المسألة الثانية والأربعون: مسألة إرادية وخلقية ولغوية

ما سبب ذم الناس البخل مع غلبة البخل عليهم؟
وما سبب مدحهم الجود مع قلة ذلك فيهم؟
وهل الجود والبخل طبيعيان أو مكسوبان؟
وهل بين البخيل واللئيم والشحيح والمَنُوع والنَّذْل والوَتِح والمَسِيك والجَعْد والكَزِّ فروق؟

الجواب

قال أبو علي مسكويه، رحمه الله:

أما سبب ذم الناس البخل؛ فلأن البخل منع الحق من مستحقه على الشروط التي قد تقدَّم ذكرها، وهو في نفسه أمرٌ مستقبحٌ عند العقل، وليس يمنع من استقباحه غلبته عليهم، وهو خُلُق مذموم ومرض للنفس مكروه، وكما لا يمنعهم ذم أمراض البدن وإن كانت موجودةً لهم، كذلك لا يُمنع ذم أمراض النفس وإن كانت غالبةً عليهم، على أن الإنسان في أكثر الأمر يذم هذا العارض للنفس من البخل ولا يعترف أنه موجودٌ فيه إلا إذا كان منصفًا من نفسه عارفًا بما لها وما عليها، فقد سمعتُ جماعة من الأصدقاء يذمون أنفسهم بأمور ويشكون أنهم في جهد من مداواتها وحرصٍ على إزالتها، وأن العادة السيئة قد أفسدت عليهم كثيرًا من أخلاقهم.

وأما سبب مدحهم الجود فلأن الجود في نفسه أمرٌ حسنٌ محبوب، وقد مر حده فيما مضى، وهو في النفس كالصحة في البدن؛ فالناس يؤثرونه ويمدحونه وُجِدَ لهم أم لم يُوجد.

وأما قولك: هل الجود والبخل طبيعيان أم مكسوبان؟ فإن الأخلاق بأجمعها ليست طبيعيةً، ولو كانت كذلك لَمَا عالجناها ولا أمرنا بإصلاحها ولا طمعنا في نقلها وإزالتها إذا كانت قبيحة، ولكانت بمنزلة الحرارة والإضاءة في النار وبمنزلة الثقل والِارْجِحْنان في الأرض، فإن أحدًا لا يروم معالجة هذه الطبائع ولا إزالتها ونقلها، ولكنا نقول: إنها وإن لم تكن طبيعية فإنها بسوء العادة أو بحسنها تصير قريبةً من الطبيعة في صعوبة العلاج وإزالة الصورة من النفس.

ولسنا نُسمِّيها خُلُقًا إلا بعد أن تصير هيئةً للنفس يصدر أبدًا عنها فعلٌ واحدٌ بلا روية، فأما قبل ذلك فلا تُسمَّى خُلُقًا، ولا يُقال: فلان بخيل ولا جواد إلا إذا كان ذلك دأبه.

فأما الطفل والناشئ فقد يكون مستعدًّا بمزاج خاص له نحو قبول خُلُق بعينه، لكنه يؤدَّب ويُعوَّد الأفعال الجميلة لتصير صورةً لنفسه وهيئةً لها يصدر عنها أبدًا ذلك الفعل المحمود، كما يكون مستعدًّا لقبول مرض بعينه فيعالج بالأغذية والأدوية إلى أن يُنقل من ذلك الاستعداد إلى ضده بتبديل المزاج إلى أن يصح، ولا يقبل ذلك المرض.

•••

وأما قولك: هل بين الألفاظ التي عددتها فروق؟ فلعمري إن بينها فروقًا:

أما البخيل واللئيم، فقد فرَّقنا بينهما فيما تقدَّم من أن اللؤم أعم من البخل؛ لأن كل لئيم بخيلٌ، وليس كل بخيلٍ لئيمًا، واللؤم لا يختص بالمال والأعراض حسب، بل يكون في النَّسب والهمة، والبخل خاص بالأخذ والإعطاء.

وأما المسيك والمنوع فاشتقاقهما يدل على معناهما.

وأما الجعد والكز فلفظتان مستعارتان مأخوذتان من الجمادات.

وأما النذل والوَتِح فاسما مبالغة في الذم، وكل واحد أبلغ من الآخر، والنذالة أبلغ من القلة والوَتَاحَة، وفي مثل للعامة: فلان مقدد العرس، وذكره بعينه أرسططاليس، ودلني على أن تلك اللغة وافقت هذه اللغة في هذا المثل أو أخذه قوم عن قوم، وهذا قد تجاوز البخل الذي هو منع الحق أهله على الشروط وانحط إلى غاية في معاملة نفسه أكثر من غاية البخيل في معاملة غيره.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤