المسألة الحادية والستون

آلْغِناء أفضل أم الضرب؟
والمغنِّي أفضل وأشرف أم الضارب؟

الجواب

قال أبو علي مسكويه، رحمه الله:

أما الموسيقى فإنه علم، وقد يقترن به عمل، وعامله يُسمَّى «موسيقارًا».

فأما علمه فهو أحد التعاليم الأربعة التي لا بد لمن يتفلسف أن يأخذ بحظ منه.

وأما عمله فليس من التعاليم، ولكنه تأدية نغم وإيقاعات متناسبة من شأنها أن تحرك النفس في آلة موافقة، وتلك الآلة إما أن تكون من البدن أو خارجة عن البدن.

فإن كانت من البدن فهي أعضاء طبيعية أُعدَّت لتكمل بها أمور أُخَر فاستُعمِلت في غيرها.

وإن كانت خارجة من الطبيعة فهي آلات صناعية أُعدَّت لتكمل بها تأدية النغم والإيقاع.

ومن شأن الآلات الطبيعية إذا هي استُعملت في غير ما أُعدَّت له أن تضطرب وتخرج عن أشكالها فتتبدَّل وتتغيَّر.

فإن كان غرض المتكلف ذلك فيها الوصول إلى خسائس الأمور ونقائصها كان قبيحًا مستهجنًا.

وإن كان غرضه منها إظهار أثر العلم للحس ليتبين النِّسب المؤلفة في النَّفس وإظهار الحكمة في ذلك كان جميلًا مستحسنًا، وإن كان لا بد فيه من الخروج عن العادة والإلف عند قوم، لكن غرض أهل زماننا من العمل هو إثارة الشهوات القبيحة وإعانة النفس البهيمية على النفس المميزة حتى تتناول لذَّاتها من غير تزيين العقل وترخيصه فيها.

وإذا كان قصده لذلك بآلات طبيعية فهو لا محالة يضم إليه كلامًا ملائمًا له، يؤلف منه تلك النغم في ذلك الإيقاع.

فإن كان — أيضًا — منظومًا نظمًا شعريًّا غزليًّا قد استعمل فيه خدع الشِّعر وتمويهاته تركَّب تحريكه للنفس، وكثُرت وجوهه، واشتدت الدواعي وقويت على ما ينقض العفة ويثير الشبق والشره؛ لأن الشعر وحده يفعل هذه الأفعال، وهذه أسباب شرور العالم، وسبب الشر شرٌّ؛ فلذلك يعافه العقل، وتحظره الشريعة، وتمنع منه السياسة.

فإذا كانت الآلة خارجة من البدن فأحسنها ما قل استعمال الأعضاء فيه وبقيت هيئة الإنسان ونصبته صحيحة غير مضطربة، وكان مع ذلك أكثر طاعة في إبراز علم التأليف، وأقدر على تمييز النغم، وأفصح على حقائق النغم المتشابهة لا إلى المتناسبة التي حصَّلها علم الموسيقى.

ولسنا نعرف أكمل في هذه الأسباب من الآلة المسمَّاة «عودًا»؛ لأن أوتارها الأربعة مركَّبة على الطبائع الأربع، ولدَسَاتِينِهَا المشدودة نسب موافقة لِما يُراد من تمييز النغم فيها، وليس يمكن أن توجد نغمة في العالم إلا وهي محكية منها ومُؤَدَّاة بها.

فأما ما يُحكى عن الأرغُن الرومي فلم نسمعه إلا خبرًا ولم نره إلا مصورًا، وقد عمل فيه الكِنْدِي وغيره كلامًا ما يخرج به إلى الفعل من القوة، ولو عُمِلت الآلة لاحتاجت من مهارة مستعملها ما يتعذر وجوده ويبعد، وكما أن العود لما خرج إلى الفعل احتيج إلى ماهر يضربه، ولم يكن لِيغني فيه العلم دون العمل والحذق فيه، فكذلك هذه الآلة لو خرجت إلى الفعل؛ فلذلك توقفنا عن الحكم لها بالشرف وقطعناه للعود.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤