المسألة الخامسة: مسألة اختيارية
لِمَ طُلِبت الدنيا بالعلم والعلم ينهى عن ذلك؟ ولِمَ لم يُطلب العلم بالدنيا والعلم يأمر بذلك؟
وقد يقول من ضعفت غريزته وساء أدبه وجرؤ مقدمه: قد رأينا من ترك طلب الدنيا بالعلم، ورأينا من طلب العلم بالدنيا، فليعلم أن المسألة ما وُضِعت هناك ولا فُرِضت كذاك، ولو سدَّد هذا المعترض فكره عرف الفحوى، ولحق المرمى، ولم يعارض بَادِرًا بشائع، ولم يناقض نادرًا بذائع.
الجواب
أما طلب الدنيا فضروري للإنسان لِما ذكرناه؛ فإن وجوده بأحد جزأَيه طبيعي ولا بد من إقامة هذا الجزء بمادته؛ لأنه سيَّال دائم التحلل ولا بد من تعويض ما يتحلل منه.
- أحدها: أنها تؤدي إلى تفاوت الجسم الذي سعينا لحفظ اعتداله.
- والثاني: أنها تعوقنا عما هو أخص بنا من حيث نحن ناس، أعنى الجزء الآخر الذي هو فضيلة.
فمن طلب بالعلم من الدنيا قدر الحاجة في حفظ الصحة على الجسد فهو مصيب تابع لِما يرسمه العقل ويأمر به العلم.
ومن طلب أكثر من ذلك فهو مفرط مسرف.
وموضع الاعتدال من الطلب هو الصعب، وهو الذي ينبغي أن يُلقى فيه أهل الحكمة والعلم، وتُقرأ له كُتُب الأخلاق؛ ليُعرف الاعتدال فيُلزم، ويُعرف الإفراط فيُحذر.
ولا بد مع هذه الجملة التي ذكرناها — وإن دللنا فيها على المواضع التي يُرجع إليها — من أدنى كشف وبيان فنقول:
إن الناس لما اختلف نظرهم بحسب جزئهم: فناظر إلى الطبيعة، وناظر إلى العقل، وناظر فيهما معًا، اختلفت مقاصدهم وصارت أفعالهم تلقاء نظرهم.
وقد عُلِمَ أن الناظر في أحد جزأيه دون الآخر مخطئ؛ لأنه مركَّب منهما معًا، والناظر فيهما مصيب إذا قسط لكل واحد منهما قسطًا من نظره وجعل له نصيبًا من سعيه على قدر استحقاق كل واحد منهما وبحسب رتبته من الشرف والضعة.
أما الناظرون بحسب الجزء الطبيعي فإنهم انحطوا في جانب الطبيعة، وانصرفوا بجميع قوتهم إليها وجعلوا غايتهم القصوى عندها؛ ولذلك جعلوا العقل آلة في تحصيل أسبابها وحاجاتها، فاستعبدوا أشرف جزأيهم لأخسهما كمن يستخدم المَلِك لعبده.
وأما الناظرون بحسب الجزء العقلي فإنهم أغفلوا النظر في أحد جزأيهم الذي هو طبيعي لهم ونظروا نظرًا إلهيًّا فطمعوا — وهم ناس مركبون — أن ينفردوا بفضيلة العقل غير مشوب بنقص الطبيعة، فاضْطُرُّوا لأجل ذلك إلى إهمال الجسد وهو مقرون بهم، والضرورة تدعو إلى مُقِيماته من المصالح أو إلى إزاحة علته في حاجاته وهي كثيرة، فظلموا أنفسهم وظلموا أبناء جنسهم.
أما ظلمهم لأنفسهم فتركوا النظر لأحد قسميهم الذي به قِوَامهم حتى التمسوا مصالحها بتعب آخرين فظلموهم بترك المعاونة إياهم، والعدل يأمر بمعونة من يَسْتَرْفِد معونته، والتعب لمن يأخذ ثمرة تعبه.
وبهذه المعاونة تتم المدنية ويصلح معاش الإنسان الذي هو مدني بالطبع، وهؤلاء هم الذين تسمَّوا بالزهاد، وهم طبقات، وفي الفلاسفة منهم قوم، وفي أهل الأديان والمذاهب والأهواء منهم طوائف، وفي شريعتنا الإسلام منهم قوم وسَمَّوا أنفسهم بالصوفية، وقال منهم قوم بتحريم المكاسب.
وإذ قد بيَّنا غلط الناظر في أحد جزأيه دون الآخر، فلنذكر المذهب الصحيح الذي هو الناظر في الجزأين معًا وإعطاء كل واحد منهما قسطه طبيعة وعقلًا فنقول:
إن الإنسان كما ذكرناه هو مركَّب من هاتين القوتين لا قِوَام له إلا بهما، فيجب أن يكون سعيه نحو الطبيعي منهما والعقلي معًا.
أما السعي الطبيعي فغاية الإنسان فيه حفظ الصحة على بدنه والاعتدال على مزاج طبائعه؛ لتصدر الأفعال عنه تامة غير ناقصة، وذلك بالتماس المآكل والمشارب والنوم واليقظة والحركة والسكون، والاعتدال في جميع ذلك، إلى سائر ما يتصل بها من الملبس والمسكن الدافعين أذى القر والحر، والأشياء الضرورية للبدن، ولا يلتمس غاية سواها، أعني التلذذ والاستكثار من قدر الحاجة لطلب المباهاة واتباع النهمة والحرص وغيرهما من الأمراض التي تُوهم أن غاية الإنسان هي تلك.
وأما سعيه العقلي فغايته فيه أيضًا حفظ الصحة على النفس لأنها ذات قوى، ولها أمراض تزيد هذه القوى بعضها على بعض، وحفظ الاعتدال هو طبُّها، والاستكثار من معلوماتها هو قوتها وسبب بقائها السرمدي وسعادتها الأزلية.
وفي شرح كل واحد من هذه الفضائل طول، وهذا القدر من الإيماء كافٍ.
فليكن الإنسان ساعيًا نحو هذين الجزأين بما يُصلح كل واحد منهما، وليحفظ على نفسه الاعتدال فيهما من غير إفراط ولا تفريط؛ فإنه حينئذٍ كاملٌ فاضل لا يجد عليه أحدٌ مطعنًا إلا سفيهٌ لا يُكترَث له أو جاهلٌ لا يُعْبَأ به، وبالله التوفيق.