المسألة التاسعة والأربعون: مسألة إرادية وخلقية

ما السبب في تصافي شخصين لا تشابه بينهما في الصورة، ولا تشاكل عندهما في الخِلقة، ولا تجاور بينهما في الدار، كواحد من فَرْغَانَة وآخر من تَاهَرْت، وهذا طويلٌ قويم وهذا قصيرٌ ذميم، وهذا شَخْتٌ عَجْف وهذا عِلْجٌ جِلْف، وهذا أَزَبُّ أَشْعَر وهذا أَمْعَر أَزْعَر، وهذا أَعْيَا من بَاقِل وهذا أبلغ من سَحْبَان وائل، وهذا أجود من السحاب إذا سحَّ بِوَدْق بعد بَرْق وهذا أبخل من كلب على عَرْق إذا ظفر بعَرْق، وبينهما من الخلاف والاختلاف ما يُعجِّب الناظر إليهما والفاحص عن أمرهما.

وعلى ذكر الخلاف والاختلاف، ما الخلاف والاختلاف؟ وما الإلف والائتلاف؟

نعم، ثم لا تراهما إلا متمازجَين في الأخذ والإعطاء، والصدق والوفاء، والعقد والولاء، والنقص والنماء، بغير نِحلةٍ عامة، ولا مقالة ضامَّة، ولا حالٍ جامعة، ولا طبيعةٍ مضارِعة.

ثم هذا التصافي ليس يختص ذَكَرًا وذَكَرًا دون ذَكَر وأنثى ودون أنثى وأنثى.

وإذا تنفَّس الاعتبار أدى إلى طُرُق مختلفة: منها أن التصافي قد يمتد، وقد ينقطع، ففيما يمتد ما يبلغ آخر الدهر، وفيما ينقطع ما لا يثبت إلا شهرًا أو أقل من شهر.

ومن أعجب ما ينبع منه العداوة والشحناء، والحسد والبغضاء، حتى كأن ذلك التصافي كان عين التنافي، وحتى يُفضي إلى عظائم الأمور، وإلى غرائب الشرور، وإلى ما يفني التالد والطارف ويأتي على البقية المرجوة.

وربما سرت العداوة في الأولاد كأنها بعض الإرث، وربما زادت على ما كانت بين الآباء.

وهذا باب عسر، وللتعجب فيه مجال وموقع، والعلل فيه مخبوءة.

وقلَّما تصيب في زمانك هذا ذهنًا يُولَع بالبحث عن غامضه، ويلهج بالمسألة عن مُشْكِله.

وليتهم إذ زهدوا في هذه الحِكَم لم يقذفوا الخائضين فيها والمنقِّبين عنها بالتهم!

الجواب

قال أبو علي مسكويه، رحمه الله:

سبب الصداقات بين الناس ينقسم أولًا إلى قسمَين عاليَين، وهما أسباب الذاتي والعرضي.

ثم ينقسم كل واحد منهما إلى أقسام، وبحسب أقسام المودات تنقسم أيضًا أسباب العداوات.

وإذا عُرِفَ أحد المتقابلَين عُرِفَ مقابله الآخر لأن أقسامه كأقسامه.

أما السبب الذاتي من أسباب التصافي فهو السبب الذي لا يستحيل ويبقى ببقاء الشخصين، وهو نسبةٌ بين الجوهرين، إما من المزاج الخاص العناصر، وإما من النفس والطبيعة.

فأما المزاج فقد يوجد بين الإنسانَين وبين البهيمتين؛ فإن تشاكُل الأمزجة يؤلِّف ويجذب أحد المتشاكلين بها إلى الآخر من غير قصد ولا روية ولا اختيار، كما تجد ذلك في كثير من أنواع البهائم والطير والحشرات.

وكذلك تجد بين الأمزجة المتباعدة عداوات ومنافرات من غير قصد ولا روية ولا اختيار، وإذا تصفحت ذلك وجدته أكثر من أن يُحصى.

وإن ارتقيتَ من الأمزجة إلى البسائط من الأمور وجدتَ هذا مستمرًّا أيضًا فيها — أعني المشاكلة والمحبة والمنافرة والعداوة — فإن بين الماء والنار من المنافرة والمعاداة، وهرب كل واحد منهما من صاحبه ليبعُد عنه، ثم ميل كل واحد منهما إلى جنسه وطلبه لشكله ليتصل به، أمر لا خفاء به على أحد.

فإن انضاف إلى ذلك مزاج مناسب بتأليف موافق ظهر السبب وقَوِيَ، كما يوجد بين حجر المغناطيس والحديد، وبين حجري الخِل، أعني محب الخِل وباغض الخِل.

وفي الحيوان من هذا المعنى شيء كثير بيِّن لا يحتاج إلى تعديده وإطالة الجواب بذكره.

وإذا كان اتفاق الجسمين يُوجب المودة بالجوهر وبالمزاج الخاص، فكم بالحري أن يوجبها اتفاق النفسين إذا كان بينهما مناسبة ومشاكلة.

•••

وأما الأسباب العرضية فهي كثيرة وبعضها أقوى من بعض:

فأحد أسباب المودة العرضية العادة والإلف.

والثاني الأمر النافع أو المظنون به النفع.

والثالث اللذة، والرابع الأمل، والخامس الصناعات والأغراض، والسادس المذاهب والآراء، والسابع العصبيات.

ثم طول مكث أحد هذه الأسباب وقِصَره علة طول المودات وقِصَرها.

ومثال النافع مودات الأتباع أو الخدم وأربابهم، وأصحاب الشركة والتجارات، وطلاب الأرباح والمكاسب.

ومثال اللذيذ مودة الرجل والمرأة، على أن هناك أيضًا مودة النافع، ومودة الآمل، فهو لذلك قوي وثيق، ومودة المتعاشقين المتعاشرين على المأكول والمشروب والمركوب وما أشبه ذلك.

وأما مثال الرجاء والأمل فكثير، ولعل مودة الوالدين للولد فيها شيء من هذا الضرب؛ لأنه متى زال الأمل وقوِي اليأس انتفيا من الولد وزالت المودة وحدث البغض.

فأما مودة الولد فالنفع لا غير ثم يصير مع ذلك أيضًا إلْفًا.

ولست أقول إن الأسباب كلها في مودة الوالدين ما ذكرته؛ فإن هناك أسبابًا أُخَر طبيعية ولكن فيها شيءٌ كثير من هذا المعنى.

ومثال الصناعات والأغراض كثيرٌ ظاهرٌ لا يحتاج إلى ذِكْره مع ظهوره.

ومثال النِّحَل والعصبيات كذلك أيضًا في البيان والظهور.

•••

وهذه الأقسام محصورة تحت قُوى النفس البهيمية والغضبية والناطقة.

فما كان منها عن نسبةٍ ومشاكلة بين النفس النامية والبهيمية كان منه أسباب المودة للذيذ أو النافع.

وما كان منها بسبب مشاكلة بين النفس الغضبية كان منه أسباب المودة للغلبة كالاجتماع للصيد والحرب، وسائر العصبيات التي تكون فيها قوة الغضب.

وما كان منها عن نسبة ومشاكلة في النفس الناطقة كان منه المودة التي للدِّين والآراء.

وهذه تتركب وتنفرد، فكلما تركبت وكثُرت الأسباب قويت المودة، وكلما تفردت ضعفت المودة، ويكون زمان المُكْث بحسب ذلك أيضًا.

وأقوى الأسباب المفردة العرضية ما كان عن النفس الناطقة ويتلوه ما كان عن النفس الغضبية.

وأنت تستقرئ ذلك وتتبينه لئلا يطول الجواب فيخرج عن الشرط الأول من تحري الإيجاز.

وجميعها يزول بزوال أسبابها، وليس منها شيء ثابت لا يزول إلا الجوهري الذاتي إما نفسًا وإما طبيعة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤