المسألة التاسعة والعشرون: مسألة في حد الظلم

ما معنى قول الشاعر:

والظلم في خُلُق النفوس فإن تجد
ذا عفة فلعلة لا يظلمُ

وما حد الظلم أولًا؟ فإن المتكلمين ينفكون في هذه المواضيع كثيرًا ولا يُنصفون شيئًا وكأنهم في الغضب والخصام.

وسمعت فلانًا في وزارته يقول: «أنا أتلذذ بالظلم»، فما هو هذا؟

ومن أين منشؤه، أعني الظلم؟ أهو من فعل الإنسان أم هو من آثار الطبيعة؟

الجواب

قال أبو علي مسكويه، رحمه الله:

الظلم انحرافٌ عن العدل.

ولما احتيج في فهمه إلى فهم العدل أفردنا له كلامًا ستقف عليه ملخَّصًا مشروحًا، وهو في معنى الجور الذي هو مصدر جار يجور، إلا أن الجور يُستعمل في الطريق وغيره إذا عُدِلَ فيه عن السَّمْت، والظلم أخص بمقابلة العدل الذي يكون في المعاملات؛ فالعدل من الاعتدال، وهو التقسيط بالسوية، وهذه السوية من المساواة بين الأشياء الكثيرة، والمساواة هي التي تُوجِد الكثرة وتعطيها الوجود وتحفظ عليها النظام.

وبالعدل والمساواة تشيع المحبة بين الناس، وتأتلف نياتهم، وتَعمُر مدنهم، وتتم معاملتهم، وتقوم سُننهم.

ولشرح هذا الكلام، وتحقيق مائية القول في العدل وذكر أقسامه وخصائصه، بسطٌ كثير لم آمن طوله عليك وخروجي فيه عن الشريطة التي اشترطتها في أول الرسالة من الإيجاز؛ ولذلك أفردتُ فيه رسالة ستأتيك مقترنةً بهذه المسألة على ما يشفيك بمعونة الله.

ولو أصبنا فيه كلامًا مستوفًى لحكيم مشهور أو كتابًا مؤلفًا مشروحًا لأرشدنا إليه على عادتنا وأحلْنا عليه كرسمنا، ولكنا لم نعرف فيه إلا رسالةً لجالينوس مستخرجةً من كلام أفلاطون، وليست كفايةً في هذا المعنى، وإنما هي حضٌّ على العدل وتبيينٌ لفضله وأنه أمرٌ مؤثَرٌ محبوبٌ لنفسه.

وإذا عرفت العدل من تلك الرسالة، عرفت منه ما عدل عنه ولم يقصد سمته.

وكما أن إصابة السهم من الغرض إنما هو نقطة منه، فأما الخطأ والعدول عنها فكثير بلا نهاية، فكذلك العدل لما كان كالنقطة بين الأمور تقسمها بالسوية كانت جهات العدول عنها كثيرةً بلا نهاية، وعلى حسب القرب والبعد يكون ظهور القبح وشناعة الظلم.

فأما قول الشاعر: «والظلم في خلق النفوس» فمعنى شعري لا يحتمل من النقد إلا قدر ما يليق بصناعة الشعر.

ولو حملنا معاني الشعر على تصحيح الفلسفة، وتنقيح المنطق لقلَّ سليمه، وانتُهِك حريمه، وكنا مع ذلك ظالمين له بأكثر مما ظلم الشاعر النفوس التي زعم أن الظلم في خلقها.

على أنَّا لو ذهبنا نحتج له، ونخرِّج تأويله لوجدنا مذهبًا، وأصبنا مسلكًا، ولكن هذه الأجوبة مبنيةٌ على تحقيقات مغالطة الشعراء ومذاهبهم وعاداتهم في صناعتهم.

ثم أقول:

إن الظلم الذي ذكرنا حقيقته يجري مجرى غيره من سائر الأفعال؛ فإن صدَر عن هيئة نفسانية من غير فكر ولا رويةٍ سُمِّي خُلُقًا وكان صاحبه ظلومًا، وهذه سبيل غيره من الأفعال المنسوبة إلى الخُلُق؛ لأنها صادرةٌ عن هيئات وملَكاتٍ من غير روية.

فأما إذا ظهر الفعل بعد فكر ورويةٍ فليس عن خُلُق مذمومًا كان أم ممدوحًا، وإذا لم يكن عن خُلُق فكيف يكون عن خُلُق.

وإنما يستمر الفاعل على فعلٍ ما برويةٍ منه فتحدث من تلك الروية الدائمة هيئةٌ تصدر عنها الأفعال من بعد بلا روية فتُسمَّى تلك الهيئة: «خُلُقًا».

فأما الشيء الصادر عن هذه الهيئة؛ فإنه إن كان عملًا باقي الهيئة والأثر سُمِّي «صناعة» واشتُق من ذلك العمل اسمٌ يدل على المَلَكَة التي صدر عنها كالنجَّار والحدَّاد والصائغ والكاتب؛ فإن هذه الأعمال إذا صدرت من أصحابها بلا رويةٍ سُمُّوا بهذه الأشياء ووُصِفوا بهذه الصفات.

فأما إن تكلَّف إنسانٌ استعمال آلة النجارة والحدادة والكتابة والصياغة فأظهر فعلًا يسيرًا برويةٍ وفكر، فعلى سبيل حكايةٍ وتكلُّف؛ فإن أحدًا لا يُسمِّي هذا نجارًا ولا كاتبًا؛ ولذلك لم يُسمَّ من عمل بيتًا وبيتين شاعرًا، ولا من خاط بسلك أو سلكين خياطًا.

والصناعة كلها تجري هذا المجرى؛ فهذه الأعمال كما نراها، والأفعال أيضًا التي لا تبقى آثارُها جاريةٌ هذا المجرى.

وعلى هذه السبيل جرت أمور الأخلاق والأفعال الصادرة عنها؛ لأن الأخلاق هيئات للنفوس تصدر عنها أفعالُها بلا رَوِيَّة ولا فكر.

•••

فأما الوزير الذي سمعته يقول: «أنا أتلذذ بالظلم»؛ فإن الاختيارات المذمومة كلها إذا صار منها هيئات وملَكات صارت شرورًا وسُمِّي أصحابها: أشرارًا.

وليس يختص الظلم في استحقاق اسم الشر وخروجه عن الوسائط التي هي فضائل النفس بشيء دون أمثاله ونظائره.

وفقد هذه الوسائط هو شرور ورذائل تلحق النفوس، كالشره والبخل والجبن، سوى أن الظلم اختص بالمعاملة وتُرِكَ به طلب الاعتذار والمساواة.

وهذه النسبة العادلة والمساواة في المعاملة قد بيَّنها أرسططاليس في كتاب الأخلاق، وأن المعاملة هي نسبةٌ بين البائع والمُشترِي والمَبيع والمُشترَى، وأن نسبة الأول إلى الثاني كنسبة الثالث إلى الرابع على التكافؤ، وفي النسبة والتبديل فيها، وعلى ما هو مشروح مبَيَّن في غيره من الكتب.

فأما قولهم: لا يزال الناس بخير ما تفاوتوا، فإذا تساووا هلكوا؛ فإنهم لم يذهبوا فيه إلى التفاوت في العدل الذي يساوي بينهم في التعايش، وإنما ذهبوا فيه إلى الأمور التي يتم بها التمدن والاجتماع، والتفاوت بالآحاد ها هنا هو النظام للكل.

وقيل: إن الإنسان مدني بالطبع، فإذا تساوى الناس في الاستغناء هلكت المدنية وبطل الاجتماع.

وقد تبين أن اختلاف الناس في الأعمال وانفراد كل واحد منهم بعمل هو الذي يُحدث نظام الكل ويُتم المدنية، ومثال ذلك الكتابة التي كلِّيَّتها تتم باختلاف الحروف في هيئاتها وأشكالها وأوضاع بعضها عند بعض؛ فإن هذا الاختلاف هو الذي يُقوِّم ذات الكتابة التي هي كُلِّية، ولو استوت الحروف لبطلت الكتابة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤