المسألة الخامسة والثلاثون

ما معنى قول الناس: هذا من الله، وهذا بالله، وهذا إلى الله، وهذا على الله، وهذا من تدبير الله، وهذا بتدبير الله، وهذا بإرادة الله، وهذا بعلم الله؟

•••

وحكاية طويلة في إثر هذه المسألة عن شيخ فاضل مُقَرَّظ وجوابات له.

الجواب

قال أبو علي مسكويه، رحمه الله:

أما الناس ومقصدهم بهذه الحروف من المعاني فلا يمكن أن يُعتذَر له لكثرة وجوه مقاصدهم واختلاف آرائهم ومذاهبهم، وليس من العدل تكليفنا ذلك، ولو ذهبنا نعدِّد آراء الناس لطال، فكيف الاعتذار لهم وتأويل أقوالهم.

وأنا أضمن بالجملة أن أُعرِّفك وجه الصواب عندي في هذه المسائل وما أذهب إليه، وأجتهد لك في إيضاحه على غاية الاختصار والإيماء، كما شرطته في الرسالة التي صدَّرت بها، فأقول:

إن جميع ما يطلق على الله تعالى ذِكْره من هذه المعاني، وما يُنسَب إليه من الأفعال والأسماء والصفات، إنما هو على المجاز والتسمُّح، وليس يطابق شيءٌ من حقائق ما نتعارفه بيننا بهذه الألفاظ شيئًا مما هناك.

وأول ذلك أن لفظة «مِن» في هذه المسائل تُستعمل في اللغة وبحسب ما قاله النحويون لابتداء الغاية، ولفظة «إلى» لانتهاء الغاية، والباء للاستعانة، وكذلك سائر الحروف لها معانٍ مبيَّنةٌ عندهم.

ولست أُطلِق شيئًا من هذه الحقائق في الله — عز وجل — إلا مجازًا؛ فإني لا أقول إن لفعله ابتداءً ولا نهاية ولا له استعانة بشيء، فنطلق عليه الباء، أعني أن يُقال هذا بتدبير الله، ولا تدبير هناك، ولا حاجة به إلى هذا الفعل ولا غيره، وكذلك أقول في سائر الأفعال المنسوبة إليه، وكذلك أقول في الأسماء والصفات التي أطلقت ورخَّص فيها صاحب الشريعة، وإنما أتبع فيها الأثر، وأمتثل باستعمالها الأمر، وإلا فمن ذا الذي يطلق حقيقة الرحمن الرحيم وغيرهما من الأوصاف على الباري المتعالي عن الانفعالات، وإنما الرحمة انفعال للنفس تصدر بحسبها أفعال محمودة بيننا، وليس هناك شيء من هذه المعاني والحقائق، ولكن لما كان الإنسان قدير الجُهد والوُسْع، وليس عليه ما لا يفي به ولا يطيقه أطلق أكرم الأسماء التي هي ممدوحة شريفة بيننا على الله تعالى كمثل السميع العليم والجبار العزيز وأشباهها.

وأنا أعتقد أن الشرع خاصة أطلق لنا هذه الأسماء والصفات، ولو خُلِّينا ورأْينا لَمَا أقدمنا على شيء منها أصلًا برخصةٍ ولا سبب، فإذا سمعنا بشيء من هذه الأسماء والأفعال والحروف منسوبة إلى الله تعالى نظرنا فيه: فإن كان مطلَقًا في الشريعة أطلقناه، ثم تأمَّلنا مراد قائله؛ فإن كان خيرًا وحكمة وعدلًا تركناه ورأيه، وإن لم يكن كذلك ولا لائقًا بإضافته إليه أبطلناه وزيَّفناه وكذَّبنا قائله ونزَّهنا بارئنا الواحد المنزه المتعالي عن هذه الأوصاف الباطلة.

•••

ثم إني وجدتك — أيَّدك الله — تحكي في هذه المسألة جوابات عن شيخ فاضل تُثني عليه وتسكن إلى قوله وتقنع بأجوبته، فرأيتُ أن أقنع أنا أيضًا لك بها، وذلك أنك ذكرت في آخر المسألة ما هذه حكايته:

طال هذا الفصل عن هذا الشيخ في معانٍ متفرقة تجمع فوائد غريبة بألفاظ مختارة وتأليفات مستحسنة، ولو أمكن أن يتلو كل ما تقدَّم مثل هذا لكان في ذلك للعين قُرة وللروح راحة، ولكن الوقت مانع من المفروض الموظَّف فضلًا عن غيره، وأنا إلى إتمام الرسالة أحوج مني إلى غيره.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤