المسألة الستون

ما سر النفس الشريفة في إيثار النظافة ومحبة الطهارة وتتبُّع الوضاءة؟
وعلى هذا فما وجه الخير في قوله : «البَذَاذَة من الإيمان»؟
وقال بعض النساك: القَشَف من الشرف، والترف من السَّرَف.
وسمعت صوفيًّا يقول: سرُّ الصوفي إذا صفا لم يحتمل الجفا.
ومطلق هذا يقتضي قيدًا، ولكن قال هذا وسكت.
وسمعت فيلسوفًا يقول: إذا صفا السر انتفى الشر.
وهذا وإن كان قولًا رشيقًا فإن السبب فيه متوارٍ والدليل عنه متراخٍ.

الجواب

قال أبو علي مسكويه، رحمه الله:

ينبغي أن نتكلم أولًا في سبب النظافة والدنس حتى نُبيِّن معنى كل واحد منهما ثم ننظر في نفور الإنسان عن الدنس وميله إلى الطهارة، فأقول:

إن العناصر الأربعة إذا لم تمتزج ضروب الامتزاجات المتغايرة لم ينفر الإنسان منها ولم يسمِّها دنسًا، وإنما يقع النفور من بعض المزاجات.

وإذا نظرنا في المزاجات وجدنا هذه الأربعة إذا اختلطت ضربًا من الاختلاط على مناسبة ما كانت معتدلة وحصل منها المزاج الإنساني، وهذا المزاج له غرضٌ ما، فكل ما لم يخرج عنه فهو إنسان بالصورة والمزاج، وإن انحرف عن هذا المزاج وخرج عنه لم يكن إنسانًا.

ولا بد أن يكون انحرافه وخروجه إلى واحد من هذه الأربعة أكثر؛ فإن كان مائلًا إلى جهة الحرارة وباقي العناصر مقاربةٌ للمزاج الإنساني أو باقيةٌ بحالها، نُظِرَ في مقدار خروجه إلى جهة الحرارة؛ فإن كان كثيرًا جدًّا كان سمًّا للإنسان قاتلًا له، وإن كان دون هذا كان ضارًّا له بحسب خروجه عن اعتداله في الحرارة، وهذا لا يُسمَّى دنسًا، وكذلك إن خرج في جهة اليبوسة والبرد؛ فإن هذه إن أفرطت وحصلت مضادة للمزاج المعتدل حتى تُبطله كانت سمومًا، وإن لم تُبطل ذلك المزاج فهي تضره وتغيِّره عن صورته، وسواءٌ كان هذا الخارج عن الاعتدال الإنساني نباتًا أو حيوانًا فإنه يعرض فيه ما ذكرنا.

فهذه حال مفردات العناصر إذا أفرطت مع اعتدال الباقيات.

فأما إذا خرج اثنان منها عن الاعتدال فإن خروجهما أيضًا يكون على ضروب وأنحاء، إلا أن الرطوبة — خاصة — إذا أفرطت في الزيادة، والحرارة إذا أفرطت في الزيادة، عرض من هذا المزاج حالٌ تُسمَّى «عفونة»، وهي عجز الحرارة عن تحليل الرطوبة فيحصل مخالفًا للمزاج المعتدل من هذا الوجه، فَيَتَكَرَّهه الإنسان ويأباه سواء أكان ذلك في حيوان أو جماد.

وهذا النفور والتكره على ضروب بحسب خروج المزاج المقابل له عن الاعتدال، وسأضرب لذلك مثلًا: وهو أن مزاج الإنسان لما كان مقاربًا لمزاج الفرس وكانت بينهما مناسبة حصل بينهما قبول من تلك الجهة، فإذا تباعد هذا المزاج حتى يكون منه الغبار والدود والجُعَل والذباب نفر منه الإنسان وتكرَّهه؛ وذلك أن هذه الأنواع من الحيوانات مكونةٌ من عفونات — كما وصفناه من زيادة الرطوبة ونقصان الحرارة — فبعدت من مزاج الإنسان، وكذلك حال فضول البدن، وذلك أن الطبيعة إذا استولت على الغذاء فتناولت منه القدر الملائم وميَّزته أيضًا وحصَّلته في أوعيته وشبَّهته أولًا أولًا بالبدن، ونفت ما ليس بملائم وميَّزته أيضًا وحصَّلته في أوعية أخرى، وهي آلات النفض؛ فإن ذلك المُمَيَّز الذي قد خرج عنه جميع ما فيه من الملاءمة يحصل على غاية البعد من المشابهة، وتعرض له غلبة الرطوبة ونقصان الحرارة فيعفن، فينفر عنه الإنسان ويكرهه ويحب الراحة منه، وهذا سبيل ما يرشَح من البدن من سائر الفضول؛ فإن جميعه ما نفاه الطبع وميَّزه، فهو لذلك غير ملائم، وما لم يكن ملائمًا كان متكرَّهًا، ويُسمَّى هذا النوع «دنسًا»، إلا أنه ما دام مستبطنًا وغير بارز من البدن فهو محتمل بالضرورة، فإذا برز عِفْناه حينئذٍ وتكرَّهناه وتقزَّرنا منه، وهذه الأشياء هي التي تُسمَّى دنسًا وقذرًا بالطبع.

وها هنا أشياء أُخَر ينفر منها الإنسان بالعادة ويألفها أيضًا بالعادة، وليس ما نحن فيه من هذه المسألة في شيء.

•••

فأما قول النبي عليه السلام: «البَذَاذَة من الإيمان»، فهو بعيدٌ من هذا النمط الذي كنا في ذكره؛ فإن من كان باذ الهيئة يكره الدنس ويحب النظافة، وليس يخالفك في شيء مما تؤْثِره من معنى الطهارة؛ فإن خالفك فليس من حيث بذاذة الهيئة، لكن كما يخالفك غيره ممن ليس بباذ الهيئة.

وكذلك حال التقشف الذي حكيت فيه كلامًا عن بعض الصوفية؛ فإن تلك المعاني هي موضوعات أُخَر ليست مما كنا فيه، والكلام فيها يتصل بمعاني العفة والقناعة والاقتصاد، وهي فضائل قد استُقصِي الكلام فيها في مواضع أُخَر.

فأما قول القائل: سر الصوفي إذا صفا لم يحتمل الجفا، وقول الآخر: إذا صفا السر انتفى الشر، فهو إيماء إلى مراتب النَّفس من المعارف ومنازل اليقين.

ولعمري إن من حصل له مرتبة في القرب من بارئه — جل اسمه وتعالى علوًّا كبيرًا — فقد انتفى منه الشر ولم يحتمل الجفاء.

وشرح هذا الكلام وبسطه طويل، وقد لاح مما ذكرناه ما فيه كفاية وبلاغ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤