المسألة التاسعة والخمسون

ما معنى قول بعض العلماء: إن الله تعالى عمَّ الخلق بالصنع ولم يعمهم بالاصطناع؟

وما مبسوط هذا المعنى وكيف وَجْهُ تحصيله؟

وهل ترك الله تعالى شيئًا فيه صلاح الخلق فلم يَجُدْ به ابتداءً من غير طلب؟

كيف يكون هذا وقد بدأ بالنعم قبل الاستحقاق وخلق الخلق من غير حاجة إلى الخلق؟

فإن قيل: أبلى بالحاجة ثم منع من غير بُخْل، قيل: فلن ينبغي أن يجحد إحسانه فيما ظهر لحيرةٍ تقع فيما يُظَن، ولعل في غيب ما منع ما قد يقع، ولكنه مجهولٌ، وهو بتدبيره مليءٌ وعلى موجب الحكمة ماضٍ بغير مدافعةٍ ولا اعتراضٍ.

الجواب

قال أبو علي مسكويه، رحمه الله:

أما قول من قال: إن الله تعالى عمَّ بالصنع خلقه ولم يعمهم بالاصطناع، فكلامٌ قد ذُهِبَ به مذهب البلاغة ومعناه صحيحٌ، لولا التكلف الذي تجشَّمه صاحبه.

وهذا المعنى في قول المسيح — عليه السلام — أظهر، وذاك أنه رُوِيَ لنا ونُقِل من لغته إلى لغتنا أنه قال:

«لا تهتموا ولا تقولوا ما نأكل وما نشرب وما نلبس؟ فإن قدر الحاجة قد عمَّ به جميع الخلق وإنما يلتمسون الفضول فيها، واعلموا أن ليس كل من دعا إلى الله يرى وجه الله بل من أكمل رضوانه بالعمل الصالح.»

فهذا قول المسيح — عليه السلام — على ما نُقِلَ ورُوِي.

فأما تفسير هذا الكلام، وهو تبيين الكلام الأول الذي سألتَ عن معناه: فإن الصنع البيِّن الظاهر لجميع الخلق هو إعطاؤهم الحياة ثم إزاحة العلة فيما هو ضروريٌّ في بقائها، وذلك أن بقاءها بالحرارة الغريزية وبقاء الحرارة الغريزية بالترويح يُخرج من معدنها، الذي هي متعلقة به، الدخان الذي يحدث عن الحرارة والرطوبة الدهنية، وتبديل الهواء اليابس بذلك الدخان بهواء آخر رطب سليم موافق لمادة تلك الحرارة، وذلك بمنفاخ دائم العمل في شبيهٍ بِكِيرِ الحدَّادين، وهو الرئة وآلة النفَس في جميع ما له قلبٌ ومعدنٌ لهذه الحرارة، وما يجري مجراها في الحيوانات الأخرى التي لا قلب لها ولا حاجة بها إلى الترويح عن الحرارة الملتهبة في المادة الرطبة الدهنية، ثم إزاحة العلة في نفس الهواء الذي هو مادة تلك الحرارة، ثم في الرطوبة التي لولاها لفني مقدار ما في الجسم منها مع اغتذاء الحرارة بها، أعني الماء.

وهذه هي الأشياء الضرورية في الحياة التي لو فُقِدَ منها واحدٌ طرفة عين لبطلت الحياة.

وقد أُزيحت العلة فيها إزاحة بيِّنة كثيرة ظاهرة وعُمَّ بها جميع الحيوان.

فأما الأشياء التي تتبع هذه مما هي ضروريةٌ في طول بقاء الحي وفي حُسْن حاله من العُروق الضوارب وغير الضوارب، وآلات الغذاء، والقوى الجاذبة والمغيِّرة، والمُحِيلَة والمُمْسِكة والدافعة، والرئيسة من هذه القوى، والخادمة لها، وقيام الرئيسة — أبدًا — بسياسة الخوادم واستخدامها، وقيام الخوادم منها بالطاعة والخدمة الدائمة فأمر قد تبيَّن في صناعة الطب وظهر ظهورًا لا يحتاج معه إلى استئناف قول.

•••

ويبقى بعد ذلك تخيُّر الحي لقوت دون قوت مما ليس بضروري في بقائه، فقد أُعطي بحسب حاجته أيضًا قوةً يطيق بها التخير والتوصل إلى قدر حاجته.

وهذا كله معموم به جميع الخلق غير ممنوع من شيء منه.

•••

فأما الاصطناع فهو القرب من الباري جل اسمه، وليس يتم هذا إلا بسعي ورغبة وتوجُّه، وقد دل أيضًا تقدَّس اسمه إلى ذلك، وبقي أن يتحرك العبد إلى هذه الحال؛ فإنه لا يُمنع أيضًا من الاصطناع، بل الباب مفتوح والحجاب مرفوع، وإنما المرء يحجب نفسه، ويمتنع من التوجه والرغبة وقصد المنهاج والسبيل الذي دُلَّ عليه ورُغِّب فيه، بأن يتشاغل بفضول عيشه الذي هو مستغنٍ عنه بما هو حي، وبالميل إلى لذَّات الحس التي تعوقه عن مطلبه وغايته ومنتهى سعادته.

وهذا بحسب الموضع كافٍ فيما سألت عنه، والله الموفق.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤