المسألة الثامنة والعشرون: مسألة طبيعية

لِمَ صار الإنسان يحب شهرًا بعينه ويومًا بعينه؟

ومن أن يتولد للإنسان صورة يوم الجمعة على خلاف صورة يوم الخميس؟

وقيل للرُّوذَكي — وكان أكمه، وهو الذي وُلِد أعمى — كيف اللون عندك؟ قال: مثل الجمل.

الجواب

قال أبو علي مسكويه، رحمه الله:

أما محبة الإنسان شهرًا بعينه؛ فلأجل ما يتفق له فيه من سعادةٍ ما بحصول مأمول، أو ظفر بمطلوب، أو انتظار مرجو في وقت بعينه، أو سرور بعقب غم، أو راحة بعد تعب، وربما استمر ذلك به وتكرر عليه مدة من عمره في وقت بعينه، فأنِسَ به وألفه وأحبه لِمَا يتفق له فيه؛ ولذلك أحب صبيان المسلمين يوم الجمعة وألِفوه بعد ذلك طول عمرهم، وكرهوا يوم السبت؛ لأن يوم الجمعة مفروضٌ لهم فيه الراحة مرخصٌ لهم اللعب، ويتلوه يوم السبت الذي هو يوم تعبهم وعودهم إلى ما يكرهون من فقد اللعب، فأما صبيان اليهود فإنما يعرض لهم ذلك في يوم السبت وما يليه، وصبيان النصارى في يوم الأحد وما يليه، وكذلك أيام الأعياد التي أُطلق للناس فيها الراحة والزينة، يقول النبي : «أيام أكل وشرب وبعال.»

وهذه الأيام مختلفة في أصحاب المِلَل، وكل قوم يحبون الأيام التي هي أعيادهم التي أُطلِق لهم فيها الزينة والمتعة والراحة.

وأما من تساوت به الأحوال من الأمم التي ليست تحت شرع ولا لهم نظام في سيرتهم وأحوالهم، كالزنج وأواخر التُّرك وأشباههم، فليس يلحقهم هذا المعنى، وليس يحبون يومًا بعينه ولا شهرًا ولا وقتًا مخصوصًا.

فأما تولُّد صورة يوم الجمعة على خلاف صورة يوم الخميس فإنه على ما أقول:

إن الزمان الأظهر الأعم الأشهر هو ما تحدثه دورة واحدة من الفلك الأقصى، أعني الذي يدير جميع الأفلاك ويحركها بحركة نفسه إلى غير جهة حركاتها، وذلك من المشرق إلى المغرب من نقطة مفروضة إلى أن يعود إليها، وهو في أربع وعشرين ساعة.

وإنما صار هذا الزمان أظهر للناس لِما يظهر فيه من صباح يعرض، ومساء بيوم وليلة، وسببهما ظهور الشمس في بعض هذه المدة فوق الأرض وغيبتها في بعضٍ تحت الأرض.

وتكرُّر هذه الأدوار هي الأيام والليالي، وفي كل دور منها للناس أفعالٌ وحركات ومواليد ومعاملات ليست في الدورة الأخرى.

ويتعلق بأفعالهم هذه أحكام وأقضية في مدد معلومة، وآجال مفروضة، في مدة مضروبة، يحتاجون فيها إلى نسبتها إلى دورة بعد دورة من الفلك الأقصى التي هي سبب لكون اليوم والليلة لتصح معاملاتهم، وتصدق قضاياهم، وتتعين آجالهم المضروبة في أعمالهم ومعاملاتهم.

وها هنا زمان آخر تحدثه دورة أخرى تختص بها الشمس في سيرها.

وذلك أن تبتدئ الشمس من نقطة مفروضة وتعود إليها بعينها بحركة نفسها دون تحريك المحرك الأول.

وهذه الدورة هي من المغرب إلى المشرق بخلاف تلك.

وتتم الدورة الواحدة من هذه الحركة التي تخص الشمس في ثلاثمائة وخمسة وستين يومًا وربع يوم على التقريب.

وهذا هو زمان أيضًا، ولكنه منسوب إلى حركة الشمس نفسها، ويُسمَّى: «سَنة».

وها هنا زمان آخر قد تعارفه الناس أيضًا واشتهر بينهم، وظهوره وإن لم يكن كظهور الشمس فهو تالٍ له، وهو ما يكون ويحدث بدورة واحدة من حركة القمر التي تخصه دون تحريك المحرك الأول.

وتتم الدورة الواحدة بهذه الحركة التي تخص القمر، وهي أيضًا من المغرب إلى المشرق، في ثمانية وعشرين يومًا، ويُسمَّى «شهرًا».

فهذه الأزمنة الثلاثة لما كانت ظاهرة مكشوفة تراها العيون لأجل تعلُّقها بالشمس والقمر، اللذين هما أنور الكواكب وأبينها وأكبرها في الظاهر، تعارفها الناس وتعاملوا عليها، وحدثت صورة لكل دورة بحسب ما يُقَسِّطه الناس فيها من أعمالهم، وبحسب ما يفشو فيها ويحدث من الأعمار والمواليد، وبحسب نسبة حركاتهم إليها بمبدأ ومنتهى.

وإذا نظر الإنسان إلى هذه الأدوار في أنفسها خالية من حركات الناس وأفعالهم، ولم ينسب إليها حركة أخرى وفعلًا آخر، لم يكن بينها فرق بتة إلا بالتكرر الذي لا بد فيه من العدد بالأول والثاني والثالث وإلى حيث انتهى الإحصاء.

فإن نظر فيها بحسب الأحوال، ونسب إليها أفعالًا وآثارًا، ونظمها بالحساب، حدثت صور مختلفة بحسب اختلاف الأمور الواقعة فيها المنسوبة إليها.

•••

فأما الأكمه الذي ذكرته في المسألة؛ فإن الفاقد حاسة من حواسه لا يتصور شيئًا من محسوساته؛ لأن التصور في النفس من كل محسوس إنما يقع بعد الإحساس به.

وذلك أن هذه القوى من قوى النفس التي تأخذ العلوم من الحواس إنما ترقيها إلى قوة التخيل عن الحس، فحينئذٍ تثبت صورة المحسوس في القوة المتخيلة، وإن زالت صورة الحس وغابت.

فأما إذا فقد الحس فكيف يترقى المحسوس إلى قوة التخيل؟ فبحق صار الأكمه لا يتخيل شيئًا من الألوان ولا يتصوره.

وكذلك إن فقد فاقد حس الشم والسمع من مبدأ ولادته لم يتخيل شيئًا من محسوساتهما لِما قدَّمناه.

وحدثني بعض أهل التحصيل من المتفلسفين أنه سأل رجلًا أكمه: كيف يتصور البياض؟ فقال: «حلو.»

فكأنه لما لم يجد صورة البياض في تخيُّله ردها إلى حاسة أخرى هو واجد لمحسوسها فسمَّاها بها وظنها إياها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤