل في أبدانهم، وكالخوارج في حرصهم على الموت وبذلهم نفوسهم في مواقفهم المشهورة وحروبهم المأثورة، وأن الرجل إذا طُعِن قنَّع فرسه ليسبح في الرمح وينتهي إلى طاعنه ثم قرأ: وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى؛ ولذلك اتخذ أصحاب السلطان في صدور رماحهم [حاجزًا] لئلا يسبح فيها المطعون فيصل إلى الطاعن.

والصابرون على أنواع العذاب وضروب المَثْل والقتل من أهل الأهواء أكثر من أن يُحصوا، وإنما ذكرنا سبب الجزع من الموت، والاسترسال إلى الموت، وأيهما يحسُن وفي أي موضع وعلى أي حال.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤