المسألة السابعة والأربعون: مسألة في الرؤيا

ما السبب في صحة بعض الرؤى وفساد بعضها؟
ولِمَ لم تصح الرؤى كلها أو لِمَ لم تفسد كلها؟
وعلامَ يدل ترجُّحها بين هذين الطرفين؟ فلعل في ذلك سرًّا يظهر بالامتحان.

الجواب

قال أبو علي مسكويه، رحمه الله:

قد صح وثبت من المباحث الفلسفية أن النفس أعلى من الزمان، وأن أفعالها غير متعلقة بشيء من الزمان ولا محتاجة إليه؛ إذ الزمان تابع للحركة، والحركة خاصة بالطبيعة، وإذا كان ذلك كذلك فالأشياء كلها حاضرة في النفس سواء الماضي والمستقبل منها، فهي تراها بعين واحدة، والنوم إنما هو تعطيل النفس بعض آلاتها إجمامًا لها — أعني بالآلات الحواس — وهي إذا عطلت هذه الحواس بقيت لها أفعال أُخَر ذاتية خاصة بها من الحركة التي تُسمَّى رؤية وجولانًا نفسانيًّا، وهذه الحركة التي لها في ذاتها تكون لها بحسب حالين: إما إلهيًّا وهو نظرها في أفقها الأعلى، وإما طبيعيًّا وهو نظرها في أفقها الأدنى.

وكما أنها إذا كانت مستيقظة ترى بحاسة العين الشيء مرة رؤية جلية، ومرة رؤية خفية بحسب القوة الباصرة من الحدة والكلال، وبحسب الشيء المنظور إليه في اعتدال المسافة، وبحسب الأشياء الحائلة بينها وبينه من الرقة والكثافة، وهذه أحوال لا يستوي فيها النظر، بل ربما نظر الناظر بحسب واحدة من هذه العوارض إلى حيوان فظنه جمادًا، وربما ظنه سبعًا وهو إنسان، وربما ظنه زيدًا وهو عمرو، فإذا زالت تلك الموانع وارتفعت العوائق أبصرها بصرًا تامًّا، كذلك حالها إذا كانت نائمة أي غير مستعملة آلة الحس إنما ترى من الشيء ما يحصل من الرسم الأول — أعني الجنس العالي الشامل للأشياء التي هو عامٌّ لها — ثم لا يزال يتخلص لها بصورة بعد صورة حتى تراه صريحًا بيِّنًا؛ فإن اتفق أن ترى من الشيء رسمه احتيج فيما تراه إلى تأويل وعبارة، وإن رأته مكشوفًا مصرحًا كانت الرؤيا غير محتاجة إلى التفسير، بل يكون الشيء بعينه الذي رأته في النوم هو الذي ستراه في اليقظة.

وهذا هو القسم الذي لها بحسب نظرها السريع الشريف الذي من أفقها الأعلى، وبه تكون الإنذارات والرؤيا الصادقة التي هي جزء من النبوة.

فأما القسم الآخر الذي لها بحسب نظرها الأدون من أفقها الأسفل؛ فإنها تتصفح الأشياء المخزونة عندها من الصور الحسية التي إنما استقتها من المبصرات والمسموعات بالحواس، وهي منثورة لا نظام لها ولا فيها إنذار بشيء، وربما ركَّبت هذه الصور تركيبًا عبثيًّا كما يفعله الإنسان الساهي أو العابث من أفعال لا يقصد بها غرضًا، كالولع بالأطراف وبما يليها من الأشياء ولا فائدة له فيها، وهذه الرؤى لا تتأول وإنما هي الأضْغَاث التي سمعتَ بها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤