المسألة الثامنة والثلاثون

ما سبب محبة الناس لمن قل رُزْؤُه حتى إنهم ليهيئون الطعام الشهي له بالغُرْم الثقيل ويحملونه إليه في الجُوَن على الرءوس ويضعونه بين يديه.

وكلما ازداد ذلك الزاهد تمنعًا ازداد هؤلاء لجاجة؛ فإن مات اتخذوا قبره مُصَلًّى وقالوا: كان كثير الصوم قليل الرزء.

وإذا عرض لهم من يأكل الكثير ويتذرَّع في اللَّقْم مقتوه ونبذوه وكرهوا قُرْبه واستسرفوا أدبه؟

ولعلةٍ ما هجر الناس زيارة مقابر الملوك والخلفاء ولهجوا بزيارة قبور أصحاب البَت والخلقان وأهل الضعف والمسكنة.

الجواب

قال أبو علي مسكويه، رحمه الله:

ذلك لأن الإنسان بنفسه النامية يناسب النبات، وبنفسه المتحركة بالإرادة يناسب البهائم، وبنفسه الناطقة يناسب الملائكة، فهو إنما فضُل وشرُف بهذه الأخيرة، والاغتذاء من خاصة النبات، وإن كان يعم الحيوان أيضًا لأجل ما فيه من القوة النامية.

فأما النفس الناطقة فلا حاجة بها إلى الأكل والشرب.

ولما كانت الملائكة أشرف من الإنس لاستغنائها بذاتها عن الغذاء وبقاء جوهرها، كان الإنسان المناسب لها بنفسه أكثر وأشرف من الإنسان الذي يناسب النبات والبهائم نسبةً أكثر.

وكما أن الإنسان يستخف بالنبات والبهيمة ويستخدمها، ويعظِّم الملائكة ويُسبِّحها، فكذلك من الواجب في كل شيء كان مناسبًا لتلك أن يكون مهانًا مستخَفًّا به، وكل ما كان مناسبًا لهذا أن يكون معظَّمًا مشرَّفًا.

وهذا أبين من أن يُبسَط فيه قول ويُتكلَّف له جواب، ولكنا لم نحب الإخلال بالمسألة رأسًا فلذلك علَّقنا فيه هذا القدْر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤