المسألة الرابعة والستون
ما سر قولهم: الإنسان حريص على ما مُنِع؟
ولِمَ صار هذا هكذا؟
وكيف يُسرع المللُ مما بُذِل، ويُضاعِف الوَلوع بطلب ما بُخِل به؟
هلَّا كان الحرص في مقابلة ما وُجِد، والزهد في مقابلة ما مُنِع؟
ولهذا ما صار الرخيص مرغوبًا عنه، والغالي مرغوبًا فيه؛ ولهذا إذا ركب الأمير لا يُحرص على رؤيته كما يُحرص على رؤية الخليفة إذا برز.
الجواب
قال أبو علي مسكويه، رحمه الله:
إن النفس غنية بذاتها، مكتفية بنفسها، غير محتاجة إلى شيء خارج عنها.
وإنما عرَض لها الحاجة والفقر إلى ما هو خارج منها لمقارنتها الهيولى، وذلك أن أمر الهيولى بالضد من أمر النَّفس في الفقر والحاجة، والإنسان لما كان مركَّبًا منها عرَض له التشوُّف إلى تحصيل المعارف والقُنْيَات.
أما المعارف والعلوم فهو يُحصِّلها في شبيه بالخزانة له، يرجع إليه متى شاء ويستخرج منه ما أراد، أعني القوة الذاكرة التي تُستودَع الأمور التي تُستفاد من خارج، أعني من العلماء والكُتب، أو التي تُستثار بالفكر والروية من داخل.
وأما القُنْيَات والمحسوسات فإنه يروم منها ما يروم من تلك التي تقدَّم ذكرها، فلذلك يغلط فيها ويخطئ في الاستكثار منها إلى أن يتنبَّه بالحكمة على ما ينبغي أن يُقتَنَى من العلوم والمحسوسات، فيقصد نحو القصد من الأمرين جميعًا ويقف عنده.
•••
وإنما حرص على ما مُنِع؛ لأنه إنما يطلب ما ليس عنده ولا هو موجود له في خزانته، فيتحرك لاقتنائه وتحصيله بحسب ميله إلى أحد الأمرين، أعني المعقول أو المحسوس، فإذا حصَّله سكن من هذه الجهة وعلم أنه قد ادَّخره ومتى رجع إليه وجده، إن كان مما يبقى بالذات، وتَشَوَّف إلى جهة أخرى، ولا يزال كذلك إلى أن يعلم أن الجزئيات لا نهاية لها، وما ما لا نهاية له فلا طمع في تحصيله ولا فائدة في النِّزاع إليه ولا وجه لطلبه، سواءٌ كان في المعلوم أو في المحسوس.
وإنما ينبغي أن يقصد من المعلومات إلى الأنواع والذوات الدائمة السرمدية الموجودة أبدًا بحالة واحدة، ويكون ذلك برد الأشخاص التي بلا نهاية إلى الوحدة التي يمكن أن تتأحد بها النفس، ومن المحسوسات المقتناة إلى ضرورات البدن ومقيماته دون الاستكثار منها؛ فإن استيعاب جميعها غير ممكن لأنها أمور لا نهاية لها.
فإذن كل ما فضل عن الحاجة وقدْر الكفاية فهو مادة الأحزان والهموم والأمراض وضُرُوب المكاره.
والغلط في هذا الباب كثير، وسبب ذلك طمع الإنسان في الغنى من معدن الفقر؛ لأن الفقر هو الحاجة، والغنى هو الاستقلال، أعني ألا يحتاج بتةً؛ ولذلك قيل إن الله تعالى غني لأنه غير محتاج بتة.
فأما من كثُرت قُنْيَاته فإنه ستكثُر حاجاته بحسب كثرة قنياته، وعلى قدر منازعته إلى الاستكثار تكثُر وجوه فقره، وقد تبيَّن ذلك في شرائع الأنبياء وأخلاق الحكماء.
فأما الشيء الرخيص الموجود كثيرًا فإنما رُغِبَ عنه؛ لأنه معلوم أنه إذ التُمِسَ وُجِدَ، وأما الغالي فإنما يُقْدَر عليه في الأحيان ويصيبه الواحد بعد الواحد، فكل إنسان يتمنى أن يكون ذلك الواحد ليحصل له ما لم يحصل لغيره، وذلك من الإنسان على السبيل الذي شرحناه من أمره.