المسألة الثامنة والأربعون
ما الرؤيا؛ فقد جلَّ الخطب فيها، وهي جزء من أجزاء النبوة، وما الذي يَرى ما يُرى؟ وما الذي يُرى ما يُرى؟ النفس أم الطبيعة أم الإنسان؟
وأكره أن أترقَّى إلى البحث عن النفس وتحقيق شأنها وما قال الأولون والآخرون فيها.
وإذا كان هذا معجزًا، وعن الطاقة بارزًا، فما ظنك بالبحث عن العقل، وأُفقه أعلى، وعالمه أشرف، وآثاره ألطف، وميزانه أشد اتصالًا، وبرهانه أبعد مجالًا، وشعاعه أقوى سلطانًا، وفوائده أكثر عيانًا؟!
الجواب
قال أبو علي مسكويه، رحمه الله:
إن النفس ترى عند غيبة المرئيات ما تراه في حضورها؛ وذلك بحصول صورها في الحاس المشترك.
وهذه حال يجدها الإنسان من نفسه ضرورة لا يمكنه أن يدفعني عنها، وإلا فمن أين لنا صورة بغداد وخُرَاسان والبلاد التي شاهدناها مرة ثم منازلنا بها وصور أصدقائنا فيها وجميع ما نتذكره منذ الصِّبا، لولا حصول هذه الصورة في الحاس المشترك؟ سيما وقد تبيَّن بيانًا لا ريب فيه أن البصر وسائر الحواس إنما هي انفعالات من المحسوسات واستحالات إليها، وهذه الاستحالة لا تثبت بعد زوال المحسوس المُخَيَّل، فلولا هذا الحاس المشترك العام الذي تثبت فيه صور المحسوسات ولا تزول، لكنا إذا أبصرنا شيئًا أو سمعناه ثم زال عن بصرنا وسمعنا زالت عنا صورته البتة، حتى لا يمكننا أن نعرف صورته إلا إذا وقعت أبصارنا وأسماعنا عليه ثانيًا، ولكنا أيضًا مع إبصارنا له ثانيًا وثالثًا لا نعلم أنه الأول، وكذلك المسموعات.
ولولا أننا نستثبت صورة المحسوسات أولًا أولًا في هذه القوة — أعني الحاس العام المشترك — لكُنا لا نستفيد بالقراءة ورؤية الرقص والحركات كلها التي تنتهي مع آنَات الزمان شيئًا ألبتة؛ لأن البصر مستحيلٌ بقراءة الحرف بعد الحرف، وبالحركة بعد الحركة، فلا تثبت الحالة الأولى من استحالتها، ولو ثبتت الأولى لَمَا حصلت الثانية، لكن الأمر بالضد في وجودنا هذه الصُّور بعد مفارقتها كأنها نُصْب عيوننا تراها النفس.
وهذه الرؤية التي تُسمَّى تذكُّرًا في اليقظة هي بعينها تُسمَّى في النوم رؤيا، ولكن هناك حال أخرى زائدةٌ على حال اليقظة؛ لأن قوى النفس عند تعطيل الحواس تتوفر على الرؤية، فترى أيضًا الأشياء الآتية في الزمان المستقبل: إما رؤية جلية وإما رؤية خفية كالرسم.
واشتقاق هذه الألفاظ يدلك — أيها الشيخ اللغوي أيَّدك الله — أن المعنى فيها واحد؛ لأن الرؤية والرَّوِية والرؤيا — وإن اختلفت بالحركات — فهي متفقة بالحروف، وكذلك إذا قلت: رأى فلان، وارتأى وروَّى، فهذه صورة الأسماء المشتقة، وأنت تعرف أحكامها لدُرْبَتك بها.
وكذلك الحال في أبصر واستبصر، وفي البصر والبصيرة.
فأما لفظة النظر فإنها استُعملت بعينها في الأمرين جميعًا من غير زيادة ولا نقصان، فقيل لما كان بالحس: نظر، ولما كان بالعقل: نظر، من غير تغيير لحركة ولا تبديل لحرف.
فقد تبيَّن ما الرؤيا، وما الذي يَرَى، وما الذي يُرَى:
أما الرؤيا فهي ملاحظة النفس صور الأشياء مجردة من موادها عند النوم.
وأما الذي يَرى فالنفس بالآلة التي وصفناها.
وأما الذي يُرى فالصورة المجردة.
وقد مر في المسألة المتقدمة كيف يكون بعض المنام صادقًا وبعضه كاذبًا وبعضه إنذارًا وبعضه أحلامًا وبعضه أضغاثًا، ولكن بغاية الإيجاز لأنَّا لو شرحنا هذه المواضع لاحتجنا إلى تصنيف عدة كُتُب نقرر فيها الأصول ونلخص بعدها الحروف، ولكن الشرط سبق بغير هذا، وسرعة فهمك — أمتع الله بك — وقبولك لِمَا يُشَار به يقتضي ما رأيناه وَوَأَيْنَاه.