المسألة السابعة والخمسون

سألتُ بعض مشايخنا بمدينة السلام عن رجل اجتاز بطرف الجسر وقد اكتنفه الجلاوزة يسوقونه إلى السجن، فأبصر موسى وميضةً في طرف دكان مزين، فاختطفها كالبرق وأمرَّها على حُلْقُومه، فإذا هو يخور في دمائه قد فارق الروح وودَّع الحياة، فقلتُ: من قتل هذا الإنسان؟

فإذا قلنا: قتل نفسه؛ فالقاتل هو المقتول أم القاتل غير المقتول؛ فإن كان أحدهما غير الآخر فكيف تواصلا مع هذا الانفصال؟

وإن كان هذا ذاك فكيف تفاصلا مع هذا الاتصال؟

وإنما شيَّعت المسألة الأولى بهذا السؤال؛ لأنه ناحٍ نحوها وقافٍ أثرها.

الجواب

قال أبو علي مسكويه، رحمه الله:

كأن هذه المسألة مبنيةٌ على أن الإنسان شيءٌ واحدٌ لا كثرة فيه، والشبهة فيها من هذا الوجه تقوى، فإذا بان أن للإنسان قوًى كثيرة وهو مُرَكَّبٌ منها، وأنه يميل في وقت ما نحو قوة، وفي وقت آخر نحو غيرها، وأن أفعاله أيضًا بحسب ميله إلى إحدى القوى وغلبتها عليه — كما بيَّناه في المسألة التي قبل هذه — زال هذا الشك.

•••

فأما قوله: كيف تواصلا مع هذا الانفصال؟ فأقول:

إن السبب في ذلك أن الباري تعالى لما علم أن هذا المركَّب من نفس وجسد يحتاج إلى أشياء تُقِيمه من غذاء وغيره، وأنه لا قوام لحياته إلا بمادة، وكان لا يصل إلى تلك المادة إلا بحركة وسعي وكانت العائقات والمانعات عنها كثيرةً أعطاه قوةً يصل بها إلى حاجاته ويدفع بها أضدادها عن نفسه ليتم له البقاء.

ومن شأن هذه القوة أن تهيج وتثور في أوقات بأكثر مما ينبغي وفي أوقات تقصُر عما ينبغي.

وهاتان الحالتان لها رذيلتان: أما الأولى فيتبعها التهور، وأما الثانية فيتبعها الجبن.

وللإنسان — بقوة التمييز والعقل — أن يستعمل هذه القوة على ما ينبغي، وبالقدر الذي ينبغي، وعلى الشيء الذي ينبغي، فإذا حصل في هذه الرتبة فهو شجاعٌ وممدوحٌ وكما أراده الله تعالى منه على خلقه له.

•••

وقد بقي في المسألة موضع شك، وهو أن يقول قائلٌ: إن كان قاتلٌ نفسه إنما ظهر منه هذا الفعل بحسب القوة الغضبية فهو شجاعٌ، والشجاع محمود، ونحن نعلم أن هذا الفاعل بنفسه هذا الفعل مذمومٌ، فكيف حاله؟ وأين موضع الشجاعة الممدوح؟ فنقول:

لعمري إن هذا الفعل من أثر القوة الغضبية، ولكنه بحسب رذيلتها وتقصيرها عما ينبغي، لا بحسب الزيادة، ولا بحسب الاعتدال الذي سمَّيناه شجاعةً، وذلك أن المرء الذي يخاف أمرًا يقع فيه من فقر أو شدةٍ، ولا يَرْحُب ذرعًا به، ولا يستقبله بعزيمة قوية ومنة تامة جبانٌ ضعيفٌ، فيحمله هذا الجبن على أن يقول: أستريح من تحمُّل هذه المشقة التي ترِد عليَّ، وهذا هو النكول والضعف المُسمَّى جبنًا.

وقد ذكرنا أن قوة الغضب ربما كلَّت ونقصت عما ينبغي فتكون رذيلةً ومنقصةً، ولا تُسمَّى شجاعة، ولا يكون صاحبها محمودًا ولا ممدوحًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤